ساسة بوست :
في هذا التقرير نستعرض أربعة مكاسب حصدتها إيران على طبق من فضة، باغتيال سليماني.
1. إيران تتجاوز الخط الأحمر
أضافت إيران لرصيدها المعنويّ والرمزيّ الكثير بكسرها لحاجز محرّم عسكريًّا بقصفها قاعدتين عسكريّتين أمريكيتين، وهو أول استهداف مباشر ورسميّ من دولة ما على الولايات المتحدة وقواعدها العسكرية، منذ الحرب العالمية الثانية عندما استهدفت اليابان قاعدة بيرل هاربور البحريّة بهجوم مفاجئ عام 1941، ونعرف جميعًا النهاية المأساوية التي حلَّت باليابان في ختام الحرب العالمية الثانية.
فور وقوع الهجمات اكتفى الرئيس ترامب بقول: «كل شيء بخير!… لدينا أقوى وأحسن الأسلحة حول العالم!». ثم جاء خطابه يوم 8 يناير (كانون الثاني) موضحًا أنّ الولايات المتحدة ستتراجع جديًّا عن التصعيد، ولن ترد ردًّا عسكريًّا على إيران، وإنما ستفرض المزيد والمزيد من العقوبات الاقتصادية.
صرّح مسؤولون إيرانيّون بأن إيران أبلغت العراق بنيّتها قبل الهجوم بساعات، وعلى الفور مرّر العراقيّون الرسالة للأمريكيين، الذين يؤكدون الآن أن معلومات عن الهجوم وصلتهم من مصادر استخباراتية سبقت المساعدة العراقية. وفي المحصلة لم يقتل جنديّ أمريكي واحد، ولم يؤكّد رسميًّا إصابة أي جندي بأذى، فضلًا عن تدمير القواعد أو إتلافها.
يذكر البنتاجون أنّ إيران أطلقت 16 صاروخًا باليستيًا وقع منها 11 صاروخًا على قاعدة عين الأسد في إربيل، وجميعها سقطت في منطقة فارغة بين القاعدة العسكرية والقنصلية الأمريكية. مشهدٌ محبوك ببراعة؛ تكسب إيران صورة المنتقم القادر على الرد، ويعود ترامب لناخبيه بلا دماء أمريكية على يديه ولا توابيت قتلى.
هاجم ترامب بلا هوادة وبشكل مستمر الرئيس الأمريكي الأسبق باراك أوباما، ووزيرة خارجيته هيلاري كلينتون، على تأخرهم في دعم طاقم السفارة الأمريكية ببنغازي، بعد تعرضها لهجوم أودى بحياة السفير وأربعة أمريكيين آخرين. وفي هذا السياق لم يكن سهلًا على ترامب أن يفوّت الحادثة لتصبح كما وصفها معارضوه «بنغازي ترامب»، بعد الهجوم على السفارة الأمريكية ببغداد، الذي تزعم الولايات المتحدة الأمريكية أن سليماني والمهندس رتّبا له.
2. اتفاق نووي جديد قد يلوح في الأفق
في 18 مايو (أيّار) 2018 انسحبت الولايات المتحدة من الاتفاقية التي لطالما انتقدها ترامب، معتبرًا إياها هدية من أوباما للنظام الإيراني أعطته مساحة للتنفس. منحت أمريكا حلفاءها ممن يشترون النفط الإيراني مهلةً زمنية ليبحثوا عن مصدر جديد ليشتروا منه النفط الذي يشكّل أكبر مصدر لعوائد النظام الإيراني. ظلّت إيران جزءًا من الاتفاق إذ إنه يضم فرنسا وألمانيا وبريطانيا، بالإضافة للصين وروسيا، ومع مرور الوقت خفَّضت التزاماتها ردًّا على الخرق الأمريكي والأوروبي للاتفاقية.
بعد اغتيال سليماني بيومين أعلنت إيران تطبيقها الخطوة الخامسة من خطوات تخفيض الالتزام؛ والتحلل من أي قيود بشأن تخصيب اليورانيوم وكمياته، وعدد أجهزة التخصيب، ولكن لن تطرد المراقبين الدوليين وستتابع التعاون مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية كما فعلت سابقًا. بعد هذا التصريح بأيام، وتحديدًا في 8 يناير، خرج المتحدث باسم الحكومة الإيرانية ليؤكّد «حرص» إيران على الاتفاق النووي واستعدادها لـ«العودة للتعاون الكامل» في إطار الاتفاق.
جواد ظريف (يمين)، وزير الخارجية الإيراني، مع نظيره الأمريكي وشريكه في المفاوضات، جون كيري.
ثم جاء الرد الأمريكي، مُنطلقًا مجددًا من «عقدة أوباما»، منددًا بالاتفاق النووي القديم، ودعا ترامب الدول الأخرى للانسحاب من الاتفاقية والبدء بالتفاوض على اتفاق جديد، وحتى ذلك الوقت ستعمل إيران على التخصيب بما يناسبها خارج إطار الاتفاق النووي، وستبدأ رحلة جديدة من المناورة والتفاوض. ولكن هذه المرة بموقف أفضل، فالولايات المتحدة هي من قوَّضت الاتفاق الأخير الذي كلَّف سنوات من التفاوض، وهي من رفع مستويات التصعيد بعد اغتيال سليماني.
3. نفوذ إيران في المنطقة يتعاظم ونفوذ أمريكا يتقلص
الغضب الساطع آتٍ.. خوف جماعي من الغضب الإيراني
أطلقت إيران حملة تخويف بعد اغتيال سليماني طالت كثيرًا من دول المنطقة بتهديد مباشر أو بالتلميح. قطر التي تستضيف أكبر قاعدة أمريكية في الخليج انطلق وزير خارجيتها لطهران صبيحة اغتيال سليماني، واجتمع مع نظيره الإيراني جواد ظريف، ثمّ مع رئيس الجمهورية، حسن روحاني، داعيًا الإيرانيين للسعي لتخفيف التوتر والحد من التصعيد.
بعد مهاجمة القواعد الأمريكية في العراق، هدّد الحرس الثوري بتصريح ساخر الإمارات بقصف قاعدة «الظفرة» الإماراتية إذا ما انطلقت منها طائرة أمريكية لمهاجمة إيران، ولـ«تودع الإمارات الانتعاش الاقتصادي». وجاء تصريح وزير الخارجية الإماراتي بالدعوة لتغليب الحكمة والاتزان، ولحقه تصريح من مسؤول إماراتي خفّض سقف الدعم الإماراتي لعملية أمريكا قائلًا: «بعيدًا عن الموقف من اغتيال سليماني، هذا تصعيد هائل لوضع متزعزع من الأصل في الشرق الأوسط».
وختم المشهد الأكاديمي الإماراتي عبد الخالق عبد الله، المقرّب من ولي عهد أبو ظبي، بوصفه لإيران بالـ«أسد الجريح» الذي لا تريد الإمارات استفزازه، وإنما تودّ أن تساعده للخروج من عزلته الدولية.
شاب يمنيّ من أنصار جماعة الحوثي، يقبّل صورة قاسم سليماني، في صنعاء، اليمن.
على الجهة الأخرى من الخليج كان موقف بنيامين نتنياهو، رئيس الوزراء الإسرائيلي، الأكثر براغماتية وتخوّفًا من الغضب الإيراني. قطع نتنياهو زيارته لليونان وفي بداية التطورات أشادَ بقرار ترامب اغتيال سليماني، وما إن وصل لإسرائيل حتى تغيّرت البوصلة. وصرّح لمجلس وزرائه المصغّر بأن «اغتيال سليماني حدث أمريكي» لا دخل لإسرائيل فيه و«يجب عدم الانجرار إليه». ببساطة، اغتيال أهم قائد عسكريّ في إيران التي أمضى نتنياهو السنوات الماضية يحشد ضدها في المحافل الدولية، أصبح مجرد شأن أمريكي لا يخصّ إسرائيل.
السعودية التي تعرضت قبل شهور لهجوم على منشأتين نفطيتين تابعتين لها، نفذته جماعة الحوثي في اليمن، تشعر بالنفوذ الإيراني وخطره على أبوابها أيضًا، فأكّدت في أول تصريح لها على ضرورة «وقف تهديد الميليشيات الإرهابية التي تهدد أمن المنطقة». وأكّدت السعودية أنها لم تعلم ولم تتم مشاورتها بشأن اغتيال سليماني، وأرسل ولي العهد محمد بن سلمان، شقيقه الصغير نائب وزير الدفاع، الأمير خالد بن سلمان، إلى واشنطن لمقابلة الرئيس الأمريكيّ ترامب لتأكيد ضرورة التهدئة، التي إن لم تحصل فقد تدفع السعودية ثمنها، كما حصل في هجمة «أرامكو» التي مرّت دون رد أمريكي.
وامتدت موجة التخويف الإيرانية لتشمل الأردن قائلةً «المقاومة ستخرج القوات الأمريكية إن لم تخرجها دول الخليج والأردن»، بالإضافة لأفغانستان، في إشارة لحركة طالبان التي تدعمها إيران وتوفر لها السلاح، والتي ربما تستخدمها إيران في الفترة القادمة لاستهداف المصالح الأمريكية.
استراتيجية جديدة في الأفق.. تقليص الوجود الأمريكي في الشرق الأوسط
يمكن القول بأن اغتيال سليماني دشّن استراتيجية إيران للمنطقة، تتلخص في أن تقليص الوجود الأمريكي مهمة على عاتق إيران عبر «محور المقاومة»؛ وكلائها وميليشياتها المنتشرة في المنطقة. وبالفعل كان مجرد اغتيال سليماني دافعًا لإنهاء الاتفاقية الأمنية العراقية الأمريكية، وسببًا لتصويت البرلمان العراقي على إنهاء الوجود العسكري لقوات التحالف الدولي الذي تقوده الولايات المتحدة لمحاربة «تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)».
الربيع العربي
قُتل مع سليماني نائب قائد الحشد الشعبي، أبو مهدي المهندس، الذي يتمتّع بصفة رسمية في الدولة العراقية، ومعه شخصيات عسكرية أخرى من الحرس الثوري، والحشد الشعبيّ، وحركة حزب الله في لبنان، التي أكّد أمينها العام حسن نصر الله الاستراتيجية الإيرانية الجديدة قائلًا إن حرب محور المقاومة مع أمريكا ونفوذها في المنطقة، وبعد ذلك قد لا يحتاج «محور المقاومة» إلى مواجهة إسرائيل، التي ستزول بزوال النفوذ الأمريكي.
مثلما وحّد الاغتيال الجبهة الداخلية في إيران، سيساعدها في دول مُنتفضة أخرى، مثل لبنان والعراق، على قمع الاحتجاجات الجارية في ظل غضب إيران ووكلائها، وفي ظرف أمني متأزم دوليًّا.
ولروسيا منافع أخرى. فبعد الاغتيال بأيام زار الرئيس الروسيّ فلاديمير بوتين سوريا في السابع من يناير، يوم عيد الميلاد للكنيسة الأرثوذكسية التي تؤمّها روسيا، ليحتفل في دمشق بالعيد بعيدًا عن بلاده. وبينما تهتز بغداد وتتلقى القواعد العسكرية الأمريكية فيها ضربات إيرانية، يحتفل بوتين بأمان في دمشق مؤكدًا مصالح بلاده في سوريا والمنطقة، «أنا هنا».
4. اغتيال سليماني يفتح الباب لضخ دماء جديدة
ربما لم يعلم سليماني أن مقتله سيحقق منفعة لبلاده. عجز المرشد الأعلى للجمهورية الإيرانية، علي خامنئي، عن حبس دموعه أثناء صلاته على سليماني، الذي كان أحد أشد المقربين له.
لن يكون رحيل سليماني سهلًا على النظام الإيراني، فهو العقل المدبّر للاستراتيجية الإيرانية في الخارج، واستطاع عبر السنوات الماضية أن يحافظ على المصالح الإيرانية، بالدم والقوّة أو بغيرهما، رغم انفجار أزمات مستمرة بالمنطقة، بدءًا من الخطر الأمريكي في أفغانستان صعودًا للثورتين السورية واليمنية، وتأسيسه لوكلاء أقوياء في البلدان المذكورة، ولبنان، والعراق، مصالحهم من مصلحة إيران وقادرون على حمايتها. قد يكون اغتيال سليماني فاتحةً لمرحلة جديدة في المنطقة، ولكنه بلا شك رحيل مكلف لإيران.
دولي