"يابنى كونا للظالم خصما و للمظلوم عونا"..الإمام علي (عليه السلام)

كتاب ”المقهى الشعبي الدمشقي“.. يوثق جزءا مهما من التاريخ المعماري للعاصمة السورية

إرم نيوز :

يوثق كتاب ”المقهى الشعبي الدمشقي“ الصادر حديثا، للباحثة السورية ”هلا قصقص“، لجزء مهم من التاريخ المعماري للعاصمة السورية دمشق.

ويحمل الكتاب عنوانا فرعيا يشي بمضمونه؛ ”فصيح العبارة في تاريخ نشأة المقاهي من اجتماع وثقافة وعمارة“، وهو من إصدارات دار نينوى للدراسات والنشر والتوزيع، دمشق، في أغسطس/آب 2019، ويقع في 268 صفحة من القطع المتوسط.

وبالعودة إلى تاريخ المقاهي في المدينة المشرقية العريقة، يطالعنا قول المؤرخ والرحالة إبراهيم الخياري، المتوفى عام 1671م؛ إذ يقول في كتابه ”تحفة الأدباء وسلوة الغرباء“: ”من ألطفِ ما تلحظهُ بالشامِ النواظرُ، وتقرُّ به العين ويروق الخاطر، خانات القهوة، فإن لكل شجن سلوة، فلقد جمعت معاني الظرافة، وأشرقت بمجامع اللطافة، فحوت من السقاة كل غصن تشتاق من ورد قطاف، وتدخل حرم أمنه لتأمين المخافة. وهي متعددة متفاوتة المحاسن، فمنها الخالي من الأنهار، الجامع للأقمار، ومنها المشتمل على أنهار، ماؤها عذب غير آسن. وما ألطف كاساتها إذا جملتها أكف سقاتها، فقل بدور تحمل نجوما، فتكون لمن ضل هدى“.

اليوم؛ وبعد أن أصبح المقهى عنصرا أساسيا من النسيج العمراني المألوف للمدينة الحديثة، لا يخطر على بال أحد عند الجلوس في المقاهي لاحتساء القهوة، أن لهذه الحالة الاجتماعية الطبيعية والمألوفة تاريخا طويلا وحافلا، وصراعا دينيا-اجتماعيا عريضا وعنيفا.

وفي كتاب ”المقهى الشعبي الدمشقي“ تقدم ”قصقص“ دراسة عن المقاهي الشعبية كعنصر أساس في تكوين مدينة دمشق في العصر العثماني، من خلال قراءة جديدة لمصادر تاريخية تظهر تغيرات أدت إلى تدهور الأحوال الاجتماعية والاقتصادية والسياسية في تلك الفترة.

ويهدف الكتاب للتوصل إلى دلالات من أجل تقديم استقراء جديد لهذه الظواهر والتغيرات وإيجابياتها كمظهر من مظاهر التحول الثقافي-العمراني طرحت بحد ذاتها قيمًا جديدة، بدلا من القراءة السلبية الشائعة، التي تُقيِّم الأحوال على شبكة من القيم الدينية والأخلاقية المستقلة الثابتة.

ويناقش الكتاب محاور عدة؛ هي دراسة دور المقاهي الشعبية والمتنزهات الدمشقية كونها جزءا من التاريخ العمراني للمدينة، وخلق فضاءات داخلية وخارجية كرست للترفيه والتسلية. وتحليل العلاقة بين المقاهي الشعبية والمتنزهات وفعاليات الترفيه فيها. ودراسة دور هذه المقاهي في تغيير البنية الاجتماعية والثقافية والسياسة للمدينة.

ويقدم الكتاب قراءة جديدة للمصادر التاريخية المتوافرة التي تُظهر تغيرات أدت إلى تدهور الأحوال الاجتماعية والاقتصادية والسياسية في تلك الفترة ومحاولة استقراء جديد لهذه الظواهر والتغيّرات وإيجابياتها كمظاهر تحول ثقافي-عمراني، تطرح بحد ذاتها قيمًا جديدة في المجتمع.

فضلا عن وصف المقاهي وتحليل عناصرها المعمارية الخارجية والداخلية وتوثيقها، برسم خرائطي يبين الهوية والتشكيل العمراني للمدينة؛ من بداية القرن السادس عشر إلى القرن العشرين. ودراسة فنون إبداعية قدمتها المقاهي الشعبية؛ مثل الحكواتي ومسرح خيال الظل (الكراكوز)، بالإضافة إلى ألعاب الخفة وغيرها، وبيان مدى تأثير هذه الفنون في ثقافة الابتكار لدى المجتمع الدمشقي.

وقَسَّمت ”قصقص“ كتابها إلى ثمانية أقسام، موزعة على إطارين؛ إطار نظري تاريخي، وإطار تحليلي عملي.

ويتألف الإطار التاريخي من أربعة فصول؛ الأول يتناول الحديث عن إشكالية القهوة عبر التاريخ، ابتداء من كلمة القهوة ومعناها لغة واصطلاحا، وتسميتها، وتاريخ ظهورها وانتشارها، والجدل الكبير الذي حدث بسببها بين رجال الدين؛ بين محلل لها ومحرم لشربها، ثم ظهورها في دمشق والاختلاف عليها.

بالإضافة إلى إرفاق مخطط زمني من إعداد الباحثة استنادا إلى العرض التاريخي لتاريخ القهوة، يظهر فيه التسلسل الزمني لجميع الأحداث التي رافقت ظهور القهوة، ويتحدث هذا الفصل أخيرا عن مشروب القهوة في الشعر العربي وما جاء فيه من تحليل وتحريم.

أما الفصل الثاني من الإطار التاريخي، فيتناول تاريخ المقاهي الشعبية في مدينة دمشق، ابتداء من القرن السادس عشر وافتتاح أول مقهى في العالم، وتحديدا في حي السويقة في مدينة دمشق، التي كانت سباقة لترويج هذا المشروب وإيجاد مكان خاص اجتماعي تجاري له، مرورا بجميع الولاة الذين حكموا دمشق وافتتحوا فيها مقاهي عدة للتقرب من الدمشقيين.

ثم تطورت المقاهي الشعبية في القرن الثامن عشر، ومن ثم القرن التاسع عشر، الذي شهد انتشارا واسعا لها، وانتهاء بالقرن العشرين، والتوسع الكبير للمدينة خارج السور، الذي ساعد بدوره على امتداد المقهى الشعبي إلى أماكن جديدة خارج المدينة.

والفصل الثالث يتناول محاور عدة للمقهى الشعبي وارتباطه بالحياة الاجتماعية والدينية والفكرية لدى الدمشقيين، ويبدأ بالحديث عن المقهى من خلال خطابات وزيارات ورحلات الرحالة العرب والمستشرقين إلى مدينة دمشق من القرن السابع عشر إلى القرن التاسع عشر، وتحليل ما جاء في وصفهم لهذا المكان الجديد وما فيه من عناصر معمارية أبهرتهم، بالإضافة إلى رواده وطبقاتهم الاجتماعية المختلفة.

وأما المحور الثاني، فيتحدث عن ارتباط المقهى بالنسيج العمراني للمدينة، ودراسة أماكن انتشارها سواء في داخل السور أم خارجه.

والمحور الثالث يتناول موضوع ارتباط المقهى الشعبي بثقافة التنزه لدى الدمشقيين، من خلال ذكر أمثلة من مصادر تاريخية تؤكد توزع المقاهي على ضفاف نهر بردى خارج السور وفي أماكن كان يقصدها الدمشقيون للتنزه وتمضية أوقات الفراغ، وبعد ذلك يتناول هذا الفصل المقهى الشعبي وظاهرة التدخين التي ساعد على انتشارها والترويج لها، وما جاء فيها من تحليل من قبل المتنورين، وتحريم من قبل بعض رجال الدين المتشددين.

وفي محور الحديث عن المقهى الشعبي والطبقات الاجتماعية، تتطرق الباحثة لأنواع المقاهي الشعبية نسبة إلى الطبقات الاجتماعية، فمنها ما كانت تستقبل جميع الطبقات مع الحفاظ على الفصل بينهم في المقهى الواحد، ومنها ما كان يختص بطبقة أو حالة اجتماعية معينة يتميز فيها مقهى دون غيره.

وأفردت الباحثة محورا للحديث عن الصراع الديني والاجتماعي الذي تسبب فيه وجود المقهى كمكون جديد من مكونات المدينة، والتذبذب السياسي والديني بين التحليل والتحريم، وتضارب آراء العلماء والحكام منذ ظهوره في النصف الثاني من القرن الخامس عشر، وحتى تقبله الواسع كأحد المظاهر العادية والمألوفة والأساسية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، ليس فقط كعادة من عادات الحياة اليومية، وإنما أيضا كعنصر معماري من عناصر النسيج العمراني للمدينة الحديثة.

ويتناول الفصل الرابع من الإطار التاريخي النظري الفنون الشعبية التي رافقت ظهور المقهى الشعبي، إذ كانت هذه الفنون مرتبطة بعادات وتقاليد الدمشقيين وقصصهم المُتزامِنة مع تقديم القهوة في أماكن عامة وُجِدت لترويج هذا المشروب الجديد، فضلا عن استعراض حِرَف تقليدية رافقت ظهور المقهى الشعبي وأصدرت بدورها فنونا شعبية متعددة تميز فيها المقهى الشعبي عن غيره من الأماكن العامة؛ مثل: المساجد، والحمامات، ودكاكين الحلاقة، وغيرها.

وهذه الفنون متعددة؛ منها الحكواتية والكركوزاتية لتمجيد البطولة من خلال الحكاية، ولهذا فإن هذا النوع من التسلية كان مفيدا وله أهداف تربوية، لمساعدته في ترسيخ القيم الإيجابية في نفوس الجماهير، وهذه الحكايات ساعدت على إطلاق فن شعبي آخر في المقهى، ألا وهو الرسم الشعبي، الذي استخلص موضوعاته من تلك الحكايا، فجاءت اللوحات عبارة عن مشاهد تمثيلية صامتة ومعبرة عن كل فصل من فصول الحكايا.

وفي حديث خاص لـ“إرم نيوز“؛ قالت قصقص، إن ”الكتاب يعتمد المنهج التاريخي من خلال جمع المعلومات والخرائط والوثائق التاريخية الحضرية والمتعلقة بتفاصيل الحياة الاجتماعية والأدبية والفكرية والترفيهية من القرن السادس عشر إلى القرن العشرين، وهذه المعلومات مستقاة من المصادر القديمة من الكتب التاريخية وكتب الأعلام والطبقات العائدة للفترة العثمانية، بالإضافة إلى وثائق عثمانية تسجل جميع جوانب الحياة الاجتماعية والاقتصادية من بيع وشراء للمكان الذي كان يسمى قديما (القهوة خانة)“.

وأضافت: ”يعتمد الكتاب أيضا، على ما جاء في كتب رحالة عرب وأجانب ومستشرقين زاروا مدينة دمشق في العصر العثماني ووصفوا ما شاهدوه من مقاه وصفا دقيقا يعطينا صورة واضحة وتفصيلية عن مكوناتها وروادها“.

وتابعت: ”يتبع الكتاب كذلك، المنهج الوصفي التحليلي، من خلال تحليل المعلومات المستقاة من المصادر الآنفة الذكر واستخدامها كوثائق عمرانية لتحديد هوية الأماكن الترفيهية لمدينة دمشق من مقاه ومتنزهات والتي أدت للوصول إلى ما يعرف بالحداثة المبكرة“.

وأشارت قصقص في حديثها مع ”إرم نيوز“ إلى أن الحافز لتأليف الكتاب هو غياب المراجع والمصادر التي تتناول موضوع المقهى الدمشقي“.

وقالت قصقص: ”أستهدف من خلال هذا الكتاب شريحتَين؛ الشريحة العامة من المثقفين الراغبين بتعرّف قيمة المقهى الدمشقي، فالكتاب لا يتناول موضوع المقهى من الناحية المعمارية فقط وإنما يتناول جميع الجوانب، الثقافية والاجتماعية والسياسية وحتى الجانب الديني الذي جاء خلف الجدال في شرعية المقهى في ذلك الوقت. أما الشريحة الأخرى، فهي شريحة الباحثين، فالكتاب سيكون مرجعا متكاملا لجميع جوانب المقهى، يمكن الاعتماد عليه لدراسة الموضوع من أي جانب“.