تونس- “القدس العربي” :
قال البروفيسور في علم الاجتماع، طلال المصطفى، إن المجتمعات الأوروبية تعيش حاليا سلوكيات مشابهة لبعض دول العالم الثالث، مشيرا إلى أن الهلع الذي تعيشه حاليا يتجاوز ما كان عليه الأمر خلال الحربين العالميتين الأولى والثانية.
وقال المصطفى، المقيم حاليا في فرنسا، في حوار خاص مع “القدس العربي”: “الأوروبيون عايشوا العديد من الحروب وخاصة الحربين العالميتين الأولى والثانية، ولكن لم يصل الهلع في تلك الحروب إلى ما وصل إليه الآن. ففي هذه الحروب كان المدنيون بمنأى- نسبيا- عن الخطر، حيث كانت صافرات الإنذار تدوي طيلة الغارات الجوية التي لم تكن تتجاوز بضعة دقائق، وعادة ما كان المواطنون ينزلون للملاجئ ويكونون في مأمن”.
وأضاف: “لكن في حالة فيروس كورونا، الخطر يُهدّد الجميع (كبار السن والشباب والنساء والأطفال)، فهم يجدون أنفسهم، فجأة، أمام سلوكيات اجتماعية جديدة، يمكن حصرها عموما بثلاثة مجالات، المنحى الأول هو الاحتماء بالمنزل (الحجر الصحي) لمدة طويلة، فبعض الحكومات فرضت حجرا صحيا لأسبوعين وبعضها مدده لعدة أشهر. وهناك التزام الآن من جميع الأفراد للمكوث في المنازل باعتبارها آمنة لحمايتهم من العدوى بالفيروس، بالإضافة إلى تطبيق معايير العزل الذاتي إذا تم تسجيل أعراض للفيروس”.
وتابع المصطفى بقوله: “المنحى الثاني هو التباعد الاجتماعي، من خلال منع التجمعات بكافة أشكالها، سواء في أماكن العمل أو الأماكن العامة أو وسائل النقل، فضلا عن إغلاق المدارس والجامعات والمقاهي وغيرها، بمعنى أن كافة أشكال التواصل الاجتماعي البدني أو الفيزيائي ممنوعة. حتى داخل المستشفيات أو مراكز التسوق هناك تباعد بين كل شخصين (الأمان الصحي) لحوالي متر ونص وسطيا”.
وهناك إجراءات عقابية لمن لا يمارس هذه السلوكيات الاجتماعية الجديدة، قد تصل إلى 150 يورو، وأحيانا هناك عقوبات أكثر. وفي فرنسا مثلا صادق البرلمان على قانون الطوارئ الصحي لمدة شهرين لمواجهة فيروس كورونا، وسوف يقيد هذا القانون الحريات العامة في البلاد، وهناك قانون مشابه في بريطانيا وبلدان أوروبية أخرى، وهذه القوانين ستفرض سلوكيات جديدة لم يعد عليها الأوروبيون.
من جانب آخر، يشير مصطفى إلى أن أزمة كورونا فرضت أنماطا جديدة من السلوك في أوروبا، موجودة أساسا في بعض الدول العربية وبلدان العالم الثالث عموما، وخاصة ظاهرة اللاعقلانية، “فمن المتعارف عليه لدى المواطنين الأوروبيين هو وجود عقلانية في السلوك والحياة اليومية. لكن ما لوحظ أثناء الدعوة إلى الحجر الصحي في المنزل لمدة 15 يوما، هو انتشار “العقلانية الهشة” وتحكّمها بسلوكيات المواطن الفرنسي والأوروبي عموما، وتجلى ذلك بالخوف والقلق والارتياب، والقيام بسلوكيات متناقضة وغير متعارف عليها سابقا كشراء أكبر كمية من المواد الغذائية والمبالغة في تخزين سلع غير ضرورية، خوفا من اختفائها من الأسواق. هذه السلوكيات التي تستند إلى الخوف والمشاعر والانفعال وليس إلى المنطق والعقلانية، كنا نعيشها في عدد من الدول العربية وبلدان العالم الثالث عموم، ولكنها باتت منتشرة الآن في المجتمعات الأوروبية في ظل أزمة كورونا”.
الوباء عزز اللاعقلانية والخوف والعزلة والتباعد الاجتماعي ووجدنا أنفسنا فجأة أمام سلوكيات جديدة لم يعتد عليها المواطن الأوروبي
لكن بالرغم من ذلك، فإن المصطفى يرى أن الشعوب الأوروبية تعاملت بوعي أكثر في التعامل مع وباء كورونا، قياسا ببلدان العالم الثالث، حيث لوحظ “الالتزام الصارم بالإرشادات والنصائح المقدمة من قبل المختصين في الصحة والأمراض في أوروبا، بينما لوحظ وجود ردة فعل غير واعية وغوغائية غيبية، اجتاحت بعض المدن الإيرانية والعراقية، على سبيل المثال، حيث الأماكن المقدسة الشيعية وأسماء الأئمة المقدسة التي لا يمسّها فيروس كورونا، وكذلك في الهند، ظهرت سلوكيات مرتبطة بالمعتقدات الشعبية، مثل شرب بول البقر، باعتباره وصفة شعبية ترتبط بمعتقدات دينية تشير إلى أنه يقي من فيروس كورونا، لأن كثيراً من الهندوس يرون الأبقار مقدسة، ويؤمن بعضهم بأن لبولها خصائص علاجية”.
إضافة إلى ذلك، انتشرت موجة من الشائعات، أطلقها البعض وانجرف خلفها الملايين، من خلال وسائل التواصل الاجتماعي وخاصة “فيسبوك”، وتبين أن بعض الناس على استعداد لتلقي أي شائعة لتفسير ما يحدث حوله. وتعد هذه الفترات بيئةً خصبةً لصعود نظرية المؤامرة، ليس فقط بين الشعوب، بل أيضاً بين الدول. ولعل الاتهامات المتبادلة بين الصين والولايات المتحدة الأمريكية، بالوقوف وراء هذا الفيروس، دليلٌ على ذلك.
ويفسّر المصطفى لجوء البعض إلى السلوكيات الغيبية في التعامل مع فيروس كورونا، بقوله “ثمة ممارسة مزدوجة للسلوك الإنساني، حيث يُغلّف هذا السلوك المرضي بشيء من العقلانية، تُخفي اتجاهات وتحيزات غير عقلانية، وخاصة في كارثة فيروس كورونا، حيث يستعيد الفرد نمطاً أشبه بالحياة البدائية غير المتحضرة التي تحركها المشاعر والاحتياجات البدائية حتى تسيطر على الفرد تماماً. حيث يواجه الفرد عبئاً أثقل من أعباء الأمراض السابقة حتى القاتلة (الإيدز، السرطان)، مرتبطا بحالة من المجهول؛ لأن الإصابة بفيروس كورونا لا ترتبط بالمصابين فقط، بل تشمل أفراد المجتمع كافة، وعلى درجات مختلفة إلى حد ما، فهي مرتبطة بسرعة انتشار المرض، وبعدم توقع زمن العلاج منه”.
ويضيف: “كلما طالت مدة تفشي فيروس كورونا، زاد الضغط على الفرد، حيث حداثة الفيروس ذاته لا تسمح بتوفر المعلومات الكافية، التي من شأنها بث الطمأنينة، بل إن المعلومات المتوفرة عنه تُعزز المخاوف أكثر بين الأفراد. وقد يرتبط بذلك عامل ثقة الأفراد بمؤسسات دولهم المختصة، فكلما كان لدى الأفراد درجة ثقة عالية بمؤسسات الدولة وخدماتها؛ كانت هناك قدرة على الاحتواء، وتقليل حدة القلق العام وتحجيمه، قبل التحوّل إلى سلوكيات غير منطقية بدافع الخوف. وهذا ما تفتقده معظم أفراد المجتمعات المتخلفة”.
وحتى ظهر الإثنين، تجاوز عدد مصابي كورونا حول العالم 740 ألفا، توفي منهم أكثر من 35 ألفا، في حين تعافى من المرض ما يزيد على 156 ألفا. وتحتل الولايات المتحدة المركز الأول بعدد الإصابات، التي تجاوزت 142 ألفا، فيما تحتل إيطاليا المركز الأول بعدد الوفيات الذي بلغ حوالي 11 ألفا.