الميادين :
تسعى شركة “واتسآب” منذ العام الماضي (عبر مالكتها شركة فايسبوك) إلى مقاضاة شركة NSO “مجموعة المراقبة المتنقلة” الإسرائيلية، على خلفية تجسّس الأخيرة على مستخدمي التطبيق، بعد ثبوت العملية تقنياً باستخدام برنامج Pegasus.
هذا البرنامج يمكّن الشركة الإسرائيلية من رصد الموقع الجغرافي والتنصت وتسجيل المحادثات الجارية وتصوير المحيطين بحامل الهاتف بسرية مطلقة.
حتى الآن، تتنصّل الشركة الإسرائيلية من القضية، بحجتين أساسيتين:
الأولى، أنها تعمل لصالح أجهزة حكومية إسرائيلية، ويتم تسخير برمجياتها “لمكافحة الإرهاب وإنقاذ الأرواح”، بحسب زعمها. وبالتالي، لا تجد الشركة أنها مجبرة على التصريح بنشاطاتها التي شملت بيع التطبيقات للسعودية، والتي ساعدت في تعقب تحركات الصحافي المعارض جمال خاشقجي قبل قتله وتقطيع جثته في قنصلية بلاده في إسطنبول، أو تلك التي استخدمها ولي العهد السعودي محمد بن سلمان في اختراق بيانات جيف بيزوس، صاحب شركة “أمازون”، والتي ساهمت في خراب علاقته بزوجته وخسارته جزءاً من ثروته نتيجة الطلاق.
الحجة الثانية التي تستخدمها شركة NSO للهروب من الملاحقة القانونية، هو اعتمادها مبدأ kill switch التقني. وبموجبه، تتعطّل برمجيات تطبيقات الشركة لمجرد أن تتعرف إلى وجود الجهاز في النطاق الجغرافي الأميركي، وبالتالي هي لا تعمل ضد الأميركيين، وهي بذلك، تقر بشكل غير مباشر، أن “باقي البشر دون المستوى المطلوب لحماية بياناتهم الشخصية”.
هذا الأمر يجعل من المتعذر على شركة أميركية مقاضاة الشركة الإسرائيلية. وبهذا تكون المقاضاة الغيابية أو إقرار العقوبات أكثر ما يُمكن فعله، الأمر الذي لن يحصل طبعاً.
ماذا استجدّ؟
في الأسابيع القليلة الماضية، تمكّن متخصّصو شركة “فايسبوك” من تتبع التفاصيل التقنية التي اعتمدت الشركة الإسرائيلية عليها لشن هجماتها، وتأكد استخدام NSO مجموعة من المواقع والخوادم الأميركية، وبالتالي استغلال البنية التحتية الأميركية، وكذلك التعرض لمواطنين أميركيين في عمليات الاختراق.
في ظل المعطيات الجديدة، وإضافةً إلى بيع خدماتها لحكومات وظفت البرامج ضد شعوبها، ومن دون علمهم، وتزويدها ببرامج قرصنة إلكترونية متقدمة، أصبحت الشركة في موقف ضعيف، وسقطت الذرائع التي كانت تستتر خلفها.
قد تبدو القضية محقة ومطلبية، رغم تفاوت أسباب مناصرتها من قبل الناشطين والمتابعين، فالبعض يعتبر انتهاك حقوق الأفراد وسرقة بياناتهم أمراً خطيراً ومرفوضاً، أياً تكن الجهة التي تقف وراء هذا الفعل ومبرراته، ويطالب بمحاسبة من يقوم به، والبعض الآخر يستاء من فكرة وجود مثل هذه الشركات (وهي عديدة)، والتي تحوّل الناس إلى حقول تجارب، كما فعلت NSO بالفلسطينيين، إذ تقوم هذه الشركات بتطوير أدواتها التقنية، من خلال العمل مع قوات الاحتلال في قمع شعب مظلوم.
الشركة الإسرائيلية تنصَّتت على 1400 شخص، وفق ما تم كشفه حتى اللحظة، والأمر فيه انتهاك مقصود وممنهج لخصوصية الأفراد، وهو يندرج في إطار الجرائم المعلوماتية، ولكن العدد قليل بالمقارنة مع ما يحصل في “فايسبوك”.
تريد “فايسبوك” مقاضاة الشركة الإسرائيلية، ولكن المفارقة أنها هي أيضاً تتنصّت على 1.7 مليار مستخدم. وفي الغالب، أنت واحد منهم.
ماذا يعني كل هذا؟
باختصار ووضوح: “إسرائيل”، من خلال بعض شركات الذكاء الاصطناعي تتجسّس على “فايسبوك”، بينما تتجسس “فايسبوك” من خلال تطبيقاتها على العالم.
المفارقة أن مؤسس “مجموعة المراقبة المتنقلة” NSO الإسرائيلية قدم معلومات تكشف استياء “فايسبوك” في الأساس، لأنها أرادت استخدام تقنيات التجسس بنفسها، ولأغراض خاصة، وهو يشير إلى أنه قدم مستندات لإثبات الموضوع لدى المحكمة.
عموماً، لسنا بحاجة إلى معطيات مثل هذه لمعرفة أهداف منصة التواصل الأولى في العالم، ويكفي الالتفات إلى ما قامت به الشركة الأخيرة في عدة مناسبات سابقة، فخدمات تحديد الموقع الجغرافي كافية وحدها لتفضح ما تفعله “فايسبوك” من نشاطات تصنّف ضمن خانة التعقب والملاحقة.
لا نعرف كل تفاصيل العمليات التي تنفّذها الشركة، ولكننا نعلم أن “فايسبوك” تستخدم بيانات موقع المستخدم السابقة، بالاقتران مع بيانات الموقع السابقة للأشخاص الذين يعرفهم، للتنبؤ بالوجهة المستقبلية للأفراد.
نعلم أيضاً أنها تحتفظ بـ”ملفات الظل الشخصية”، والتي تتكون من معلومات لم يقدمها المستخدمون (أو غير المستخدمين) بشكل نشط، ولكن يمكن ربطها بهم بسهولة (عنوان بريدك الإلكتروني للعمل، وبطاقات الائتمان، ومعارفك المحتملون).
يمكن أيضاً معرفة ما إذا كان شخصان يعرفان بعضهما البعض، من خلال النظر إلى البيانات الوصفية للصور التي تم تحميلها في إطار زمني وبقعة جغرافية محددين، ما عدا أيضاً قدرة “فايسبوك” على ملاحقة المشاركين وتعقّب خطواتهم واهتماماتهم حتى خارج التطبيق باستخدام “البكسل”.
الخلاصة أنّ بعض الشركات قد تتجسَس علينا من خلال أجهزة الميكروفون. وعلى الرغم من خطورة الموضوع، فإن هذا الأمر ليس أخطر ما يمكن التفكير فيه. تتيح الكميات الهائلة من المعلومات التي تدعمها خوارزميات الذكاء الاصطناعي للعمالقة، مثل “فايسبوك”، القدرة على معرفة ما قد نهتم به بشكل فعال قبل أن نفعله، وهنا فعلاً الخطورة.
فايسبوك لديها تاريخ واضح للتنازل عن الأخلاقيات من أجل تحقيق عائد مستمر من الإعلانات. واليوم، لا يمكننا سوى أن نجعل عمليات التنبؤ أصعب على هذه الشركات، عبر منع التطبيقات من جمع المزيد من التفاصيل. مثلاً، يمكننا إيقاف أذونات الميكروفون، ومحاولة عدم تحميل تطبيقات غريبة من دون التحقق من سياسات الخصوصية الخاصة بها بعناية، وتشغيل بعض ملحقات المتصفح التي تحظر Pixel Facebook أو ملفات تعريف الارتباط الأخرى للتتبّع.