العتبة الحسينية المقدسة :
بقلم الدكتور محمود البستاني :
عند الخوض في قصة نمرود فاننا واقعا أمام ثلاث أقاصيص أو حكايات: تتماثل فيما بينها، (من حيث الأفكار).
والحكاية الثانية، تحدثنا عن احدى شخصيات (الماضين)، فيما مرّت ذات يومٍ على قريةٍ خاوية، فتساءلت مستفهمةً:
(أنّى يحُيي هذه الله بعد موتها، فاماته الله مائة عام، ثم بعثهُ)
وأما الحكاية الثالثة، فتتناول قضية إبراهيم ـ عليه السلام ـ في تقطيعه للطيور الأربعة، ثم عودة الحياة إلى الطيور المذكورة.
ومن الواضح، إن هذه الأقاصيص الثلاث، تحوم بأكملها على قضيةٍ واحدة هي: [الإماتةُ والإحياءُ]، أي: إماتة الله ـ عزّ وجلّ ـ كل شيء، وإحياءه من جديد.
ومع انّ هذه الحكايات الثلاث تحوم على ظاهرة واحدة، إلاّ انها [في الآن ذاته] تتناول الإماتة والإحياء من جوانب متعددة، بحيث تُعالج كل أقصوصةٍ: جانباً خاصاً من الظاهرة.
كما ان الشخصيات الثلاث التي أبرزتهم القصص في هذا النطاق، يشكلّون مستويات مختلفةً. فأحدُهم (ابراهيم) عليه السلام، وهو شخصية فذة متميزة بسمات خاصة لا تتوّفر عند سواه: ويكفي انّه (خليل الله)، وانه صاحب (الحنيفية) السمحاء.
وأما الشخصية الثانية فهي (إرميا) أو (عُزير) أو سواهما من شخصيات (النبوة).
والشخصية الثالثة هي (نمرود): وهي شخصيةٌ كافرة، بلهاء.
إنّ هذه الشخصيات الثلاث [بالرغم من التفاوت فيما بينها] تتعرض لتجربة الإحياء والاماتة في ظواهر مختلفة ذات صلةٍ بالبشر، وبالحيوانات، وسواها.
والمهم، انّ كلاً من ظاهرة الإماتة والإحياء، ثمّ الشخوص الذين تعاملوا (فكرياً) مع الظاهرة المذكورة،… انّ كلاً منهما يخضع لـ(وحدة)، تجمع الاقاصيص بين خطوطها، ويخضع لـ(فوارق)، تفصل الأقاصيص بينها، في الآن ذاته.
وهذا واحدٌ من اسرار الفن العظيم.
إنّ الأهمية الفنية لهذه الأقاصيص أو الحكايات الثلاث، تتمثل: في إمكان عدّها جميعاً (قصة واحدة)، ما دامت تتناول قضية واحدة هي: انّ الله قادرٌ على إماتة كل شيء وإحيائه من جديد.
كما يمكن عدّ كلّ واحدةٍ منها، أقصوصةً مستقلة، ما دامت ذات شخوص ومواقف واحداث: كل واحدٍ منها، منفصلٌ عن الآخر.
ومجرد كون هذه الأقاصيص ذات سمة مزدوجة، على نحوما أوضحناه، يظل أمراً، له أهميته الجمالية العظيمة التي لا يُدرك أسرارها، إلاّ من أوتي خبرة في تذوق القصص.
ويُمكننا تعرّف هذه الحقائق، حين نبدأ بمعالجة كل أقصوصةٍ من هذه الأقاصيص، على حدة، على أن نحاول ـ من الآن ذاته ـ أن نصل فيما بينها، بعد ذلك.
ونقف أولاً عند حكاية (نمرود): حسب تسلسلها القصصي الذي ورد في النص القرآني الكريم.
يقول النص القصصي:
(ألم تر إلى الذي حاجّ ابراهيم في ربه، انْ آتاه الله المُلك، إذ قال ابراهيم:
ربي الذي يُحيي ويميت.
قال: أنا أحييى واميت.
قال ابراهيم: فإن الله يأتي بالشمس من المشرق، فأت بها من المغرب.
فبهت الذي كفر. والله لا يهدي القوم الظالمين).
إنّ هذه الآية القرلآنية الواحدة، تحفل بعنصر قصصي ثرّ، بالرغم من قصر (الحكاية) التي أوردتها.
إنّها أولاً ذات (شخوص) يتطلبها شكل الأقصوصة أو الحكاية، متمثلةً في شخصيتي (ابراهيم) عليه السلام، (ونمرود).
كما انها ذات (موقف) يتطلبها الشكلُ القصصي المذكور، متمثلاً في: مناقشةٍ أو محاجةٍ بين أبراهيم ونمرود حيال ظاهرةٍ كونيةٍ خطرة هي: الإماتة والاحياء.
كما انها ـ ثالثاً ـ تشكل مدخلاً إلى أقصوصتين بعدهما، تتناولان نفس ظاهرة الإحياء والإماتة، ولكن عبْر عمليتين تطبيقيتين، تلقيان الانارة [بنحوٍ مفصل] على الظاهرة المذكورة.
ولنحاول ـ إذن ـ الوقوف مفصلاً عند هذه الحكاية أو الأقصوصة.
النصوص إلمفسرة، تتفاوت في تحديد البيئة النفسية التي حملت كلاً من إبراهيم ـ عليه السلام ـ ونمرود على هذه المناقشة. فبعضها يذهب إلى ان المناقشة بينهما جرت، عند إلقاء ابراهيم ـ عليه السلام ـ في النار التي أعدها نمورد لإحراق إبراهيم. وبعضها يذهب إلى انّ المناقشة بينهما، تمت عند كسر إبراهيم للأصنام.
تقول الرواية الأولى: (لما ألقى نمرود ابراهيم في النار، وجعلها الله عليه برداً وسلاماً، قال نمرود: ياابراهيم من ربُك؟ قال: الذي يُحي ويُميت.
قال له نمرود: (أنا اُحيي وأُميت) فقال له ابراهيم: كيف تحيي وتُميت؟
قال: أعمد إلى رجلين ممن قد وجب عليهم القتل، فأطلق عن واحدٍ واقتل واحداً، فأكون قد احييتُ وأمتُ. قال ابراهيم: إن كنت صادقاً فاحي الذي قتلته. ثم قال: دع هذا، فإنّ ربي يأتي بالشمس من المشرق، فات بها من المغرب. فكان كما قال الله ـ عزّ وجلّ ـ:
(فبهت الذي كفر…)
إن هذه الرواية التفسيرية، تُلقي اكثر من إنارة على الموقف. إنها ـ بعامة ـ تحدّد معنى (الصلابة) لدى الشخصيات المجاهدة. فابراهيم ـ عليه السلام ـ وهو يتقدم إلى المحرقة لا يعنيه هول النار، بقدر ما يعنيه أن يلقي كلمة (الله) إلى الآخرين، حتى انّه يقتحم مناقشةً مع شخصية بلهاء مثل نمورد، دون أن تصرفه بلاهة نمرود، هول النار من الدخول في مألمهم، انّ ابراهيم ألقى كلمته: سواء أكان ذلك عند إلقائهم اياه في النار، أو عند كسره لأصنامهم، أو عند نطاق بيئيٍ آخر…
ولهذا السبب سكتت القصةُ عن تحديد البيئة النفسية للمناقشة، واكتفت [من الزاوية الفنية] بذكر نمط المناقشة بين ابراهيم ونمرود، دون أن تدخل في التفصيلات.ناقشة تتطلّب إلقاء حجر كبير في فم الطاغية الأبلة: نمرود.
إن الأهمية الفكرية والفنية لهذه المناقشة، تتمثل في جملة من الحقائق:
منها: ان المتاع الدنيوي من مُلكٍ ونحوه يحتجز كثيراً من الأغبياء عن التفكير السليم في استكناه الحقائق.
لقد قالت القصة عن نمرود انّه [آتاه الله المُلك]:
(الم تر إلى الذي حاجّ إبراهيم في ربّه، أنّ آتاه الله الملك) وواضح، انّ القصة، لم تخلع هذه السمة (سمة المُلك) على ثمرود، عبثاً. بل تستهدف من ذلك ـ فنياً ـ لفت الانتباه إلى أنّ (الغباء) و(البلاهة) و(انغلاق الفكر)، يقف وراء هؤاء الباحثين عن المتاع الدنيوية: وقمته هي: المُلك، أو السيطرة السياسية،…
من الممكن أن يبهر (السذّج) من الناس، مُلك أو سيطرة على الرقاب، بحيث يعدّونها قمة ً لما يُسمى في اللغة النفسية بـ[التقدير الاجتماعي] من حيث نظرتهم إلى الحكام، أو من حيث نظرة الحكام إلى أنفسهم: يُعد المُلك قمة الدافع إلى [السيطرة والتفوق]ٍ لأنّه تمّلكٌ لرقاب الناس بأكملهم.
بيد إنّ التدقيق [من خلال هذه الأقصوصة] في عقلية حكام الأرض الذين لاينتسبون إلى الله… يدلنا بوضوح على مدى ماهم عليه من غباء وبلاهة وانغلاق فكر بحيث ينهارون أمام أوّل مناقشةٍ تواجههم، على نحوما سنلحظه في مناقشة إبراهيم لنمرود في قضية الإحياء والاماتة.
قصة القرية الخاوية
لقد كشفت المناقشة الفكرية بين إبراهيم ـ عليه السلام ـ وبين نمرود عن صمت هذا الأخير وكأنّ حجراً ألقي في فمه.
لقد زعم نمرود انه قادر على أن يُحي ويميت. ولما قال له إبراهيم ـ عليه السلام ـ: ان الله يأتي بالشمس من المشرق، فأت بها من المغرب… عندئذٍ بُهت، وتلفّع بالصمت المُطبق.
وعندما نعود إلى النصوص المفسرة، نجدها قد نقلت جانباً آخر سبق هذه المناقشة، وهو: زعمه بأنّ اطلاق سراح سجينٍ مثلاً، وعدم اطلاق السجين الآخر يعد إحياءً لحياة الأول، واماتة لحياة الآخر.
لكن هذه المغالطة، سرعان ما أسكتته، عندما قال له إبراهيم: أُحيي القتيل، أي: السجين الآخر…. وعندها سكت نمرود…
لكن إبراهيم ـ عليه السلام ـ أراد قطع كلّ طريقٍ للمغالطة، بحيث لا يدع مجالاً لايّة مراوغة في هذا الصدد،… لذلك، قال لنمرود: إت بالشمس من المغرب… وعندها سكت نمرود تماماً، ولفّته الحيرة والاضطراب. والحق، ان أمثلة هذه المناقشة لاتكشف عن سخف وهزال المنكرين لحقيقة السماء فحسب، بل تنطوي على جملة من الحقائق، منها:
أن الشخصيات التي تُعنى بالمُلك الدنيوي، وسائر أمتعة الحياة، يحجزها مثل هذا المتاع عن التفكير بحقيقة الانسان ومعنى وجوده العبادي في الأرض.
ومنها: انّ إنكار حقيقة السماء، لا يستند إلى أية حُجةٍ حتى لو كانت واهية، لأن هذه الحقيقة واضحة كلّ الوضوح، يضطر المنكر لها إلى أن يصمت في نهاية المطاق.
ومنها: إنّ كلاً من الإحياء والاماتة، وسائر الظواهر، تظل مرتبطة بالسماء مهما دق تصورها في هذا الصدد.
ولعل هذه الظاهرة الأخيرة، تكفلت بتحديدها، أقصوصتان أعقبتا قضية إبراهيم ـ عليه السلام ـ مع نمرود، وألقتا على الموقف إنارةً جديدة فيما يتصل ببعض أسرار التركيبة البشرية، وطريقة معرفتها بحقائق السماء، ومنها: حقيقة الاحياء والاماتة بخاصة. وأولى هاتين الاقصوصتين، أقصوصة القرية الخاوية على عروشها.
فلنقف عندها، مفصلاً…
تقول الأقصوصة:
(أو كالذي مرّ على قريةٍ وهي خاويةٌ على عروشها.
قال: أنّى يُحيي هذه الله بعد موتها.
فأماته الله مائة عامٍ، ثم بعثه.
قال: كم لبثت؟
قال: لبثتُ يوماً أو بعض يوم.
قال: بل لبثت مائة عامٍ. فانظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنّه. وانظر إلى حمارك. ولننجعلك آية للناس، وانظر إلى العظام كيف نُنشزها ثم نكسوها لحماً.
فلما تبين له،
قال: أعلم انّ الله على كل شيء قدير)
إنّ هذه الأقصوصة الممتعة فكرياًً وفنّياً، تظل حائمةً على نفس ظاهرة الإماتة والاحياء، لكنّها تصب في رافد آخر.
انها تتحدث عن واقعةٍ حدثّت فعلياً، هي إماتة القرية، ثم إماتة شخصية، وإحياءها من جديد…
الأقصوصة السابقة [إبراهيم مع نمرود] تحدثت عن الإحياء والإماتة على نحو الإجمال، وكانت (الواقعة) المستشهد بها حقيقة كونية ثابتةً هي طلوع الشمس من المشرق،… وكان المنكر لحقيقة الاماتة ولاحياء، شخصية هزيلة، اضطرت إلى الاقرار بحقيقة الامر عندما واجهت قضية الشمس.
أما هنا في أقصوصة القرية الخاوية، فان الأمر مختلف كل الاختلاف. فالشخصية [بطلة القصة] مؤمنة بالسماء، وبالاحياء وبالأماتة، وبكل شي… انها احدى الشخصيات (النبوية) قد تكون (إرميا)، وقد تكون (عزيراً)،… لكنّها ـ على أية حال ـ ذات سمة ليست مثل البشر العاديين، بل من الشخصيات المتميزة التي تتلقى تعاليمها من السماء وحياً.
والتجربة التي واجهت هذه الشخصية من نمط آخر أيضاً. انها تتصل بقريةٍ ميتة باد اهلُها وعمرانها،… وتتصل بالشخصية المارة على هذه القرية، حيث أماتها الله ، وبعثها بعد مائة عام، … ومثل ذلك قضية الدابة والطعام اللذين شكّلا راحلة المسافر وزاده… إذن: الاحداث، والمواقف، والشخصيات في الأقصوصتين تتمايز من واحدة لأخرى… كلّ ما في الأمر انّ قضية واحدة هي: [الاماتة والاحياء] تظل مادة مشتركةً بينهما.
والسؤال: ما هي دلالة الأقصوصة [القرية الخاوية] فكرياً وفنياً؟
من حيث (البيئة)، فان القرية قد رُسمت خاويةٌ على أبنيتها. وهذا المظهر الخارجي للمدينة، يشيع الرهبة والوحشة في النفوس، حيث نتحسس أرضاً خاليةً من دبيب البشر، خاليةً من العمارة، خاليةً من كل مظهرٍ حضاري، إلاّ أنقاض الأبنية.
وتقول النصوص المفسرة، أنّ (بختنصر)، زحف عيها وأبادها، وكان أهلها ـ كما نتوقع دائماً ـ من اليهود الذين عملوا بالمعاصي، فانتقم الله منهم، بطاغيةٍ من طرازهم ابادهم من المدينة تماماً. وتضيف النصوص المفسرة: انّ سباع البر والبحر والجو كانت تأكل من الجيف المتمزقة هنا وهناك.
المهم، ان هذه المدينة، خرج إليها ذات يوم، أومرّ عليها (إرميا)، ومعه دابته وزاده. ويعنينا من هذه (البئية) رد الفعل الذي أحدثته في نفس [المسافر ـ إرميا]، عندما وجدها بهذه الوحشة، مما جعلته يتساءل:
(أنى يُحيي هذه الله بعد موتها؟)
طبيعي، انّ هذا التساؤل، لا يحمل عنصر (تشكيكٍ) بالسماء وقدراتها اللامحدودة، بقدر ما يحمل شحنةً انفعالية فجرتها تلك اللحظة التي تركت في نفس (إرميا) مشاعر الرهبة والوحشة والاختناق، حتى جعلته يتحاور مع نفسه قائلاً بما معناه: لقد بادت هذه المدينة، ومسحت من خارطة العمران، ولا أمل بأن يحييها الله من جديد.
نقول هذا ونحن لا يخامرنا شكّ في ان الشخصيات (النبوية) من الممتنع أن يصدر عنها أي تشكيكٍ بقدرات السماء: كلّ ما في الأمر، ان موقف (إرميا) يُشبه موقف من يُشاهد احدى المدن التي أبادتها الحرب وحولتها إلى أنقاض، مما يجعله ـ في مثل هذه الحالة ـ مستبعداً أي أمل بعودتها جديداً بعد هذا الخراب.
وبكلمة أخرى، يمكننا أن نقول، ان الشخصية المذكورة، نظرت إلى الأسباب التي جعلها الله موقوفةً على هذه الظاهرة أو تلك، دون أن تتجاوزها الشخصية المذكورة إلى التماس ما هو خارج عن نطاق المألوف…
من هنا، جاء رد السماء سريعاً على التساؤل المذكور،… فعرض هذه الشخصية ذاتها إلى ظاهرة غير مألوفة فيما يتصل بالإحياء بعد الموت… فأمات هذه الشخصية مائة عام، ثم بعثها من جديد… حتى تطمئن تماماً إلى أنّ الله قادر على كل شيء.
وقد رافق إحياء هذه الشخصية، أكثر من ظاهرة، تشكل بمجموعها إجابةً واضحة على التساؤل المذكور.
ويعنينا الآن، أن نفصل الحديث [من الزاوية الفنية] في ظاهرة الإماتة ولاحياء في نطاق هذه الشخصية، وما عكسته من أثار في استجابتها لهذه الظاهرة، وما نفيد منه ـ نحن القراء ـ في هذا الصدد.
قلنا، إنّ المارّ على المدينة الخاوية [وهو إرميا] قد تساءل:
(أنّى يحيي هذه الله بعد موتها؟).
وقد أماته الله مائة عامٍ منذ تلك اللحظة اتي تساءل فيها، ثم: بعثه من جديد..
هنا، بعد الانبعاث، ماذا نتوقع من ردود الفعل لدى هذه الشخصية الميتة، المنبعثة؟ تقول القصة: انّه سُئل: كم لبثت في نومك؟ فأجاب: لبثتُ يوماً أو بعض يوم.
(قال: كم لبثت؟
قال: لبثت يوماً، أو بعض يوم).
المارّ على القرية، كان ـ فيما يبدو ـ مسافراً لوحده.
والشراب… اما الدليلان الاخيران، فهما على العكس من ذلك… أنه: تلاشي الشيء ثم اعادتُه الى الحياة من جديد… والفرق كبيرٌـ كما هو واضح ـ بينهما… فما هو السر الفني في ذلك؟
في تصورنا الفنّي لهذه الظاهرة: ان الاقصوصة تستهدف تقديم كافة الوجوه المعبّرة عن (قدرات الله) عزّ وجلّ، ذات الصلة بالإماتة والإحياء.
انّ السماء: كما تستطيع أن تًُبقي الشيء محتفظاً بحيويّته، قادرهٌ أن تعيد حيويه الشيء أيضاً بعد تلاشيه… الطعامُ بقي محتفظاً بحيّويته رغم انه ينبغي ان يتلاشى… وها هي الدابة قد تلاشت حيويتها، أو ها هو البطل قد تلاشت حيويته، ولكن: عادت الحيوية إليهما من جديد، رغم انهما ينبغي ألاّ يعودا…
اذن: هناك ظاهرتان تضاد احدهما الأخرى، لكنهما خاضعتان لطابع واحد هو: قدرات الله ـ عزّ وجلّ ـ بشكلها غير المحدود…
ومن البيّن، انّ تقديم دليلين لعمليتين متضادتين، يزيد من قناعة البطل بقدرات السماء…
لكننا، خارجاً عن ذلك، نجد انّ الاقصوصة تلفّع الموقف بضباب فنّي ممتع غاية الامتاع، حينما تسرد لنا قضية الدابة، وقضية عودة العظام واللحم…
ففيما يتصل بالدابة، قالت الاقصوصة موجهةً الخطاب الى بطلها (وانظر الى حمارك)… والسؤال هو: هل انّ (الدابة) ظلت محتفظةً بحياتها طلية مائة عام على نحوما لحظناه في الطعام والشراب؟ أم ان الدابة قد تلاشت وأعيدت الحياة اليها في لحظة انبعاث البطل؟؟
القصةُ ساكتةٌ عن توضيح ذلك تماماً… انها طالبت البطل بان ينظر الى الدابة دون ان تشير الى استمرارية حياتها أو عودة الحياة اليها… نعم… طالبت البطل بعد ذلك، بما يلي:
(وانظر الى العظام كيف نُنشزها، ثم نكسوها لحماً)
ولكن: هل هذه العظام، وهذا اللحم عائدان الى البطل أم الى الدابة؟
القصة أيضاً، ساكتةٌ عن ذلك… والقارىء لا يستطيع أن يجزم بشيء… بل يبقى في نشاط ذهني متواصل لمعرفة الحقيقة… القارئ لا يستطيع ان يجزم [قبل الرجوع الى النصوص المفسرة] بان العظام واللحم قد التمّت من جديد وعادت الى البطل، لانّ البطل لو كان فاقداً لبدنه، كيف يستطيع ان يشاهد عظامه وقد التئمت واكتسيت باللحم؟… مضافاً لذلك، إذا كان البطل قد شاهد عظامه ولحمه قد عادا إليه، فلماذا التبس الامر عليه، وقال: لبثت يوماً أو بعض يوم؟؟ وبكلمة أخرى: انّ البطل كان غير واعٍ أبداّ بحقيقة العظام واللحم، وإلاّ لانتبه إلى حقية (الاعجاز)، وانتبه الى انه قد لبث مدة مجهولة لا يعرف مداها، لا انها يومٌ أو بعض يوم…
وبالمقابل… لا يستطيع القارىء ايضاً أن يجزم بأنّ العظام واللحم، عائدان الى الدابة، لانّه لو شاهد مثل هذه الحادثة لما التبس عليه الامر، وتخيلّ انه لبث يوماً أو بعض يوم،… بل لانتبه الى ذلك… وبكلمة اخرى ايضاً… لو شاهد البطل عظام الدابة ولحمها قد أعيدا، حينئذٍ لأجاب السائل الذي سأله: كم لبثت؟ لأجابه بعدم العلم…
اذن: يظل القارئ والسامع في حيرةٍ من أمره قبال الجزم بهذا الشيء أو ذاك…
لكنّ الفنّ العظيم هو الذي يُثري ذهن القارئ ويعمّقه بهذا النمط من الاستجابة حيال القصة: إذ انّ كلاّ من الاحتمالين يعبر عن (الاعجاز) ذاته: سواء اكانت العظام واللحم عائدة الى البطل ام الى الدابة… المهم هو: لفت انتباهنا الى (الاعجاز)… وقد تحقق ذلك… أمّا التفصيلات فأمر آخر يستطيع القارئ أن يتعرفها في نصوص التفسير، أو يتعرفها من خلال لغة (الفن) اذا كان القارئ خبيراً بفّن القصة… وهذا ما نحاول الوقوف عليه: فنتقدم أولاً إلى النصوص المفسرة، ثم نعرض وجهة نظرنا الفنية في هذا الصدد.
فيما يتصل بالنصوص المفسرة، فانها مترددة بين الذهاب الى ان العظام واللحم، عائدان الى البطل، وبين الذهاب الى انهما عائدان الى الدابة.
لكنّ نصاً مأثوراً عن أهل البيت عليهم السلام، يؤكد بان العظام واللحم عائدان الى البطل،… ويقول هذا النص: انّ اوّل ما خلق من تركيبة البطل، عيناه، حيث شاهد بهما بعد مطالبته بالنظر الى الطعام والشراب والدابة، شاهد بهما عظامه يلتئم بعضها بالآخر، وعروقه تجري فيه.
وفي تصوّرنا الفني الخالص، أنّ هذا التفسير أقرب الى الواقع، لا لأنّه مأثورٌ عن أهل البيت ـ عليهم السلام ـ فحسب، بل لانّ الادّلة الفنية أيضاً تسعفنا في ذلك.
وقبل ان نتقدم بوجهة نظرنا النفية مفصّلاً، ينبغي لفت الانتباه الى ان ادراك هذه الحقيقة الفنّية أو تلك، انما يكتسب اهميته بقدر ما تنطوي عليه الحقيقة الفنية من دلالة (فكرية) تسهتدفها القصة في تطبيع سلوكنا حيال السماء وقدراتها التي ينبغي ألاّ يتسلّل الشك إليها حتى في نطاق تغيير القواعد التي طبعتها السماء بسمة (الثبات).
قصّة إبراهيم والطّيور
نحن الآن أما الأقصوصة الثالثة التي تسلسلت، متحدثةّ واحدةً بعد الأخرى: عن الاماتة والإحياء…
القصة اتي سبقتها، ونعني بها قصة [المارّ على القرية الخاوية]، كانت تتحدث عن بطلٍ مرّ على احدى المدن فوجدها أنقاضاً، فانفعل بهذا المشهد، وتساءل:
(أنّى يُحيي هذه الله بعد موتها؟).
وكان هدفه من هذا التساؤل هو: هل هناك من أملٍ في ان يعيد الله الحياة الى هذه المدينة!!
وجاءت الاجابةُ من الله، سريعةً على هذا التساؤل، فأمات البطل من لحظته، وابقاه مائة عام، ثم بعثه: حتى يطمئن إلى ان الله قادر على كل شيء.
أمّأ الاقصوصة التي تلتها [فيما نتحدث عنها الآن]، فتتحدث عن بطلٍ آخر، أكسبه الله مقاماً خاصاً هو إبراهيم ـ عليه السلام ـ خليل الله… انه صاحب (الحنيفية) التي لم تنسخ إلى يوم القيامة…
هذه الشخصية، تُرسم الآن (بطلاً) لأقصوصةٍ تتحدث عن الإماتة والإحياء أيضاً…
انها تتعرض لاختبار الإماتة والأحياء أيضاً، ولكن ليس ذاتها الشخصية، بل عضوية أخرى هي: الطيور.
لنقرأ الأقصوصة أولاً:
(وأذ قال ابراهيم:
(ربّ أرني كيف تُحيي الموتى.
(قال: أو لم تؤمن؟
(قال: بلى، ولكن ليطمئن قلبي.
(قال: فخذ أربعة من الطير، فصرهن إليك، ثم اجعلْ على كل جبلٍ منهّن جزءً. ثم أدُعهن: يأتينك سعياً. وأعلمٍْ انّ الله عزيزٌ حكيم).
هذه الاقصوصة تتضمن (موقفاً) هو: الاطمئنان، واليقين بقدارت الله ـ عزّ وجلّ ـ في احياء الموتى، عملياً.
وتتضمن (واقعةً) هي: تقطيع الطيور وتفريقها على عدّة جبال، ثم: عودة الحياة إليها.
وتتضمن نمطين من (الأبطال)، أحدهما: ابراهيم عليه السلام، والآخر من عضوي الطير، متمثلاً في أربعةٍ منها.
الاقصوصة بما تتضمنه من وقائع ثلاث [تقطيع الطير، تفريقها على الجبال، عودتها الى ابراهيم عليه السلام]… هذه الاقصوصة بما تتضمنه من وقائع: تظل من النوع الممتع، المدهش، المثير…
الموقف نفسه: ممتعٌ ومثير ايضاً… ابراهيم ـ عليه السلام ـ يريد أن يطمئن إلى عملية (الاحياء)… مع انّه ابراهيم عليه السلام!!
لكن: لنتابع تفصيلات الموقف…
إنّ أوّل سؤال يثار في هذا الموقف هو: لماذا سأل ابراهيم ـ عليه السلام ـ عن كيفية إحياء الموتى؟ أو لم يعلم ان الله محيي الموتى؟.. انه يعلم ذلك كلّ العلم… انه أراد ان يتيقّن… ولكن: ألم يكن ابراهيم ـ عليه السلام ـ متيقّناً من ذلك؟
لنتجه أولاً الى النصوص المفسرة، ثم نصل بينها وبين الصياغة الفنّية للاقصوصة. يقول احد النصوص بما مؤداه: ان ابراهيم ـ عليه السلام ـ سأل عن [كيفية الاحياء] وهو أمرٌ يجهله كل البشر طالما لم يُشاهد تجريبياً.
وبكلمة أخرى، يمكننا ان نصوغ القضية على هذا النحو:
الموتى يبعثون يوم القيامة، أي في زمنٍ لم يحن بعدُ… وإبراهيم ـ عليه السلام ـ يطلب من الله ـ عزّ وجلّ ـ أن يريه كيفية عودة الروح الى العظام، أو كيفية عودة العظام والتحامها في تركيبة جسمية بعد تفرقها أو تلاشيها…
هنا، ينبغي أن نتذكر أن القصة السابقة [قصة المار على القرية الخاوية] تضمّنت كيفية عودة العظام واللحم المتلاشيين أو المتفرقين، لتركيبة المارّ على القرية أو دابته…
هذا التجانس ـ فنياً ـ أو وحدة الموقف من خلال تماثل العمليتين، له إمتاعه الجمالي والفكري فيما يتصل بالبناء الهندسي للاقصوصتين…
ولكن… لنتابع النصوص التفسيرية الاخرى…
النص التفسيري الاول، أوضح بان ابراهيم ـ عليه السلام ـ طلب أمراً مجهولاً لاغبار عليه أبداً… بل على العكس من ذلك،… انه مفصحٌ عن ثقته ـ عليه السلام ـ بالله ـ عزّ وجلّ ـ الى الدرجة التي يطلب من خلالها عمليةً لم يجيء زمانها بعد… وهذا منتهى الثقة بالله: في تصورنا. بمعنى: انه واثق بانّ الله يجيبه الى طلبه… وهل هناك ثقة بالله، اكبر من هذه الثقة التي تطلب مالم يتحقق زمنه بعد!!
هناك نص تفسيري آخر يقول بما معناه:
إن الله اوحى إلى ابراهيم ـ عليه السلام ـ إلى انّه سيصبح (خليل) الله، والى انه إذا سأل إحياء الموتى، لأجابه الله…
هذا النص بدوره، يُشكّل سمةً ايجابيةً لها أهميتها دون أدنى شك.
إنّ عباد الله المخلصين، المتفانين في محبة الله، المنخلعة أفئدتهم من مهابة الله، الذين ما راموا منه بدلا، ولا ابتغوا عنه حولا… هؤلاء الذين يقف ابراهيم ـ عليه السلام ـ في مقدّمتهم… عندما يوحى إليه بأنّه سيصبح (خليل) الله… عندئذٍ: ماذا نتوقع من استجابة ابراهيم، وردّ فعله حيال هذه المنحة العظيمة التي اغدقها الله على ابراهيم عليه السلام… وهل هناك منحةٌ أعظم من ان يكون ابراهيم خليلاً لله عزّ وجلّ…؟؟
اذن: كيف لا يطلب ابراهيم من الله ان يريه احياء الموتى، حتى يكون ذلك شاهداً يطمئن به قلبه إلى ان الله قد اتخذه خليلا… إنّ المصطفين من العباد، كلمّا اوغلوا في محبة الله، وعبادته،… يحسون بالتقصير، وبانهم لم يؤدّوا ما لله من حق في العبادة…
اذن: كم هي فرحتهم من الشدة، حين يوحى إليهم بأنهم (احياء) الله؟؟ اليس هذا بمسوغ لأن يطمئنوا بذلك، ويطلبوا ما يحقق هذه المعطيات؟
ولنتقدم الى نص تفسيري ثالث.
يقول هذا النص بما مؤداه: ان ابراهيم ـ عليه السلام ـ شاهد على ساحل البحر، جيفةً تأكلها وحوش البر والبحر، ويثب بعضها على بعض، آكلاً بعضه البعض الآخر… فاخذته الدهشة، وطلب اراءة إحياء الموتى…
هذا النص بدوره، يسوغ طلب ابراهيم ـ عليه السلام ـ على نحوما عقبّنا عليه في النص التفسيري الاول.
وهناك نص تفسيري رابع، يضيف الى ما تقدم: ان ابراهيم ـ عليه السلام ـ شاهد أعمالاً منكرةً لبعض الاشخاص، فدعا عليهم،… واستجيب دعاؤه،… فأوحي إليه عندئذٍ: لا تدعُ على عبادي… وبعدها: شاهد قضية الوحوش السابق ذكرها.
وهناك اكثر من نص تفسيري ـ سوى ما تقدم ـ يُشير الى ان العملية تتصل بمجرد الاطمئنان واليقين [من خلال تجربة حسية] مفصحة عن مفروضية [اليقين بالغيب]، أي: الزيادة في اليقين، وليس مسح الشك وإبداله بيقين… اذ ثمة فارق بين (شاك) يطلب دليلاً يمسح عنصر الشك لديه، وبين (مؤمن) يريد أن يزداد ايماناً الى ايمان…
والمهم، أياً كان الأمر… فان القضية تظل متصلةً بطبيعة التركيبة الآدمية التي يصل (اليقين) لديها الى درجة، تطلب من خلالها زيادة على ذلك…
اما اذا انسقنا مع النصوص التفسيرية السابقة، فإنّ الامر يظل ذا وضوح أشد، وبخاصة: اذا اخذنا بنظر الاعتبار، ما سبق ان قلناه: من انّ التطلّع الى رضى الله عزّ وجلّ، والتلهفّ الى مشاهدة ما يُشير الى انه ـ عزّ وجلّ ـ في صدد ان يتّخذ ابراهيم (خليلاً) له،… حينئذٍ، فانّ (المحبين) لله خالصاً، (المريدين) له، (العارفين) به… تظل فرحتهم بهذه المعطيات، لا حدّ لها… بحيث تدفعهم إلى المطالبة بما يطئمن به القلب: من ان الله يُحبّهم…
وأياّ كان الامر، فاننا حين ندع الجانب (الفكري) من الاقصوصة ونتّجه الى جانبها الفني، نجد ان رسم الحادثة قد تميّز بملامح متنوعة، منها:
ـ التقطيع: (فخذ اربعة من الطير، فصرهن اليك).
2ـ التفريق: (اجعل على كلّ جبلٍ منهن جزء).
3ـ الاحياء: (ادعهنّ ياتينك سعياً).
ومع الاستعانة بالنصوص المفسرة، تواجهنا تفصيلات للملامح الثلاثة المذكورة أو لبعضها. فقد ورد عن عملية التفريق بانها تمثلت في توزيع الشرائح على عشرة جبال. وعن عملية الإحياء، ان ابراهيم ـ عليه السلام ـ اخذ بمناقيرهن، فائتلف لحم كل منها الى رأسه اليه…
وبالرغم من انّ مجرد فصم الرأس مثلاً، ووضع الطيور في مكان واحد، وإحياءها في المساحة الزمنية والمكانية قرباً وسرعة، مفصحٌ عن عملية (الاعجاز)، الاّ ان رسم التباعد مكاناً وتكثيرة عدداً: جبالاً وشرائح، لينطوي على معطى جمالي وفكري يتحسسه القارئ بوضوح. اما المعطى الجمالي فيتمثل في الابعاد الثلاثة لكلٍ من قطيع الطير والجبال وعددها: حيث يأخذ الامتاع نصيباً ضخماً حيال تصورنا لعشرة جبال تتجاور أو تتباعد، تتعالى أو تقصر،… والامر نفسه فيما يتصل بقطع الطير المتناثرة،… ثم: التصور لعملية التحام الاجزاء واجتماعها لحماً وعظماً ودماً… كل اولئك يصبح ذا معطى يساهم ـ من خلال جمّالية الحدث ـ في تصعيد لحظات الانبهار والرهبة والتأمل نحو السماء وامكاناتها التي لا حدود لها.
المصدر: درسات فنية في قصص القُرآن/ الدكتور محمود البستاني