أيمكن لبرلين “عرابة الاتفاق النووي الإيراني” ان تعرض علاقتها مع ايران فعلا للخطر عبر حظرها “حزب الله”، يبدو التساؤل اليوم حديث الساعة، في حين ان الواقع يقول ان الدبلوماسيتين الألمانية والإيرانية “أعقل وأكثر براغماتية” من ذلك.
مراجعة بسيطة لما حصل بين برلين وواشنطن من جهة وبرلين وطهران من جهة ثانية خلال ازمة فايروس كورونا فقط، قد تسهل فهم أن برلين (ولربما بتمهيدات مسبقة لطهران) قررت أن “حزب الله” كبش فداء ميزان العلاقة مع العاصمتين اللدودتين.
خلال الأزمة الأخيرة برلين تحدّت منفردة تارة وضمن الاتحاد الأوروبي تارة أخرى العقوبات الامريكية على طهران، ففعلت الية انستكس للمقايضة التجارية والتي سهّلت ارسال معدات طبية ومساعدات وفق نظام المقاصّة، ما اشعل الاعلام الأمريكي القريب من الجمهوريين غضبا ضد العاصمة الألمانية.
وبدأ الضخ الإعلامي حول ضرورة التزام برلين بالعقوبات وحول البنوك الإيرانية العاملة في برلين حتى اللحظة، إضافة الى ذلك، فقد توترت علاقة برلين بالضرورة بواشنطن اثناء ازمة كورونا، تارة لعدم استجابتها مع الأوروبيين لتوريد المعدات الطبية لواشنطن، كما ان العلاقات باتت معقدة مع محاولات أمريكية لاحتكار عقار مضاد للفايروس تطوره برلين.
العلاقة عمليا مع واشنطن لم تكن “سمن وعسل” فواشنطن وخلال السنتين الماضيتين لديها أربعة طلبات محددة على الأقل من برلين لاستعادة العلاقات التحالفية منذ وصل الرئيس دونالد ترامب لسدة الحكم، وهنا المطالب:
ـ أولا: وقف التعامل مع الصين في اطار شبكة 5 جي وتحديدا مع شركة هواوي، وهنا معارك ضارية كانت حتى بداية العام وقاومت برلين ضغوطات واشنطن بشدة فيها.
ـ ثانيا: وقف استيراد الغاز الروسي عبر خط نوردستريم 2، وهذا أيضا ما ترفضه برلين بصورة شرسة باعتباره مصدر استراتيجي للطاقة.
ـ ثالثا: زيادة الانفاق الدفاعي باكرا ضمن حلف شمال الأطلسي وهنا أيضا برلين كانت طوال الوقت تتحدث عن ميزان الانفاق لديها والذي تفضّل ان يميل لصالح الخدمات والتنمية اكثر من الأسلحة (وثبتت صحة تقديرات برلين في تعاملها مع ازمة كورونا الأخيرة بينما ظهرت مفاصل ضعف واشنطن).
ـ رابعا: كان طلب حظر حزب الله تماما، والذي كانت المانيا ترفض ان تقدم عليه لعدة أسباب أهمها انه مكوّن لبناني سيصعب تجاهله بالتعامل مع المكونات اللبنانية، الى جانب كونها كانت طوال الوقت تعتبر عدم حظره جزءا من امتداد دورها بالحفاظ على علاقات طيبة تسهل لاحقا إيجاد وساطة في أي ازمة بين الحزب والإسرائيليين كما حصل بعد حرب 2006.
الضغوطات ازدادت، والمطالب داخل المانيا من اللوبي اليهودي كانت هائلة، ورغم ان رواية تزويد الموساد الإسرائيلي لبرلين بمعلومات حول “عمليات للحزب على الأراضي الألمانية” لا تزال تصدر عن مصادر إسرائيلية الا انها غير مستبعدة بكل الأحوال، ليس فقط لان اللوبي الإسرائيلي يضغط أيضا في برلين، وانما لان الداخل الألماني أيضا فيه العديد من التبدلات خلال السنتين الأخيرتين حيث تحتاج الحكومة الألمانية لتقديم بعض “اكباش الفداء”، حيث حزب البديل لاجل المانيا اليميني الشعبوي يطالب بحظر الحزب، ماتلاه قرار برلماني بذلك، بالإضافة لكون وزير الداخلية نفسه هورست زيهوفر اميل للتشدد فيما يتعلق بالجماعات والمؤسسات الناشطة في المانيا، وهنا جدلية “الإسلام في المانيا” قد يكون لها نصيب أيضا.
في العامين الأخيرين نشط حراك الماني داخلي مشكك في عمل عدد من الجمعيات والمؤسسات الإسلامية، وهنا كانت في معظمها سنية تابعة لدول الخليج وتحديدا السعودية، أو لتركيا، الامر الذي أدى في النهاية لوقف الرياض لتمويلها المساجد في المانيا بينما تستمر تركيا في ذلك، ما احرج المانيا عمليا مع الجمعيات المتعلقة بالإسلام الشيعي وحزب الله احد هؤلاء.
الى جانب ذلك، وبعد اعتداءات في المانيا يبدو ذات خلفيات متعصبة يمينية تعرض فيها كنيس يهودي للاستنزاف بات لابد على برلين اتخاذ اجراء حاسم لصالح اليهود، والذين تدعمهم إسرائيل وهو ما يفسر تصريحات وزير الداخلية الألماني عن كون حزب الله يحمل شعارات ضد إسرائيل ويشكك بوجودها.
بالإضافة لذلك يأتي الحظر في التوقيت الحالي خادما لوقف المظاهرات التي كان يتم الاستعداد لها منتصف أيار الحالي في يوم القدس والتي يمكنها ان تحمل جانبا من عبارات ترهق سياسة برلين التي لا تزال مثقلة بعبء تبعات الهولوكوست بكل الأحوال. إلى جانب بدء تيارات مآزرة للقانون الدولي بتصعيد اللهجة ضد إسرائيل بسبب محاولاتها ضم الضفة الغربية، وحظر حزب الله سيساعد برلين بان يكون موقفها اقوى في رفض الخطوة الإسرائيلية دون أي تشكيك بموقفها.
كل ما سبق لا يشرح تماما كيف قد تتضرر العلاقة مع طهران من الخطوة، ببساطة لان الجواب ان ذلك لن يحصل، حيث البيان الصادر من ايران يبدو أوضح من ان يتم تأويله، حيث نأت ايران بنفسها عن الحزب مستنكرة حظره ومعتبرة ان ذلك سيضر بلبنان وليس بها، هنا تماما يمكن قراءة ما اعتبره الكاتب البريطاني الاسدير لان في مجلة فوربس على هامش تحليله ان المانيا قررت تقديم الحزب كضحية لميزان علاقاتها مع ايران وواشنطن، وهو ما فهمته ايران البراغماتية وتغاضت عنه.
بهذا المعنى يصبح سؤال “تضرر علاقات برلين مع ايران” على الاغلب ليس فقط “غير واقعي” ولكن الاغلب ان العلاقات قد تشهد دفعة الى الامام خلال الأيام اللاحقة.
هنا ترجح هذه الرواية بمراحل على تلك التي تقول ان المانيا بدأت تقديم التنازلات لواشنطن، وان حزب الله وحظره سيكون مقدمة لتصفيات تتعلق بشركة هواوي ونوردستريم والانفاق الدفاعي.
اما حزب الله والذي شكلت لمنتمين له المانيا طوال سنوات ملاذا امنا، يبدو انه اليوم امام أيام عصيبة في أوروبا فالضغوطات تشتد على بروكسل، ولعل برلين عن قصد او دونه، ازالت عن كاهلها عبء الدفاع عن الحزب بجناحه السياسي، لتحمله باريس والتي بدأ الضغط عليها من جانب الأمريكيين بصورة شديدة منذ اليوم التالي لقرار برلين.
مع العاصمة الفرنسية المشهد اعقد، حيث لا يزال الايليزيه يرى نفسه دولة “راعية” للبنان الذي حزب الله جزء أساسي وقوي من سياسته ومكوناته الاجتماعية، وهنا متابعة المشهد الفرنسي تحتمل المزيد من الاثارة فالأيام المقبلة قد تكون حبلى بالمفاجآت.