DW :
تخوض ألمانيا هذه الأيام امتحانا عسيرا، ليس فقط من أجل الحد من جرائم العنف والقتل لليمين المتطرف، بل كذلك الحفاظ على سمعة دولة دفعت ثمنا باهظا للكراهية. فكيف يقوض الإرهاب مكتسبات عانت ألمانيا كثيرا من أجل تحقيقها؟
لم تألُ ألمانيا جهدا لتحسين صورتها أمام العالم عبر محاولاتها القطع النهائي مع ماضيها النازي الأليم، إذ اتخذت على مدار عقود الكثير من الخطوات لإعلان أن ألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية هي ألمانيا جديدة لا مكان فيها للكراهية والعنصرية، وأنها بلد تتعايش فيه الديانات والأعراق والقوميات.
لكن هجمات اليمين المتطرف، التي لم يتردد الرئيس الألماني شتاينماير في وصفها بالإرهابية، خلقت شكوكا في حقيقة تقبل جزء من المجتمع الألماني للأجانب بل وحتى للألمان من أصول أجنبية، فناقوس الخطر دُق أكثر من مرة حول أن ألمانيا لا تزال تعاني مع مشكلة العنصرية، وهو ما اعترفت به المستشارة الألمانية أنغيلا ميركل عندما قالت: “العنصرية سم، الكراهية سم، وهذا السم موجود في مجتمعنا”.
ويعتبر اعتداءا مدينة هاناو اللذان خلفّا مقتل 11 شخصاًبينهم المشتبه به جزءا من سلسلة هجمات كراهية استهدفت مسلمين كما جرى عند إلقاء القبض على مجموعة كانت تخطط لهجمات ضد مساجد ومسؤولين سياسيين وطالبي لجوء، واستهدفت كذلك اليهود كما وقع في الهجوم على كنيس يهودي في مدينة هاله، بل وكان من ضحاياها كذلك مسؤول ألماني هو فالتر لوبكه، عضو الحزب الديمقراطي المسيحي، الذي اغتاله عضو في حركة النازيين الجدد.
سمعة ألمانيا تتضرّر
في الوقت الذي أغلقت فيه الكثير من الدول أبوابها أمام اللاجئين، فتحت برلين أحضانها لأكثر من نصف مليون لاجئ سوري، ليصل عدد اللاجئين وطالبي اللجوء في ألمانيا إلى قرابة المليونين نهاية 2018، ولتكون ألمانيا الوجهة الأولى في أوروبا للاجئين. ثم جاء إعلان ألمانيا عن برنامج جديد لهجرة الكفاءات ليزيد من سمعتها الدولية البراقة ويجعل قنصلياتها في عدة بلدان تستقبل آلاف طلبات الحصول على تأشيرات العمل.
لكن إرهاب اليمين المتطرّف يخدش هذه السمعة. محمد، طبيب مغربي، في طور الاستعداد للهجرة إلى ألمانيا للعمل، يقر أن الأحداث الأخيرة غيرت الصورة المثالية التي كونها سابقا عن المجتمع الألماني. ويرى محمد في اتصال مع DW عربية أن الحل هو أن تتواصل الدولة الألمانية مع الرأي العام لأجل أن تؤكد له أن الكفاءات المهاجرة، هي هدايا “مجانية” لم تؤد عنها ألمانيا شيئا، أتت لخدمة المجتمع الألماني وللمساهمة في خزينة الدولة موازاة مع الطموحات الشخصية.
ويمتد خطر خدش السمعة الألمانية إلى أوروبا ككل وفق ما يؤكده كريستن كنيب، صحفي وكاتب ألماني لـDW عربية، إذ يشير إلى أن “جلّ الأوروبيين، ومنهم الألمان، يربطون بين الإرهاب اليميني وبين الفترة النازية، فالإرهاب النازي دائم الحضور في الذاكرة الأوروبية، وهو ما أحالت عليه عدة صحف ألمانية”ّ، مضيفاً: “سيكون من الصعب على ألمانيا أن تقدم نفسها كبلد ‘عادي’ مرة أخرى، فالناس لا يزالون يتذكرون هتلر”.
إلا أن خطر اليمين المتطرف على السمعة الألمانية يذهب إلى ما هو أبعد من ذلك، فقد يتضرر حتى اقتصادها من هذه العمليات الإرهابية، حسب قول سامي شرشيرة، باحث في جامعة أوسنابروك، إذ يشير في حوار مع DW عربية إلى أن “ألمانيا تبني اقتصادها على التصدير، وإن ترويج منتجاتها يعتمد على السمعة الطيبة للدولة الألمانية الديمقراطية”، مبرزاً أن الضرر قد يصل كذلك إلى السياسة الخارجية لألمانيا، وهو تطوّر خطير لم تشهده البلاد منذ سقوط عهد النازية.
تقويض مكتسبات التعايش
أخذت ألمانيا مسارا جديدا في التعايش المجتمعي بعد نهاية العهد النازي، وسنت قوانين صارمة لحماية الحريات. ومع تطور المجتمع الألماني وظهور أجيال من الألمان ذوي أصول مهاجرة، خطت ألمانيا طويلاً في طريق خلق نموذج مجتمعي متنوع يقر بالتعددية العرقية والدينية واللغوية، رغم الجدل الذي يدور أحيانا حول تعريف المواطن الألماني كما جرى في قضية مسعود أوزيل ومنتخب ألمانيا.
لكن هذا النموذج يواجه تحديا كبيرا، إذ بدأ “التماسك الاجتماعي الذي شهدته البلاد بعد العهد النازي يترنح خلال السنوات العشر الأخيرة” حسب قول سامي شرشيرة، مشيرا إلى قوى يمينية شعبوية في المشهد السياسي وأخرى متطرفة لها متعاطفون داخل المجتمع، فـ “لا يوجد برلمان في أي ولاية يخلو من هذه القوى، وللأسف لم تستطع الأحزاب التقليدية التصدي للظاهرة اليمينية المتطرفة التي تملك خصوصية في ألمانيا لارتباط ذلك بالحرب العالمية الثانية” يقول شرشيرة.
ويبقى حزب “البديل من أجل ألمانيا” أحد أكبر تحديات اليمين في ألمانيا، فالحزب الذي يعمل بشكل قانوني لا يخفي نزعاته المعادية لبرامج الهجرة واللجوء ولوجود المسلمين والأجانب في البلاد، وهناك من يعتبر أن استمراره يمثل دعما سياسيا لليمين المتطرف، رغم أن الحزب يحاول النأي بنفسه عن النازيين الجدد.
ويرى شرشيرة أن الأحزاب المحافظة التقليدية في البلاد، كحزبي الاتحاد المسيحي، مدعوة لاتخاذ موقف حاسم من حزب البديل، وذلك بأن تكف عن اعتماد معادلةٍ توازن بين اليمين المتطرف واليسار المتطرف، فـ “هذا الأخير لا يصل إلى خطورة الأول على النسيج الاجتماعي الألماني، وإذا لم يتم اتخاذ خطوات واضحة، فيمكن أن يصل اليمين الشعبوي إلى منصب مستشار الدولة في ألمانيا”.
في الجانب الآخر، يتوقع كريستن كنيب أن تقوم ألمانيا بالعديد من الخطوات القانونية لأجل محاصرة الإرهاب اليميني، ومن ذلك إعادة النقاش حول قوانين محاربة خطابات الكراهية في الانترنت، كما يتوقع أن ترتفع حدة الانتقادات ضد حزب البديل، لكن الأهم، هو “أن الكثير من الألمان سيخرجون في مسيرات ضد اليمين المتطرف، ما قد يقدم رسائل مهمة للعالم، مفادها أن غالبية الألمان ضد هذا التطرف اليميني وأنهم مع مجتمع متعدد الثقافات”.
الكاتب: إسماعيل عزام