“عربي21” تنشر ترجمة ملخص كتاب عن ابن سلمان والسلطة (1)
تنشر صحيفة “نيويورك تايمز” الأمريكية مقتطفات لأهم ما جاء في كتاب “إم بي إس: صعود محمد بن سلمان إلى السلطة”، والذي ألفه بن هوبارد مدير مكتب الصحيفة في بيروت، ونشره قبل أسابيع.
وتنفرد “عربي21” بنشر ترجمة كاملة لهذه المقتطفات في عدة حلقات، بحيث تنشر حلقة يوميا.
وأثار الكتاب ضجة كبيرة عند نشره، نظرا لأهمية الكتاب، ولاحتوائه على معلومات مثيرة عن صعود ولي العهد السعودي محمد بن سلمان من الظل إلى السلطة.
وفي ما يأتي الحلقة الأولى من هذه المقتطفات كما تقدمها “عربي21”:
الحلقة الأولى
محمد بن سلمان: صعود أمير سعودي
محمد بن سلمان هو الابن السادس للابن الخامس والعشرين لملك – باختصار كان في الأغلب سيطويه النسيان، ولكن الأمور لم تمض بهذا الشكل.
مقدمة: المشهور
عندما حان موعد كلام الأمير الشاب، الذي بات يدير أغنى بلد في العالم العربي، كانت القاعة الفخمة قد اكتظت تماماً بجمهرة كبيرة من المستثمرين الدوليين ورجال الأعمال وأصحاب الملايين وأصحاب المليارات الواقفين تحت ثريا الكريستال الهائلة التي تتدلى من سقف القاعة.
كان ذلك في خريف 2017، وقد جاء الجميع إلى الرياض، عاصمة المملكة العربية السعودية، لحضور مؤتمر فخم للاستثمار أطلق عليه بشكل غير رسمي “دافوس الصحراء” لإضفاء نفس اللمسة من الحصرية عليه وإعطاء الانطباع بأنه يأتي استمراراً لذلك الملتقى السنوي الذي يجمع أصحاب النفوذ من مختلف أرجاء العالم في جبال الألب السويسرية. إلا أن هذا المؤتمر كان له هدف مختلف، ألا وهو إقناع رجال المال المجتمعين هنا بأنه حان الوقت للمراهنة بقوة على المملكة العربية السعودية.
وكانت المملكة قد عملت بجد على مدى الأيام السابقة لإقناع آلاف الضيوف بأن أي انطباعات سلبية كانت لديهم حول المملكة العربية السعودية لم تكن صحيحة، أو كانت على الأقل في طريقها لأن تصبح غير صحيحة. فقد كان البلد يتغير، كما قيل لهم، وينفتح ويتخلص من ماضيه كمملكة إسلامية محافظة جداً وشديدة الانغلاق.
طالما اشتهرت المملكة العربية السعودية بشيئين اثنين: النفط والإسلام. أما الأول فيشكل بحيرة تقبع تحت رمال المملكة، وكان له الفضل في تحويل العائلة الملكية، آل سعود، إلى واحدة من أغنى السلالات في العالم، وفي منح البلد الذي يحمل اسم العائلة أهمية جيوسياسية ما كانت لتتحقق له بدون النفط. لقد شكلت الثروة النفطية الاقتصاد السعودي، وأغدقت على طبقة النخبة من الأمراء ورجال الأعمال ثراء عظيماً بينما بقي أغلب المواطنين داخل بيوتهم أو تقاضوا رواتب من وظائف حكومية دخلها جيد ولا تتطلب إلا القليل من الجهد.
أما الإسلام الرسمي في المملكة فلم يكن أي إسلام، وإنما الوهابية، ذلك التفسير المحافظ وغير المتساهل، والمنسوج ضمن تاريخ المملكة، والذي لقن أتباعه بأن عليهم أن يحذروا من غير المسلمين “الكفار”، والذي كان يحكم بقطع رؤوس القتلة وتجار المخدرات في الميادين العامة، وكان يحرم النساء من حقوقهن الأساسية. كانت المملكة أكثر تشدداً من معظم المجتمعات الإسلامية الأخرى، إلا أن وضعها كراع للأماكن الإسلامية الأقدس على الإطلاق، في مكة والمدينة، منحها نفوذاً لا مثيل له بين مسلمي العالم الذين يصل تعدادهم إلى 1.8 مليار نسمة تقريباً.
كان زعماء السعودية يعلمون بأن سمعة مملكتهم ليست على ما يرام، ولذلك نظم المؤتمر وخطط له بعناية حتى يواجه ما كان لدى الحضور من انطباعات سلبية حول البلد. قدمت للضيوف في ولائم عشاء دعاهم إليها الأمراء والمسؤولون لحوم الغنم المشوية وحلويات قشر الشوكولاتة داخل بيوت فارهة تحتوي على برك سباحة ومعارض فنية وخزائن مخفية للمشروبات الروحية. كان ظهور النساء بارزاً خلال البرنامج وكن يختلطن بحرية مع الرجال داخل مقهى فندق ريتز كارلتون دون أن تفرض عليهن قيود تجبرهن على تغطية شعورهن كما هو الحال في الأماكن الأخرى.
قدمت للمستثمرين عروض ناعمة لمراودتهم على الاستثمار في مبادرات كبيرة، وقيل لهم إن المملكة العربية السعودية ستصبح مركزاً عالمياً للشحن والنقل، وسوف تنتشر فيها مرافق الترفيه عن مواطنيها الذين يبلغ تعدادهم 22 مليون نسمة، بما في ذلك مدن الملاهي والسينمات والأماكن المخصصة لتنظيم الحفلات الموسيقية، وكل ذلك كان من قبل محظوراً لأسباب دينية. كما ستزدهر السياحة بفضل مشروع لتطوير المواقع التاريخية التي طالما ظلت مهملة وإقامة منتجع بيئي من الدرجة الأولى على ساحل البحر الأحمر. ولئن ساورت أحد الشكوك بأن هذه التغييرات حقيقية، فها هي المملكة توشك أخيراً على التراجع عن نظام طالما اعتبر دليلاً حاسماً على اضطهاد المملكة للنساء، إذ سيسمح لهن بحلول شهر يونيو / حزيران من عام 2018 بقيادة السيارات.
كانت الرسالة واضحة، ومفادها أن تغييرات مهولة تجري على قدم وساق داخل المملكة العربية السعودية، وأن الرجل الذي يدفع باتجاهها هو نجل الملك، الشاب الغامض الذي لا يكاد يتوقف عن العمل ويدعى محمد بن سلمان. كان حينها في الثانية والثلاثين من عمره وقد نذر نفسه لإعادة تشكيل المملكة، بل والشرق الأوسط بأسره، في أسرع وقت ممكن.
جلوساً على كراس مخملية أو على سجادة حنطية، جاء المشاركون في المؤتمر لكي يتأكدوا من حقيقة الأمير الشاب، هل يعني ما يقوله؟ هل هو زعيم ذو رؤية ينوي فعلاً إخراج المملكة من ماضيها المحافظ أم أنه مجرد مبتدئ متعجل سوف يهوي بها إلى الأرض؟
سرت تمتمات سريعة في أرجاء القاعة بعد انفتاح باب جانبي، ثم ظهر الأمير.
كان يلبس زياً تقليدياً كالذي يرتديه الرجال السعوديون: فعلى بدنه ثوب أبيض طويل وعلى رأسه شماغ مزركش بالأحمر والأبيض يثبته في مكانه عقال أسود، ويلبس في رجليه نعال أسود. كان ممتلئ الجسم، ولعل ذلك بسبب حبه لتناول الوجبات السريعة. لحيته غير المرتبة تغطى وجنتيه، وكأنها تعبير عن انشغاله في العمل وعدم توفر الوقت لديه لكي يهتم بتهذيبها. محاطاً بمساعديه ومتبوعاً بمصوري الصحافة وكاميرات التلفزيون، صعد إلى المنصة وغاص في مقعد أبيض وثير.
لم يخرج إلى النور إلا قبل ثلاثة أعوام، فهو أمير من بين آلاف الأمراء، إلا أنه تمكن سريعاً من شق طريقه إلى قمة هرم السلطة في المملكة. عندما جلس والده الملك سلمان على العرش في عام 2015، منح ابنه صلاحية متابعة أهم الملفات في البلاد: الدفاع، الاقتصاد، الدين، والنفط. ثم، وبعد أن أزاح من طريقه أقرباءه الأكبر منه سناً، أصبح ولياً للعهد، فتهيأ بذلك ليكون التالي على العرش. ظل والده الرئيس الأعلى للدولة، ولكن كان واضحاً أن الأمير محمد بن سلمان كان هو الحاكم الفعلي للمملكة والمدبر لشؤونها.
تمييزاً له عن الكتلة الكبيرة من أقربائه داخل العائلة الملكية، راح السعوديون والمهتمون بمتابعة الشأن السعودي يطلقون عليه اختصاراً إم بي إس. كان رجلاً ضخماً يملأ بحضوره الغرف. سواء تحدث للعموم أو الخواص، تجده يتخلى عن العربية المعتادة بين الزعماء العرب ليتحدث بسرعة وبلكنة، ملوحاً بيديه الكبيرتين أثناء الحديث بصوت كالهدير. كثيراً ما يفيض بالحيوية، تخطر بباله الأفكار سريعاً فيتوقف عن الحديث فجأة قبل أن يتم جملته. أثناء لقاءاته مع المسؤولين الأجانب يستمر في بعض الأوقات في الحديث عن رؤيته لساعة أو أكثر دون أن يتوقف للأسئلة. يذكر أحد المسؤولين الأجانب أن ساق الأمير لم تتوقف عن الهز أثناء لقائهما، الأمر الذي يجعله يتساءل ما إذا كان ذلك بسبب قلق الأمير أو بسبب تعاطيه لمادة منشطة ما.
من على المنصة في ذلك اليوم، خاطب محمد بن سلمان مدير الجلسة بالإنجليزية ليثبت لضيوفه الأجانب أنه قادر على ذلك، ثم عاد ليتحدث بالعربية ليميط اللثام عن مشروع طموح آخر. إنه مشروع نيوم، تلك المدينة التي ستقام على مساحة معزولة من الصحراء بالقرب من البحر الأحمر، يصوغ قوانينها رجال الأعمال الذين تناط بهم مهمة إغراء كبار العقول في العالم ليأتوا ويمارسوا الإبداع على الأرض السعودية. تمهيداً لمستقبل ما بعد النفط واستغلالاً لأشعة الشمس السعودية، سوف تدار المدينة بالطاقة الشمسية وسيكون فيها من الروبوتات العاملة أكثر مما فيها من البشر. قال محمد بن سلمان إن نيوم ستكلف 500 مليار دولار وستكون ملاذ الحالمين، فهي ليست مشروع تنمية اقتصادية وإنما قفزة حضارية للإنسانية.
خُفضت الإنارة وشاهد الجمهور فيلماً مصوراً عن المدينة المقترحة، بعد ذلك سألت مديرة الجلسة، وهي صحفية أجنبية، ما إذا كانت الطبيعة المحافظة للمملكة دينياً ستعيق مشروعاً كهذاً يركز بشكل أساسي على المستقبل. نفى محمد بن سلمان أن يكون عدم التسامح جزءاً من التاريخ السعودي، وأصر على أن المملكة تسعى للتعامل والتعاون مع بقية العالم بما فيه فائدة الجميع.
وقال: “نحن لم نكن مثل هذا في الماضي، كل ما هنالك أننا نعود لما كنا عليه من إسلام معتدل متوازن منفتح على العالم وعلى جميع الأديان وعلى جميع التقاليد والشعوب. سبعون بالمائة من الشعب السعودي هم شباب دون الثلاثين من العمر. وبكل صدق، لن نضيع ثلاثين سنة من حياتنا في التعامل مع أي أفكار متطرفة. سوف ندمرهم اليوم، حالاً. نريد أن نعيش حياة طبيعية، حياة تترجم ديننا إلى التسامح وعاداتنا وتقاليدنا الطيبة، وسوف نعيش مع العالم ونساهم في تنمية العالم بأسره.”
لم يسبق أن تعهد زعيم سعودي بمثل ذلك على الملأ، فصفق له الجمهور بحماس شديد.
ولكن بعد أسبوعين، أرخى واقع أشد قسوة بظلاله.
“عربي21” تنفرد بترجمة ملخص كتاب عن ابن سلمان والسلطة (2)
تستكمل “عربي21“، نشر مقتطفات صحيفة “نيويورك تايمز” الأمريكية، لأهم ما جاء في كتاب “إم بي إس: صعود محمد بن سلمان إلى السلطة”، الذي ألفه بن هوبارد مدير مكتب الصحيفة في بيروت، ونشره قبل أسابيع.
وتنفرد “عربي21” بنشر ترجمة كاملة لهذه المقتطفات في عدة حلقات، بحيث تنشر حلقة يوميا.
وأثار الكتاب ضجة كبيرة عند نشره، نظرا لأهمية الكتاب، ولاحتوائه على معلومات مثيرة عن صعود ولي العهد السعودي محمد بن سلمان من الظل إلى السلطة.
وفي ما يأتي الحلقة الثانية من هذه المقتطفات كما تقدمها “عربي21”:
على مدى عدة أيام، قام مسؤولون في الديوان الملكي وعناصر من جهاز البوليس السري بإلقاء القبض على المئات من الشخصيات الأوسع ثراء والأقوى نفوذاً في المملكة العربية السعودية بما في ذلك عدد من أقارب محمد بن سلمان من أعضاء العائلة الملكية، بل شملت قائمة المعتقلين حتى بعضاً ممن حضروا حفل زفافه. جردوا جميعاً من هواتفهم الخلوية ومن حراسهم وسائقيهم وحبسوا داخل فندق ريتز كارلتون الرياض، مما حول مقر مؤتمر الاستثمار الفاخر إلى سجن من خمسة نجوم. أذن ذلك الحدث بولوج المملكة العربية السعودية نحو مستقبل من نوع جديد، يشتمل على أكثر من مجرد روبوتات وقيادة النساء للسيارات.
قالت الحكومة إن الاعتقالات كانت جزءاً من حملة ضد الفساد، فلقي ذلك ترحيباً من كثير من السعوديين الذين طالما أبصروا الأمراء ورجال الأعمال وهم يستغلون نفوذهم للوصول إلى العقود المربحة أو يدبرون الخطط للاستحواذ على الثروة من مخصصات الحكومة المالية. وفعلاً، كان بعض من حبسوا داخل الريتز من أسوأ الضالعين في مثل هذه الانتهاكات.
لكن بعض من اشتهروا بالفساد بقوا أحراراً، بما في ذلك بعض أبناء أشقاء الملك سلمان وأقربهم إليه، مما أثار الشكوك حول الأهداف الحقيقية من الحملة. وثمة أوجه غرابة أخرى لما جرى، إذ تم الإعلان عن اللجنة التي تناط بها مهمة التحقيق بينما كانت الاعتقالات تجري. يترأس هذه اللجنة محمد بن سلمان، والذي لم تخضع مصادر ثروته الخاصة لأي تحقيق. أولم ينفق الأمير نفسه ما يقرب من نصف مليار دولار على قارب؟ وماذا عن قصره الفرنسي الذي وصفته بعض المجلات بالقول إنه “أغلى بيت في العالم”؟ وبعد ذلك، قام مشتر بالوكالة، يقال إنه كان يتصرف نيابة عن محمد بن سلمان، بإنفاق 450.3 مليون دولار على لوحة للفنان ليوناردو دافينشي. فمن أين جاء كل ذلك المال؟
قيل للمعتقلين في الريتز بأنهم ضيوف على الملك، إلا أن الطريقة التي عوملوا بها لم تدل إطلاقاً على ذلك. ومع استمرار معاناتهم بدأ أقاربهم يتواصلون معي بحذر شديد ويصبون اللعنات على محمد بن سلمان. قالت إحداهن، وكانت من عائلة سعودية مشهورة في مجال الأعمال، إنها لم تصلها أي أخبار عن قريبها المعتقل لعدة أسابيع إلى أن اتصل فجأة وقال لها “أنا بخير”، لكنه أوحى إليها بأنه لم يكن بخير على الإطلاق. انتهت المكالمة بينهما بعد ثلاث دقائق.
رأت هذه المرأة في حملة محمد بن سلمان مجرد ذريعة للاستيلاء على أموال المملكة والتحكم بها لتحقيق أهدافه الشخصية ويعمل في نفس الوقت على تشويه سمعة كل من تسول له نفسه الوقوف في وجهه.
وقالت لي: “إنه معتوه وحاقد، يسعى لتدمير الناس، لا يرغب في رؤية أحد يحمل اسماً كريماً سواه. إنه شيطان، بل إن الشيطان يتعلم منه.”
خلال سنوات قليلة فقط، بات محمد بن سلمان القوة المهيمنة في المملكة العربية السعودية، وغدا واحداً من أكثر زعماء العالم ديناميكية ومن أكثرهم وضعاً تحت المجهر.
لم يكن بروزه ليخطر ببال أحد، فقد قضى جل عمره ضائعاً في جمهرة من الأمراء الأكثر ثراء وخبرة منه، وكانت رتبته متدنية داخل عائلة تأسست على الأقدمية. إذن كيف تمكن من إنجاز ذلك؟ هذه هي الحكاية التي يرويها هذا الكتاب.
قد يثبت محمد بن سلمان أنه أهم حاكم جاء على المملكة العربية السعودية منذ أن أسس جده المملكة قبل ثمانية عقود وجعل منها شريكاً مهماً للولايات المتحدة. يأتي بزوغ نجم محمد بن سلمان بعد ستة عقود من وفاة جده، وذلك في حقبة كان أغنى بلد في العالم العربي يواجه فيها تهديدات بالغة الخطورة. كان سعر النفط في حالة من الانهيار السريع، الأمر الذي أنهك اقتصادها. وكان ثلثا مواطنيها دون سن الثلاثين عاماً، وكان هؤلاء الشباب يتدافعون على الوظائف القليلة المتاحة ويئنون تحت وطأة قيود اجتماعية صارمة. وضمن الدائرة الأوسع للشرق الأوسط، كان جهاديو تنظيم الدولة الإسلامية يهيجون في العراق وسوريا ويقومون بالتفجير داخل المملكة، وكانت إيران، الخصم اللدود للمملكة العربية السعودية، تستغل حالة الفوضى العارمة في المنطقة لتوسع من رقعة نفوذها.
وكانت تفاقم من هذه التحديات شكوك حول مدى التزام أهم حلفاء المملكة، أي الولايات المتحدة. لم يكن الرئيس باراك أوباما يهيم حباً بالمكان. وكان قبل أن يصبح رئيساً قد قلل من أهمية المملكة العربية السعودية ناعتاً إياها بعبارة “ما يسمى الحليف”، وانتقد تصديرها للوهابية التي قال إنها تسعِّر من التزمت في العالم الإسلامي. ثم مضت إدارته لتبرم صفقة نووية مع إيران بينما أجاز الكونغرس تشريعاً يسمح للأمريكيين بمقاضاة المملكة العربية السعودية بخصوص الهجمات الإرهابية التي وقعت في الحادي عشر من سبتمبر / أيلول من عام 2001، وذلك أن خمسة عشر من خاطفي الطائرات، إضافة إلى زعيمهم أسامة بن لادن، كانوا سعوديين. مثل كل من الإجراءين صفعة مؤلمة للمملكة التي كانت تعتمد على الولايات المتحدة لحماية أمنها وأنفقت المليارات من الدولارات على الأسلحة الأمريكية، وكانت تتوقع في المقابل حداً أدنى من الولاء.
انقض محمد بن سلمان على هذه المشاكل وعلى غيرها يريد علاجها، فدفع بالمملكة في حرب داخل اليمن، وأطلق خطة لإعادة تنظيم الاقتصاد، وسعى لاستمالة المدراء التنفيذيين في وول ستريت وهوليوود وسيليكون فالي، ثم خطف رئيس وزراء بلد آخر، وأقام علاقة قوية وغير متوقعة مع الرئيس دونالد ترامب وصهره جيرالد كوشنر. أما داخل المملكة فذهب ينزع أنياب رجال الدين، ويفتح دور السينما وأماكن الحفلات الموسيقية، ويدوس على التقاليد، ويحبس أفراداً من العائلة الملكية – بمن فيهم والدته، ويؤسس لسلطوية تكنولوجية يتمكن من خلالها من زرع جواسيسه داخل هواتف الناس، ومن التلاعب بوسائل التواصل الاجتماعي، ثم أمر بتنفيذ جريمة قتل بشعة هزت العالم بأسره (قتل خاشقجي).
تصدر صعود محمد بن سلمان اهتمام المتابعين عبر العالم
بينما كانت ثروة العالم تتركز في أيدي قلة قليلة من الناس، راح السلطويون الشعبويون يستخدمون الخطاب القومي لحشد شعوبهم بينما يغلقون في نفس الوقت المنافذ أمام المعارضة. ومثله في ذلك مثل الحزب الشيوعي في الصين والطغاة الصاعدين من مصر إلى المجر، لم ير محمد بن سلمان حاجة لأي رقابة على سلطته، بل بادر بسحق كل ما يهددها، سواء كان تهديداً محسوساً أو غير ذلك. كان شعار حقبته السعودية أولاً، وما كان ليسمح لشيء أن يحول دون أن يجعل السعودية عظيمة مرة أخرى، ولكن بمواصفاته هو.
ارتفعت الموجة القومية في الدول الغربية أيضاً. لقد نجم عن تصويت البريطانيين لصالح الخروج من الاتحاد الأوروبي وانتخاب الرئيس ترامب في الولايات المتحدة انكفاء مواطني وحكومات تلك الدول على أنفسهم، مما أزاح كثيراً من العبء عن حلفائهم السلطويين. كما أثبت هذان الحدثان أن الحقيقة في السياسة أقل أهمية من العواطف التي يمكن للمرء أن يثيرها عبر وسائل التواصل الاجتماعي. كان ذلك هو الدرس الذي تعلمه جيداً محمد بن سلمان ووضعه قيد التنفيذ في مملكته.
محمد بن سلمان شخصية مثيرة للشقاق إلى حد كبير، فأنصاره يشيدون به على أنه المصلح الذي طال انتظاره ليغير قواعد اللعب في منطقة تتوق للتغيير بينما يندد به خصومه باعتباره طاغية شديد القسوة قيد التشكل. تراه داخل المملكة العربية السعودية عملاقاً يطل وجهه من كل مكان – تجد صوره مطبوعة على أغلفة الهواتف الخلوية وتتدلى من فوق مداخل مجمعات التسوق الكبيرة – ويتم الترويج من قبل الموالين له ومن قبل الصحفيين لكل مبادرة من مبادراته على أنها ضربة معلم. إلا أن كثيراً من أموره مايزال يكتنفها الغموض. فعلى أثر موجات التوقيف والاعتقال امتنع الناس عن الكلام حول خلفيته، وعن مناقشة الحكمة من خططه أو حول قدرته على إنجازها. اشتد في بعض الدوائر الحماس له بعد أن رفعت القيود عن بعض مناحي الحياة الاجتماعية وبدأت النسوة في الحصول على وظائف لم تكن تحلم بها أمهاتهن. ولكن الخوف استشرى وتمكن من الناس لدرجة أن مجرد بوست عفوي في السوشال ميديا أو تعليق لأحدهم بين الخواص يمكن أن ينجم عنه إلقاء القبض على المرء أو يؤدي به إلى السجن، مما جعل كثيراً من الناس يحجمون عن الحديث على الهاتف، وبعض الناس إذا التقوا يعمدون إلى وضع هواتفهم الخلوية داخل الثلاجة.
محمد بن سلمان هو سبب الظاهرتين، وهما مدفوعتان بتوجهين سلطت عليهما الأضواء في أواخر 2017 عندما سحر بكلامه ضيوف مؤتمر الاستثمار وفي نفس الوقت سجن الناس داخل الريتز. تجده عازماً على منح السعوديين مستقبلاً باهراً ومزدهراً، وفي نفس الوقت لديه الاستعداد التام لسحق خصومه. في حال اجتماعهما بجرعات مختلفة، يمكن لهاتين الصفتين أن تكونا بمثابة الموجه لسلوكياته وأعماله لسنوات طويلة في المستقبل.
قد يعتبر البعض أن تأليف كتاب عن زعيم شاب قد يحكم بلاده لعقود قادمة عمل يتنافى مع الحكمة أو ينضوي على تهور. فليكن معلوماً أن هذا الكتاب لا يسعى لسرد حكاية بن سلمان الكاملة، وإنما يحكي قصة صعوده العجيب والآثار المترتبة عنه على المملكة وعلى علاقاتها مع الولايات المتحدة ومع الشرق الأوسط بشكل عام. أما مسار الحكاية فيما بعد فهذا ما يقرره محمد بن سلمان نفسه. وفيما يلي بداية الحكاية.
عربي 21
“عربي21” تنفرد بترجمة ملخص كتاب عن ابن سلمان والسلطة (3)
تستكمل “عربي21″، نشر مقتطفات صحيفة “نيويورك تايمز” الأمريكية، لأهم ما جاء في كتاب “إم بي إس: صعود محمد بن سلمان إلى السلطة”، الذي ألفه بن هوبارد مدير مكتب الصحيفة في بيروت، ونشره قبل أسابيع.
وتنفرد “عربي21” بنشر ترجمة كاملة لهذه المقتطفات في عدة حلقات، بحيث تنشر حلقة يوميا.
وأثار الكتاب ضجة كبيرة عند نشره، نظرا لأهمية الكتاب، ولاحتوائه على معلومات مثيرة عن صعود ولي العهد السعودي محمد بن سلمان من الظل إلى السلطة.
وفي ما يأتي الحلقة الثالثة من هذه المقتطفات كما تقدمها “عربي21”:
الفصل الأول: المملكة
في عام 1996، حصل رجل بريطاني من أصل جزائري يعمل معلماً في مدرسة نخبوية في جدة على الساحل الغربي للمملكة العربية السعودية، على عرض عمل فريد من نوعه.
وصل إلى البلدة في زيارة تستمر عدة شهور أمير اسمه سلمان بن عبد العزيز ترافقه إحدى زوجاته وأطفالها، وكانت العائلة تبحث عن معلم لغة إنجليزية.
كان المعلم، واسمه رشيد سكاي، يعرف القليل عن الأمير سلمان، الذي كان يشغل منصب أمير منطقة الرياض، وهو منصب ينيط به تحمل مسؤولية العاصمة السعودية، وكان واحداً من أبناء الملك الذي أسس المملكة العربية السعودية، الأمر الذي يمنحه وضعاً رفيع المستوى بين الآلاف من الأمراء والأميرات الذين تتشكل منهم العائلة الملكية. بدت الوظيفة مثيرة للاهتمام، ولربما كان الدخل منها جيداً، وبناء عليه وافق سكاي على القيام بالمهمة. على مدى الشهور القليلة التالية، كان السائق يأتي ليأخذه من المدرسة في نهاية يوم عمله وينطلق به نحو المجمع الملكي حيث كان سلمان وعائلته يقيمون.
عندما دخل للمرة الأولى رأى سكاي “سلسلة من المنازل الفخمة التي تسحر الألباب بحدائقها المنمقة التي يتولاها عاملون بملابس عمل بيضاء”، كما كتب في مقالة نشرها له موقع بي بي سي. مر بموقف للسيارات مليء بأسطول من السيارات الفاخرة الحصرية بما فيها ما يشبه سيارة كاديلاك زهرية اللون لم ير مثلها في حياته من قبل. داخل القصر، قابل التلاميذ المكلف بتعليمهم، وهم أولاد سلمان الأربعة من زوجته الثانية، وكان أكبرهم طفل مشاغب في الحادية عشرة من عمره اسمه محمد بن سلمان.
كان واضحاً أن الأمراء الصغار يهتمون باللعب أكثر مما يهتمون بالدراسة، إلا أن سكاي بذل ما في وسعه ليجذب اهتمام الصغار، ولكن جهوده كانت تذهب هباء بمجرد ظهور محمد بن سلمان.
قال لي سكاي: “لأنه أكبر أشقائه بدا أنه قد سُمح له بأن يفعل ما يحلو له”. وأثناء الدروس كان يستخدم جهاز لاسلكي استعاره من أحد الحراس، وكان يستخدمه لإطلاق تعليقات شقية حول معلمه وتبادل النكات مع الحراس على الطرف الآخر حتى يبهج أشقاءه.
بعد عدد من الدروس، أخبر محمد بن سلمان سكاي بأن والدته تعتبر المعلم “جنتلمان حقيقيا”.. اندهش سكاي، وذلك أن الفصل بين الذكور والإناث في المملكة العربية السعودية حال بينه وبين أن يقابل الأم، ناهيك عن أن تتاح لها الفرصة لتقييم شخصيته. ولكنه علم بعد ذلك أنها كانت تشاهده عبر كاميرات المراقبة المثبتة على الجدران.
ترك ذلك لديه شعوراً بأنه تحت المراقبة، ومع ذلك مضى في تأدية عمله. لم يحقق الأولاد تقدماً كبيراً في تعلم الإنجليزية، وظل محمد بن سلمان حتى أواخر العشرينيات من عمره يتجنب التحدث بالإنجليزية أمام الناس. وكان تقدمهم في اللغة الفرنسية أقل من ذلك، رغم أن والدتهم هي التي طلبت من سكاي إضافة اللغة إلى المنهج. ومع اقتراب نهاية المهمة التي كلف بها، كان سكاي قد بدأ يعجب بالشاب محمد بن سلمان المفعم بالنشاط، متذكراً بعد ذلك بسنوات “شخصيته المهيمنة”. افترض سكاي أن ذلك يعزى إلى كونه أكبر أولاد أمه وإلى الاهتمام الذي كانت تغدقه عليه عائلته.
يقول سكاي: “لقد كان الشخصية التي تنال الإعجاب، مما أعطاه شعوراً بأنه صاحب الأمر والنهي. ففي ذلك القصر كان هو الشخص الذي يحظى برعاية الجميع، والشخص الذي ينال انتباه الجميع”.
كان والد محمد بن سلمان، سلمان بن عبد العزيز، أميراً وسيماً مجداً في عمله، شعر رأسه شديد السواد، ولحيته سكسوكة، واشتهر عنه أنه يتحلى بالاستقامة والصرامة.
عندما كان يسافر إلى الخارج كان يرتدي بدلات ذات تلابيب عريضة وربطات عنق مخططة تشبهاً بالمصرفيين في وول ستريت أو بشخصيات أفلام جيمس بوند، وأما في بيته فكان يرتدي الملابس الأميرية التقليدية الفخمة، إذ يتفرغ لإدارة العاصمة السعودية والمناطق المحيطة بها بحكم منصبه أميراً للرياض. كان المقيمون في المدينة يتندرون بأنهم يضبطون ساعاتهم على موعد انطلاق موكبه نحو مقر عمله في الصباح، قبل ساعات من قيام الأمراء الآخرين من أسرتهم. ولكي يدير العاصمة، كان يراقب عن كثب قبائل المنطقة ورجال الدين والعشائر الكبيرة فيها – بما في ذلك عشيرته هو. وعلى مدى سنوات كان هو المؤدب لأفراد العائلة الملكية والضابط لسلوكهم. إذا خرج عن السيطرة شجار بين أبناء العمومة داخل العائلة على قطعة أرض، أو إذا ما غادرت أميرة ما بفاتورة فلكية بعد الإقامة في فندق في باريس، أو إذا ما ثمل أمير وتسبب في فضيحة، كان سلمان هو من يهوي على رؤوسهم بالمطرقة، وقد يسجن المتجاوزين بشكل سافر داخل سجن خاص يديره بنفسه.
كان قد تفاخر في حديث أجراه معه الكاتب البريطاني روبرت ليسي قائلاً: “يوجد لدي داخل سجني الآن عدد من الأمراء”. بينما كتب دبلوماسي أمريكي يقول إن سلمان أمر أحد أشقائه ذات مرة بالتوقف عن التذمر حول أمر تنظيمي جديد قائلاً له: “اخرس وعد إلى عملك”.
وما كان أحد ليلعب دوراً أكبر من ذلك الذي لعبه سلمان في الدفع بمحمد سلمان نحو الصعود إلى الأعلى.
لقد عايش سلمان التغييرات المهولة التي أحدثت ثورة في مناحي الحياة داخل المملكة العربية السعودية في القرن العشرين. لقد كان سليل عائلة أخفقت مرتين في إقامة مملكة في القلب من شبه جزيرة العرب قبل أن تحقق أخيراً نجاحاً باهراً لدرجة أن سكان الصحراء الذين تصدروا للفكرة وكانوا روادها قد يجدون صعوبة في تصديق كيف انتهى بها المطاف.
كانت المحاولة الأولى التي قام بها أسلاف سلمان قد وقعت في منتصف القرن الثامن عشر في منطقة واحدة تلفح وجهها الشمس، تتناثر فيها البيوت الطينية وأشجار النخيل، وذلك عندما أسس زعيم قبيلة اسمه محمد بن سعود أول كيان سياسي سعودي داخل قريته الدرعية. لم يكن محمد هذا منحدراً من واحدة من القبائل الكبرى التي كان يتشكل منها حينذاك الصرح الاجتماعي الأساسي في جزيرة العرب. بل كان آل سعود مزارعين مقيمين يعملون في إنتاج التمر ويستثمرون في القوافل التجارية.
كانت المعارك بين القبائل والعشائر شائعة، إلا أن محمد بن سعود تفوق على غيره من خلال إبرامه لتحالف مع رجل دين أصولي، ما لبث هذا التحالف أن شكل الأساس الذي حكمت بناء عليه جزيرة العرب على مدى أجيال قادمة. كان الشيخ محمد بن عبد الوهاب يعظ الناس قائلاً إن الإسلام تعرض للإفساد بسبب الممارسات المتوارثة في جزيرة العرب مثل تقديس النصب والأشجار، ودعا إلى تطهير الدين مما علق به من بدع والعودة إلى التمسك بسنة النبي محمد وسيرته وسيرة صحابته قبل قرون. تعرض الشيخ بسبب آرائه إلى الطرد من بلدته، فطلب اللجوء في الدرعية حيث وجد آل سعود في دعوته الدينية دعامة لمشروعهم السياسي.
استفاد الطرفان من ذلك التحالف، فبمساندة محمد بن عبد الوهاب لم يعد آل سعود مجرد عشيرة أخرى من عشائر الجزيرة العربية التي تسعى نحو النفوذ والسلطان، وإنما غدوا دعاة يجاهدون في سبيل نشر العقيدة الصحيحة. ومقابل ذلك فقد سلموا الشيخ وذريته مقاليد التحكم بالشؤون الدينية والاجتماعية. أثبت التحالف فعاليته، ومع تنامي الدولة السعودية الأولى، كان الرافضون لرسالة الشيخ يوصمون بالكفر ويفتى بأنهم لا يجوز في حقهم إلا السيف.
وعندما توسعت رقعة الدولة لتشمل الأماكن الإسلامية المقدسة في مكة والمدينة، شن العثمانيون عليها هجوماً مضاداً، فتمكنت قواتهم من إسقاط الدولة السعودية، وحولت الدرعية إلى أنقاض، وشردت في الأرض من بقي على قيد الحياة من آل سعود. ثم استأنف بعض من ذراريهم السعي لإعادة تشكيل الدولة في القرن التاسع عشر في مدينة الرياض المجاورة، إلا أن جهودهم تقوضت بسبب ما نشب بينهم من قتال داخلي حول من يحق له أن يكون في الصدارة.
عربي 21
“عربي21” تنشر ترجمة ملخص كتاب عن ابن سلمان والسلطة (4)
تنشر صحيفة “نيويورك تايمز” الأمريكية مقتطفات لأهم ما جاء في كتاب “إم بي إس: صعود محمد بن سلمان إلى السلطة”، والذي ألفه بن هوبارد مدير مكتب الصحيفة في بيروت، ونشره قبل أسابيع.
وتنفرد “عربي21” بنشر ترجمة كاملة لهذه المقتطفات في عدة حلقات، بحيث تنشر حلقة يوميا.
وأثار الكتاب ضجة كبيرة عند نشره، نظرا لأهمية الكتاب، ولاحتوائه على معلومات مثيرة عن صعود ولي العهد السعودي محمد بن سلمان من الظل إلى السلطة.
وفي ما يأتي الحلقة الرابعة من هذه المقتطفات كما تقدمها “عربي21”:
في وقت مبكر من القرن العشرين، قام سليل من آل سعود اسمه عبد العزيز، وهو جد محمد بن سلمان، بإحياء حملة الجهاد لاستعادة أرض أجداده.
سار بجنوده يقودهم من على ظهر بعير، وسعى لإعادة بناء التحالف مع ذرية محمد بن عبد الوهاب، الذين استمد منهم الشرعية الدينية لحكمه. وعلى مدى ثلاثة عقود تمكن عبد العزيز من إخضاع معظم جزيرة العرب لسلطانه، وراح يحكمها ويدير شؤونها من عاصمته الجديدة، الرياض.
لكن صعود هذا الكيان السياسي الأصولي أربك القوى الغربية وحيرها في وقت كانت ترسخ أقدامها حول الخليج الفارسي، ووجد الملك عبد العزيز نفسه أمام واحد من خيارين: إما أن يستمر في جهاده التوسعي، الأمر الذي سيحتم عليه الصدام مع البريطانيين، أو أن ينشئ دولة حديثة. ذهب إلى الخيار الثاني وأعلن تأسيس المملكة العربية السعودية في عام 1932.
لولا اكتشاف النفط في عام 1938 لربما بقيت المملكة على الأغلب صحراء خلفية منعزلة لا يعيرها جل العالم كثيراً من الاهتمام. إلا أن النفط جلب إليها المضاربين والفنيين وشركات النفط وممثلي الحكومات الغربية وكلهم يريدون الوصول إلى ذهب المملكة الأسود، بمن في ذلك الولايات المتحدة. وفي اجتماع سري عقد في عام 1945 بين الرئيس فرانكلين دي روزفيلت والملك عبد العزيز على ظهر سفينة حربية أمريكية داخل قناة السويس، دشن الزعيمان حقبة جديدة ووضعا الأساس لاتفاق دائم يضمن لأمريكا الوصول إلى منابع النفط السعودي مقابل أن تقوم الولايات المتحدة بتوفير الحماية للمملكة من أي هجمات خارجية. أضحت تلك الاتفاقية عموداً من أعمدة السياسة الأمريكية في الشرق الأوسط وظلت سارية حتى القرن التالي.
شحن تدفق الثروة النفطية الموروثات من تاريخ المملكة، حيث مول السعوديون الجهود الدولية لنشر تعاليم محمد بن عبد الوهاب، الأمر الذي حول الوهابية إلى قوة دينية عالمية. وغدت أرامكو السعودية، شركة النفط المملوكة حصرياً للمملكة، الشركة الأعلى قيمة على الإطلاق في العالم. وأصبح آل سعود واحدة من أغنى السلالات في العالم.
توفي الملك عبد العزيز في عام 1953 بعد أن تزوج في حياته 18 امرأة وخلف منهن 36 ابناً و 27 بنتاً. لم تدخر ذريته من بعده وسعاً في التكاثر، فتشكلت منهم ومن ذراريهم عشيرة ضخمة حملت البلاد اسمها بينما استمتع أفرادها بثراء هائل وامتيازات كبيرة.
أصبح تعدادهم بالآلاف وكلهم يعيشون في رعاية الدولة. في عام 1996، زار دبلوماسي أمريكي المكتب المكلف بتوزيع المخصصات عليهم فوجد سيلاً من الخدم جاؤوا ليستلموا مخصصات ساداتهم، والتي تفاوتت حسب مواقعهم. يستلم كل واحد من أبناء وبنات الملك عبد العزيز 270 ألف دولار، ويستلم كل واحد من أحفاده مبلغاً يصل إلى 27 ألف دولار بينما يستلم كل واحد من أبناء الأحفاد 13 ألف دولار. أما أبعد الأقارب فيحصل على 800 دولار. كما يحصل كل واحد من الأمراء على هبة قيمتها مليون دولار لبناء قصر عندما يتزوج، وكلما رزق الواحد منهم مولوداً يصله أيضاً مبلغ من المال بهذه المناسبة. قدر ذلك الدبلوماسي أن مخصصات الأمراء تكلف الدولة ما يزيد عن 2 مليار دولار في العام الواحد، وإن كان ذلك مجرد تخمين منه.
جزء كبير من هذه الأموال يصب في نهاية المطاف في المجتمع ثمناً لكسب ولاء الشعب للعائلة الملكية.
يقول أحد أبناء سلمان إنه ينفق ما يزيد عن مليون دولار من ماله الخاص خلال شهر رمضان، حيث يقيم الولائم لرعاياه. ومع ذلك يعيش أفراد العائلة الملكية حياة مرفهة وينفقون بإسراف، من أساطيل القوارب الخاصة إلى بناء القصور في لوس أنجيليس وموناكو، ويقضون إجازاتهم في بلدان أجنبية ينفقون فها بسخاء لدرجة أن المجتمعات التي يحلون فيها تشهد ازدهاراً اقتصادياً.
عدد أفراد العائلة الملكية كبير جداً لدرجة أنهم يشكلون مجتمعاً صغيراً خاصاً بهم له قواعده وقوانينه الخاصة، بما في ذلك التحفظ العميق والاحترام الشديد للأقدمية، حتى أنهم يحفظون تواريخ ميلاد بعضهم البعض. وهذا ما ييسر لهم الانضباط في الصف حسب ترتيب الأعمار من الأكبر إلى الأصغر، بنفس السهولة التي يلتئم فيها سرب طيور الأوز على شكل حرف V إذ يحلقون في الآفاق ميممين نحو الجنوب استعداداً للشتاء.
مازالت جدران وأسوار الدرعية الطينية قائمة كما هي، تلك الواحة التي منها انطلق كل شيء، على مسافة قصيرة بالسيارة من الرياض التي باتت الآن عاصمة حديثة يقطنها ثمانية ملايين نسمة تنتشر فيها مجمعات التسوق الكبيرة وناطحات السحاب والطرق الخارجية السريعة والعريضة.
هناك في الرياض أمضى سلمان حياته، وهناك أعد ابنه للمستقبل.
ولد سلمان بعد ثلاثة أعوام من تأسيس المملكة العربية السعودية، ولقد تذكر فيما بعد في حياته أنه عندما كان طفلاً كانت عائلته ماتزال تعيش في الخيام جزءاً من السنة. ولكن ما أن وصل مرحلة الشباب حتى غيرت ثروة النفط حياة أفراد العائلة الملكية فتحولوا إلى سكان قصور ولاعبين على المسرح الدولي.
إن احترام العائلة للأقدمية هو الذي صاغ الطريقة التي ما لبثت تحكم من خلالها المملكة، فبعد أن مات الملك عبد العزيز في عام 1953، انتقل الحكم من بعده إلى سلسلة متعاقبة من أبنائه من الأكبر إلى الأصغر، ومن تم تجاوزه من الأشقاء فإنما تجاوزوه إما لأنه لم يرغب في أن يحكم أو لأن بقية العائلة أجمعت على عدم أهليته للحكم. (أما النساء فليس لهن في السياسة نصيب). ما دون الملك، تدار البلاد من قبل كبار الأمراء الذين يتقاسمون فيما بينهم الوزارات الأساسية: الأمن الداخلي، والجيش، والحرس الوطني والشؤون الخارجية. وتتخذ القرارات فيما بينهم بالإجماع.
كان ترتيب سلمان 25 من بين أبناء والده الذين يعدون 36 ابناً، بما يعني أنه كان طوال حياته يحتل مرتبة متدنية في سلم الانتظار على العرش، ولذلك كانت فرصته في أن يصبح ملكاً ضئيلة جداً، فقد كان عدد من يتقدمونه في قائمة الانتظار كبيراً. في نفس الوقت لم يتسن له أن يتسلم وزارة قوية من الممكن أن يستخدمها لتمكين أبنائه. إنما الذي حصل أنه عندما كان في العشرينيات من عمره صدر أمر بتعيينه أميراً لمنطقة الرياض، وهي الوظيفة التي ظل ممسكاً بها لما يقرب من خمسين عاماً تحولت خلالها الرياض من مجرد بؤرة استيطانية في الصحراء إلى مدينة كبيرة.
بفضل حكمه للرياض، أصبح الأمير سلمان همزة وصل بين العائلة الملكية والمجتمع. حافظ على العلاقات مع القبائل وكان عليماً بها خبيراً بأنسابها وبما بينهما من تنافس وما خلفها من تاريخ. كانت الرياض أكبر مدينة في وطن الوهابية الأصلي، منطقة نجد، وكان سلمان كثيراً ما يستضيف رجال الدين في ديوانه. إلا أن وظيفة سلمان الأساسية كانت استقبال الرعايا الذين يأتون لطلب المساعدة منه. من كان منهم لديه أقارب مرضى كان يأتي طلباً للمال حتى يتمكن من دفع تكاليف العلاج وما قد يحتاج إليه من عمليات جراحية. وكان المزارعون يطرقون بابه للتوسط في نزاعات على الأراضي. وكانت العائلات التي ينتظر أبناؤها تطبيق حكم الإعدام فيهم تأتي لمناشدته للتدخل والحيلولة دون قطع رؤوسهم.
عبر السنين، رُزق سلمان عدداً كبيراً من الأبناء. أنجبت له زوجته الأولى، واسمها سلطانة بنت تركي السديري – والسديري من أشهر وأعرق العائلات في المملكة، خمسة من البنين وبنتاً واحدة. درس ابنه الكبير فهد في جامعات كاليفورنيا وأريزونا ودخل عالم سباق الخيول في بريطانيا، ولعل ذلك ساهم في انكشافه على الغرب وتعرفه عليه. بعد أن غزا صدام حسين الكويت في عام 1990، كان فهد كثيراً ما يتحدث مع الصحفيين الغربيين الذين انهالوا على المملكة لتغطية أحداث الحرب.
كان ابنه الثاني سلطان عقيداً في سلاح الجو السعودي، وكان أول عربي وأول مسلم يسافر إلى الفضاء على متن مكوك الفضاء ديسكفري في عام 1985. يحب سلطان التزلج، وكان يدير هيئة السياحة في المملكة، وكان مولعاً بالولايات المتحدة حتى أنه قال يوماً لدبلوماسي أمريكي “بعض أفضل أيام حياتي هي التي قضيتها في الولايات المتحدة.”
ثم يأتي من بعده أحمد الذي درس في كلية المناجم في كولورادو وتخرج من أكاديمية وينتويرث العسكرية قبل أن ينضم إلى سلاح الجو. ثم بعد ذلك انتسب إلى جامعة كاليفورنيا في إرفين. عين فيما بعد رئيساً للشركة الإعلامية التابعة للعائلة. وفي عام 2002 أحدث ارتباكاً في سباق الخيول عندما اشترى الحصان الأصيل “لواء الحرب” بمبلغ 900 ألف دولار قبل ثلاثة أسابيع فقط من فوزه بسباق كينتاكي داربي. وصفه بعض من كانوا على معرفة به في حديث لصحيفة لوس أنجيليس تايمز بأنه “رجل أنيق وذو شارب مشذب ومنديل جيب، غاية في البساطة لدرجة لا يتصور معها أن يكون من أعضاء العائلة الملكية في السعودية.”
الابن التالي هو عبد العزيز، ويكاد يكون الأمير الوحيد الذي عمل في قطاع النفط في المملكة، حيث تصدر للجهود المبذولة لتحديث القطاع، وعين فيما بعد وزيراً للطاقة.
أصغر أولاد سلمان اسمه فيصل، وهو حاصل على الدكتوراه من جامعة أكسفورد، وكان زميل بحث في جامعة جورجتاون. أسس شركة استثمارات سعودية اسمها جدوي، وأيضاً كان يهوى اقتناء الخيول الأصيلة.
أنجبت زوجة سلمان الأولى ابنة واحدة اسمها حصة، كانت تعمل مع هيئة حقوق الإنسان في المملكة وفيما بعد دخلت في مشاكل قانونية في فرنسا بعد أن اتهمها سمكري بأنها أمرت حارسها الشخصي بقتله.
ذات مرة أصيبت سلطانة بمرض في الكلية ما لبث أن تفاقم مع الزمن، فقضت معظم وقتها محاطة بالأطباء أو في السفر إلى الخارج للعلاج. فتزوج سلمان فهدة بنت فلاح آل هذلين، وهي امرأة قصيرة من عائلة معروفة أنجبت له ستة أبناء آخرين. (وتزوج سلمان لفترة قصيرة امرأة ثالثة أنجبت له ولداً اسمه سعود).
ابن فهدة الأكبر هو محمد بن سلمان، الذي ولد في 31 من شهر أغسطس / آب من عام 1985.
عربي 21
“عربي21” تنفرد بترجمة ملخص كتاب عن ابن سلمان والسلطة (5)
تستكمل “عربي21“، نشر مقتطفات صحيفة “نيويورك تايمز” الأمريكية، لأهم ما جاء في كتاب “إم بي إس: صعود محمد بن سلمان إلى السلطة”، الذي ألفه بن هوبارد مدير مكتب الصحيفة في بيروت، ونشره قبل أسابيع.
وتنفرد “عربي21” بنشر ترجمة كاملة لهذه المقتطفات في عدة حلقات، بحيث تنشر حلقة يوميا.
وأثار الكتاب ضجة كبيرة عند نشره، نظرا لأهمية الكتاب، ولاحتوائه على معلومات مثيرة عن صعود ولي العهد السعودي محمد بن سلمان من الظل إلى السلطة.
وفي ما يأتي الحلقة الخامسة من هذه المقتطفات كما تقدمها “عربي21“:
كأمير، نشأ محمد بن سلمان مغموساً في امتيازات موروثة لم يكسب أياً منها بجهده الشخصي، يعيش في القصور ويتنقل في مواكب، ويعامل بدلال من قبل المربيات والمعلمين والخدم.
لا يناديه باسمه إلا الأصدقاء المقربون وأفراد العائلة، أما بالنسبة لغيرهم فلا يخاطب إلا بعبارة “طال عمرك” أو “صاحب السمو الملكي”. ولكن إذا كان والده يحتل مرتبة دنيا في الترتيب الملكي على العرش فقد كانت مرتبة محمد بن سلمان أدنى من ذلك بكثير، فهو الابن السادس للابن الخامس والعشرين من أبناء الملك المؤسس، ولم يكن يوجد من الأسباب ما يدعو للظن أنه يمكن أن يرتقي إلى أعلى السلم، وذلك كان انطباع معظم الناس عنه طوال الجزء الأكبر من حياته.
وكان محمد بن سلمان قد قال فيما بعد إن والده أشرف بنفسه على تعليمه وتعليم أشقائه، وأنه كان يسلم كل واحد منهم كتاباً كل أسبوع ثم يمتحنهم فيه. أما والدته فكانت تأتي إليهم بمفكرين ليفتحوا معهم حوارات وكانت ترسل أطفالها في رحلات علمية ميدانية. كان الوالدان كلاهما صارمين، لدرجة أن وصوله متأخراً للغداء مع والده كان “بمثابة كارثة”. وأمه كانت حازمة وشديدة أيضاً.
وفي حديث مع صحفيين من موقع بلومبيرغ، قال محمد بن سلمان: “كنت وأشقائي نفكر ونتساءل لماذا تعاملنا أمنا بهذا الشكل؟ فلم تكن تتغاضى عن أي أخطاء نرتكبها”.
ثم خلص فيما بعد إلى أن تلك المتابعة الدقيقة والحازمة هي التي جعلته أقوى.
من النادر أن يتحدث محمد بن سلمان عن سنين شبابه في العلن، كما لم يتحدث عن ذلك من كانوا يعرفونه في تلك الفترة. ولذلك يصعب رسم صورة مفصلة للفترة المبكرة من حياته. ويزيد من صعوبة ذلك ما حازه من نفوذ بعد ذلك، فلم يعد أحد يجرؤ أن يقول عنه في العلن سوى ما يفهم منه الإشادة، وأما ما هو مخجل أو فاضح فقد واراه الثرى. ولكن من أجل إدراك خلفيته ومعرفة مراحل حياته الأولى فقد قضيت السنوات القليلة الماضية وأنا أتعقب السعوديين وغيرهم ممن عرفوه أو صادفوه في شبابه. ومعظم هؤلاء مازالوا يعيشون هم أو أقارب لهم داخل المملكة أو لهم فيها مصالح وأعمال فمن تحدث منهم اشترط عدم الكشف عن هويته لضمان حمايته.
عاش سلمان مع زوجته الأولى بالقرب من الديوان الملكي في قصر واجهته مشيدة من أعمدة بيضاء، حتى أن الناس كانوا يسمونه من باب النكتة “البيت الأبيض”. وكانت والدة محمد بن سلمان وأطفالها يعيشون في مكان آخر، وإن كانت تطمح لهم بما لا يمكن تحقيقه إلا من خلال والدهم، ولذلك كثيراً ما كانت ترسلهم لتناول الغداء في “البيت الأبيض” حتى يتسنى لهم القرب منه. إلا أن محمد بن سلمان وأشقاءه لم يكونوا موضع ترحيب من قبل سلطانة، التي كانت تزدري أبناء الزوجة الثانية بسبب خلفيتهم القبلية (وربما أيضاً غيرة منها تجاه أمهم الأصغر منها سناً والأفضل منها صحة). ولم تكن تخفي ازدراءها، الأمر الذي كان ينعكس على تصرفات أولادها، إذ يسخرون من محمد بن سلمان بينما يتفاخرون بما هم فيه من عيشة مرفهة وبما يقومون به من أعمال وما يحصلون عليه من مؤهلات من جامعات أجنبية يدونونها في سيرهم الذاتية.
كان مسار حياة محمد بن سلمان مختلفاً تماماً – فقد كان المسار محلياً إلى حد كبير وسعودياً بشكل أساسي. ولكنه كان في سن المراهقة معظم الوقت ضائعاً وسط الحشد الملكي، وكان واضحاً عدم إحاطته بكثير من السبل للارتقاء بوضعه. إلا أن سرعان ما تغير ذلك بفضل وفاتين وقعتا داخل العائلة.
في عام 2001 توفي فجأة عن ستة وأربعين عاماً فهد، الابن الأكبر لسلمان، والذي كان يساعد الصحفيين أثناء حرب الخليج. ثم في العام التالي توفي شقيقه أحمد، الذي فاز بسباق كينتاكي داربي، عن أربعة وأربعين عاماً. كان سبب الوفاة المعلن في الحالتين السكتة القلبية، ولكن الأسباب الحقيقية لم يفصح عنها بتاتاً.
هذا الموت المفاجئ والمبكر لاثنين من أبنائه أدخل سلمان في حالة من الحزن الشديد. وبينما كان أبناؤه الكبار مشغولين في متابعة أعمالهم وفي رعاية عائلاتهم، بقي محمد بن سلمان – وهو آنذاك في السادسة عشرة من عمره – قريباً من والده في ساعة ألمه وحزنه مما وثق الرابطة بينهما وعمقها. كانت والدة محمد بن سلمان لا تكف عن الإلحاح على سلمان بأن يقضي وقتاً أطول مع محمد بن سلمان، وكان الأمير الشاب كثيراً ما يلازم أباه كظله وهو يدير شؤون العاصمة السعودية من موقعه كأمير للرياض. وكانت تلك تجربة تعليمية غامرة في شؤون المملكة، إذ كان محمد بن سلمان يرى من يأتي ويذهب، ويتعرف على أصحاب الشأن في كل واحدة من القبائل، وعلى رجال الدين ومواقعهم، وعلى رجال الأعمال ومواضع نفوذهم في الحياة الاقتصادية، وعلى الأمراء ومن منهم توصل إلى طرق إبداعية في نهب الدولة.
يذكر أحد أعضاء حاشية العائلة في ذلك الوقت أن حياة محمد بن سلمان الاجتماعية كانت تتركز حول استخدام الامتيازات الملكية لإقامة العلاقات وتوطيدها مع الناس. كانت عائلته تذهب في الصيف لتعسكر على ساحل البحر الأحمر وكان محمد بن سلمان يرسل أسطولاً من دراجات التزلج المائي للشباب. أما في الشتاء فكانوا يعسكرون في الصحراء حيث يقيم محمد بن سلمان أكبر مخيم يقدم فيه لحم الغنم المشوي المصفوف على أطباق بيضاوية ضخمة مملوءة بالأرز، وكان بحوزته أسطول من العربات للبدو الذين يأتون للسلام على الأمراء. كان عالم محمد بن سلمان هو المملكة العربية السعودية، ويبدو أنه كان يحبها بقدر ما كان أبناء عمه يحبون لندن أو جنيف أو موناكو. وكان والده يقدر له ولعه بالمملكة، ومع الزمن توطدت الآصرة بينهما أكثر فأكثر، وصار محمد بن سلمان يرافق والده في الأعراس والجنائز ويصلي قريباً منه داخل المسجد.
وأخيراً انتقلت والدة محمد بن سلمان وأطفالها إلى قصر خاص بهم، وكان سلمان في بعض مواسم الصيف يقضي إجازته مع زوجته الأولى وأطفالها في قصر شيده شقيقه الملك الراحل فهد في ماربيا، وأثناء ذلك يقوم بزيارة خاطفة إلى برشلونة ليقضي بعض الوقت مع عائلة زوجته الثانية. لاحقاً صارت والدة محمد بن سلمان تنزل في جناح داخل فندق أوتيل بلازا أتينيه في باريس، حيث لا يروق لها الطعام الفرنسي فاستبدلته بطعام سعودي كان يعده لها طهاة جاءت بهم معها من البلد.
منذ أن كان في سن المراهقة اكتسب محمد بن سلمان سمعة بأنه كان يسيء التصرف. يقول من عرفه من أفراد العائلة الملكية وغيرهم إنه كان يبدو محبطاً وساخطاً، وكان في بعض الأوقات ينفجر في نوبات من الغضب. على الأقل في مرة من المرات لبس زي ضابط شرطة وذهب إلى مركز للتسوق في الرياض ليستعرض. لم يتمكن ضباط الشرطة الحقيقيون من فعل شيء إزاء ذلك لمعرفتهم بأنه ابن أمير الرياض.
وبسبب مرافقة محمد بن سلمان لوالده فقد استغرق تماماً في شؤون البلد ولكنه في نفس الوقت كان ابن القرن الحادي والعشرين.
ومثله في ذلك مثل كثير من السعوديين من أبناء جيله، تشكل إحساسه بالعالم من خلال أفلام هوليوود، ومن خلال الرسوم المتحركة الأمريكية واليابانية، ومن خلال وسائل التواصل الاجتماعي. يروي أصدقاؤه القدامى أنه كان في بعض الأوقات ينسى نفسه في ألعاب الفيديو وكان أول من أدمن على فيسبوك من ضمن دائرة رفاقه.
كان محمد بن سلمان في السادسة عشرة من عمره عندما أرسل أسامة بن لادن الخاطفين ليهاجموا الولايات المتحدة يوم الحادي عشر من سبتمبر / أيلول من عام 2001. بعد ذلك بسنوات، أخبر وفداً من الأمريكيين بأن والدته نادت عليه حتى يشاهد الأخبار وأنه وصل إلى التلفزيون في الوقت المناسب ليرى الطائرة الثانية وهي ترتطم بالبرج الجنوبي من مركز التجارة العالمي. ورغم أن محمد بن سلمان لم يرغب في أن يُنقل عنه بشكل مباشر ما تحدث به أثناء اللقاء، إلا أن رئيس الوفد جويل سي روزنبيرغ أخبرني بأن الانطباع الذي تشكل لديه خلاصته أن محمد بن سلمان انتابه شعور بالرعب خشية أن يتجه العالم نحو كره الإسلام بسبب تلك الهجمات وأنه سيكون من الصعب على السعوديين الشعور بالراحة في الخارج.
ولربما أثر ذلك الشعور على الأسلوب الذي اتبعه في الحكم فيما بعد.
قال لي روزنبيرغ: “أظن أنه نما ولسان حاله يقول لا أريد أن أعيش في بلد ينظر إليه العالم بهذا الشكل، وأنظر أنا إليه بهذا الشكل، ولسوف أطارد وأقبض على كل من تسول له نفسه شيئاً كهذا أو يؤدي بنا إلى أن يعتبرنا الناس بلداً متخلفاً مجنونا”.
وبدلاً من أن يذهب إلى الخارج ليدرس في جامعة هناك، بقي محمد بن سلمان في الرياض ودرس القانون في جامعة الملك سعود. يقول أحد رفاقه في الدراسة إنه بدا حتى في ذلك الوقت راغباً بأن يصبح زعيماً، فتجده يتصدر لإدارة الحوار بين الأصدقاء. وذات مرة أخبر مجموعة من أصدقائه بأنه يريد أن يكون الإسكندر العظيم التالي. وكان أمير آخر من نفس جيله يراه في عشاء أسبوعي كان ينظمه عمه الأمير سلطان لأبناء أشقائه.
يقول الأمير متذكراً تلك الأيام: “كان دائماً يتكلم عن الحكومة وكيف أنه كان يرغب في الدخول فيها وما الأشياء التي كان سيغيرها، وكنت أظنه يتحدث في هذه القضايا فقط لأنه ابن حاكم الرياض. كان باستمرار يريد أن يكون هو المتحدث، كان باستمرار يرغب في التصدر.”
وكان من المعجبين بمارغريت ثاتشر.
يقول الأمير: “كان دائماً يستمتع بالحديث عن المرأة الحديدية وكيف أنها عززت النظام الاقتصادي لبريطانيا العظمى”.
إلا أن محمد بن سلمان ظل بعيداً عن مرأى ومسمع الدبلوماسيين والخبراء الأجانب الذين درسوا الحركيات الملكية سعياً منهم لاستشراف من عساه يصل إلى السلطة في المستقبل. في عام 2007، زار السفير الأمريكي لدى المملكة العربية السعودية الأمير سلمان الذي طلب المساعدة في الحصول على تأشيرات دخول إلى الولايات المتحدة لأفراد عائلته، حيث كانت زوجته الأولى تواجه صعوبة في السفر لرؤية طبيبها، وعلى الرغم من أن أبناء سلمان الآخرين مضوا قدماً وتحملوا عناء الإجراءات الصارمة وقدموا طلبات الحصول على التأشيرة، إلا أن محمد بن سلمان “رفض الذهاب إلى السفارة الأمريكية والسماح لهم بأخذ بصماته كما لو كان مجرما”.
تخرج محمد بن سلمان من الجامعة في عام 2007 وكان الرابع على دفعته. قضى بعدها عامين موظفاً في مكتب الخبراء، وهو عبارة عن مركز أبحاث تابع لمجلس الوزراء السعودي. كان من المفروض أن يحصل على ترقية بعد عامين إلا أن الملك عبد الله منعها عنه، فعاد إلى العمل مع والده. تزوج من ابنة عمه، وهي أميرة صغيرة القوام اسمها سارة بنت مشهور، واحتفل بزفافه عليها في قاعة فاخرة في مدينة الرياض.