إثيوبيا تتنصّل مِن آخِر تعهّداتها وتُقرِّر المُضِي قُدمًا بمَلء خزّان سد النّهضة في غُضون أسبوع.. متى سيطفَح كيل الجيش المِصري؟ وما هي سِيناريوهات الرّد؟ ولماذا نُعيد التّذكير بأجواء حرب الاستِنزاف واقتِحام خطّ برليف في أكتوبر 1973؟
leroydeshotel
4 يوليو، 2020
تحقيقات وتقارير
45 زيارة
عبد الباري عطوان
لُجوء الدبلوماسيّة المِصريّة إلى مجلس الأمن الدولي لكيّ تشرح للعالم بأسْرِه مخاطِر تفاقم الخِلاف حول سدّ النّهضة النّاجم عن وجود نوايا إثيوبية بمَلء خزّاناته دون التوصّل إلى اتّفاق مع دولتيّ الممر (السودان) والمصب (مِصر) خطوةٌ لا تَعكِس ضعفًا، بقدر ما تَعكِس “حكمةً”، لأنّ الخِيار الآخَر هو الحرب التي ستعود بالدّمار على الدّول الثّلاث، وتُزعزِع استِقرار المِنطقة، وربّما العالم بأسْرِه.
علينا أن نتذكّر دائمًا أنّ مِصر خاضت أربع حُروب رئيسيّة في غضون 30 عاما في إطار الصّراع العربيّ الإسرائيليّ حِفاظًا على أمنها القومي، وخامسةً في اليمن لتأمين مصالحها في البحر الأحمر، وباب المندب، وصولًا إلى قناة السويس، أي أنّها لا تتهيّب خوض الحُروب إذا كانت هي الخِيار الأخير لتجنّب تجويع شعبها وتركيع قِيادتها بالتّالي، ولا ننسى أنّ جيش محمد علي باشا حارب الدولة العثمانيّة وغزَا سورية والحِجاز ونجد، وكاد يَصِل إلى إسطنبول.
القيادة الإثيوبيّة التي تُراوغ حاليًّا وتهرب مِن الحُلول السلميّة، وآخِرها الحل الأمريكيّ المدعوم من صندوق النقد الدولي، ترتكب الخطأ نفسه الذي ارتكبته حليفتها الإسرائيليّة بعد هزيمة حزيران عام 1967، عندما اعتقدت أنّ مِصر أضعف مِن اللّجوء إلى الحرب لاستِعادة حُقوقها المُغتَصبة، وأنّ جيشها لن تقوم له قائمة.
إثيوبيا تُريد فرض سِياسات الأمر الواقع على مِصر، بتحريضٍ إسرائيليٍّ، ومُباركةٍ أمريكيّةٍ إنجيليّةٍ، وذهبت إلى جميع جولات المُفاوضات كسبًا للوقت، وهذا ما يُفسِّر هُروبها في اللّحظات الأخيرة من اتّفاقٍ إفريقيٍّ تَجنُّبًا لتوقيع الاتّفاقات والالتِزام ببُنودها بالتّالي.
***
عندما تُعلن القِيادة الإثيوبيّة عن نيّتها ملء خزّان السّد خلال الأسبوعين المُقبلين (مضى الأسبوع الأوّل) ، وبعد قمّة افتراضيّة مُصغّرة رعاها رئيس جنوب إفريقيا بحُضور قادة الدول الثّلاث المعنيّة (السودان، مِصر، إثيوبيا)، تعهّدت خِلالها بعدم الإقدام على أيّ خطوة أحاديّة بمَلء الخزّان، إلا بعد التوصّل إلى اتّفاقٍ نهائيٍّ مُلزمٍ لجميع الأطراف، فهذا يُؤكِّد مُجدَّدًا نواياها السيّئة تُجاه 150 مِليون سوداني ومِصري وحُكومتهما واستِهتارها بالعالم بأسرِه.
السيّد آبي أحمد رئيس وزراء إثيوبيا يُمارس أبشَع أنواع الكَذِب على طريقة مُعلّمه وأبيه الرّوحي بنيامين نِتنياهو عندما يُؤكّد علانيّةً أنّ بلاده لن تتسبّب بإلحاق أيّ أضرار بمِصر والسودان، ثمّ يُضيف و”لكن” لديها واجبٌ وطنيٌّ بحِماية الشّعب الإثيوبي وتحقيق الرّفاهية له، ويَنقُض جميع مشاريع الاتّفاق بالتّالي.
الرفاهيّة للشّعب الإثيوبي “مشروعةٌ” ولكن لا يجب أن تكون على حِساب تجويع الملايين مِن السّودانيين والمِصريين، وتصعيد التوتّر في المِنطقة، وتهديدها بالحُروب وبَذر بُذور العداء بين العرب والأفارقة، فهذه جميعًا خُطوط حمراء يجب عليه أن يبتعد عنها أيّ قائد إثيوبي إذا كان يملك الرؤية السياسيّة الصّحيحة كقائد لدولةٍ تُعتَبر قوّةً إقليميّةً إفريقيّةً تملك إرثًا حضاريًّا تمتد جُذوره في عُمق التّاريخ، وتَحرِص على مصالح دُول الجِوار.
نُريد تذكير السيّد آبي أحمد بأنّه عندما يطفَح الكيل، ويتهدّد الأمن القومي المائي المِصري، فإنّ القِيادة المِصريّة لا تتهيّب مِن الخِيار العسكريّ، ويكفِي الإشارة إلى أن إعلانها بأنّ “سرت” خطٌّ أحمر قلَب كُل المُعادلات على الأرض الليبيّة، ودفَع الكثيرين لإعادة حِساباتهم، والتّراجع عن قرار اقتِحام المدينة ولو مُؤقّتًا
عِشنا فُصول حرب الاستِنزاف التي خاضها الجيش المِصري ببطولةٍ وتضحيات كُبرى في مُدن القناة وسيناء بعد هزيمة عام 1967، مثلما عشنا بحُكم دراستنا في أحد الجامِعات المِصريّة الأشهر التي سبَقت الاستعداد لحرب السادس من تشرين أوّل (أكتوبر) عام 1973، وهي أشهر تُذكّرنا بالأيّام الحاليّة بصُورةٍ أو بأُخرى، بحيث تزداد حملات السّخرية من الجيش المِصري وقُدراته العسكريّة، وعدم قُدرته على مُواجهة الجيش الإسرائيلي الذي لا يُهزَم، لنرى بأعيننا، وفي وضَح النّهار، هذا الجيش يقتحم الأسوار الترابيّة لقناة السويس ويخترقها، ويُدَمِّر خط بارليف ويُلحِق هزيمةً كُبرى بهذا الجيش الإسرائيلي، ويدفَع أمريكا لإقامة جسر جوّي لنقل الأسلحة لإنقاذ الدولة العبريّة من الفناء.
مُحاولات التّجويع للشّعب المِصري التي تُشكِّل إثيوبيا رأس حربتها تأتي كأحَد فُصول مُؤامرة كُبرى تشمل سورية ولبنان والعِراق وفِلسطين، تقف خلفها دولة الاحتِلال الإسرائيلي وإدارة الرئيس العُنصري الأرعن دونالد ترامب، وهي مُؤامرةٌ قد تُؤذي، وتَخلِق الأزمات، ولكنّها لن تُؤدِّي إلى تركيع هذه الأمّة العظيمة.
***
ها هو مصطلح الأمن القومي العربي ينهض من وسط الرّكام، وها هي العُلاقة الاستراتيجيّة السودانيّة المِصريّة تعود قويّةً، بعد فتنة إثيوبيّة إسرائيليّة جرى إحباطها، وها هي حالة من الوعي تُزيل الغشاوة عن أعيُن العديد مِن الحُكومات والأنظمة العربيّة، تُجاه مِصر الدولة والشّعب والقضيّة، والأيّام المُقبلة حُبلَى بالمُفاجآت.
ربّما يتّهمنا البعض بالإغراق في التّفاؤل، وتجاهل العديد ممّا يرونه نواقص في السّياسات والمواقف المِصريّة الرسميّة، ونحن لا نُنكرها، بل كنّا، وما زلنا، وسنظل من أبرز المُنتقدين لها مِثل الآلاف من أبناء مِصر أنفسهم، ولكنّنا نعرف تاريخ مِصر، وفُسيفساء شخصيّتها العظيمة، ورحم الله الرئيس الفِلسطيني ياسر عرفات الذي كان يُذكّرني دائمًا كلّما اشتدّ غضبنا “لأمرٍ ما” بقوله “متنساس دي مَصر يا عباري”.
نعم مِصر كالجمل.. قد تتعب.. قد تُهادن.. وتترفّع عن الصّغائر.. ولكنّها عندما تغضب تُطيح بكُل شيء يَقِف في وجهها.. والأيّام بيننا.