العربية :
لم تكن مذبحة واحدة بل مذبحتين تبعتهما إبادة راح ضحيتها أكثر من مليون أرمني على يد العثمانيين الذين مازال أحفادهم وحكامهم حتى اليوم يواجهون تنديداً دولياً وغضباً واسعاً، بسبب هذه المذابح التي سجلت كواحدة من أسوأ الجرائم ضد الإنسانية.
كيف بدأت مذابح الأرمن على يد العثمانيين؟
تعود القصة إلى عام 1876 عقب تولي السلطان عبد الحميد الثاني، حيث كانت قبل ذلك مطالبات بإصلاحات دستورية في الدولة العثمانية وبفكرة المساواة بين الملل والعرقيات الخاضعة لحكمها. وخلال النصف الأول من القرن التاسع عشر، كان للأرمن مكانة في تركيا، ونفوذ واسع، حيث ضمت الحكومة العثمانية 23 وزيراً منهم.
من جهته، قال علي ثابت، مدرس مادة بقسم التاريخ بكلية الآداب جامعة دمنهور، لـ”العربية.نت”، إن السلطان عبد الحميد الثاني، وعقب توليه السلطة، كان مدحت باشا، أحد أهم الإصلاحيين في الدولة العثمانية، مقرباً منه، وطالبه بإعداد الدستور. وأعلن بالفعل عن دستور جديد للبلاد في نفس العام، لكن ما حدث بعد ذلك أن السلطان عبد الحميد ولسبب غير معروف أوقف العمل بالدستور، ونفى مدحت باشا وكل الإصلاحيين خارج البلاد.
وفي تلك الأثناء، طرح السلطان عبد الحميد فكرة الجامعة الإسلامية للملمة بقايا الدول التابعة لحكم العثمانيين، وحاول من خلال هذه الفكرة الحصول على تأييد الدول المسلمة، إضافة إلى مكانة روحية تتيح له من جديد السيطرة على دول الولاية العثمانية.
وفي ظل هذا الطرح أصبح الأرمن عنصراً مخالفاً للفكرة والتوجه، وبدأوا في الضغط والمطالبة بإصلاحات في الولايات التي يقيمون ويتركزون فيها، وهي “فان” و”أرضروم” و”بتيليس” و”معمورة العزيز” و”ديار بكر”. وساندهم في ذلك روسيا التي استغلت مطالبات الأرمن للضغط على العثمانيين والوصول للمياه الدافئة في مضيقي البوسفور والدردنيل. كما ضغطت بريطانيا للحصول على نصيب في الكعكة وساندت الأرمن بالفعل وحصلت على ما أرادت.
وبسبب تدخل الروس وتزايد مطالبات الأرمن، نشبت الحرب الروسية العثمانية عام 1877، واستمرت لمدة عام، وانتهت بهزيمة العثمانيين. وبعدها تم توقيع معاهدة سان ستيفانو، وحصل الأرمن لأول مرة في تاريخهم على المادة 16 التي تقضي بقيام الدولة العثمانية بعمل إصلاحات في الولايات الأرمينية وبإشراف روسي.
وهنا شعرت بريطانيا بنفوذ روسي قوي في تلك البقعة وإمكانية تهديد الروس لطريق التجارة العالمي فاعترضت على المعاهدة، وطلبت مفاوضات جديدة. وحدثت المفاوضات وانتهت بتوقيع اتفاق برلين في أيار/مايو 1878. وقبلها بشهور قليلة، وقعت بريطانيا مع الدولة العثمانية اتفاقية دفاع مشترك حصلت بموجبها على جزيرة قبرص من العثمانيين، ما ساعدها على الوصول لميناء الإسكندرية، واحتلال مصر عام 1882، وهو الهدف الذي كانت تسعى من أجله واستغلت قضية الأرمن لذلك.
ولفت ثابت إلى أنه في معاهدة برلين حصل الأرمن على ما عرف بالمادة 61 التي تقضي بأن تقوم الدولة العثمانية بإصلاحات في الولايات الأرمينية مع إخطار الدول الكبرى، وظهر لأول مرة هنا مصطلح تدويل القضية الأرمينية.
المذبحة الأولى “الحميدية”.. 100 إلى 150 ألفاً
لم تنفذ الدولة العثمانية نص المادة 61 من معاهدة برلين، واتبع السلطان عبد الحميد سياسة التسويف والمماطلة. ووقتها ظهرت فكرة العمل السياسي العلني وأنشأ الأرمن أحزاباً سياسية للدفاع عن قضيتهم، منها حزب الأرمنيجان، الذي أسسه مواطن أرمني يدعى برتقاليان، ثم ظهر حزب آخر هو حزب الهانشاك أعقبه ظهور حزب التشناك عام 1891.
بعدها أسس السلطان عبد الحميد ما عرف بالفرق الحميدية، وهي فرق أو ميليشيات مسلحة مكونة من الأكراد المعروف عنهم تعصبهم. وبدأ السلطان في تغذية أفكارهم بأن الأرمن “كفار”، ويشكلون خطراً على الدولة الإسلامية والجامعة الإسلامية. وهنا بدأت المذبحة الأولى، ووقعت بين تلك الفرق والأرمن في الفترة ما بين عام 1894 وحتى عام 1896، وراح ضحيتها ما بين 100 ألف إلى 150 ألفا.
وأضاف ثابت: “هذه المذبحة سميت بالمذبحة الحميدية نسبة للسلطان عبد الحميد، وبسببها أطلق عليه في وسائل الإعلام الغربية السلطان الأحمر نسبة للدم”.
وتابع: “الدول الكبرى أرسلت إنذارات وتهديدات للسلطان الذي ألغى مشروع الجامعة الإسلامية وطرح الأحرار العثمانيون فكرة العثمنة أو الرعوية العثمانية، وهي التي استغلها اليهود في الدخول وشراء الأراضي الفلسطينية، بل قاموا بتصوير الأماكن الخالية في فلسطين وأرسلوها للصحف الأجنبية. وكان أقطابهم ينشرون بجوار هذه الصور معسكرات اليهود في أوروبا وروسيا للمقارنة، ويكتبون تحتها هنا شعب بلا وطن وهناك وطن بلا شعب، وكان هذا هو النواة الأولى لمشروع وعد بلفور”.
المذبحة الثانية.. 30 ألفاً
أرغم السلطان عبد الحميد على إعلان الدستور عام 1908 بعد ضغوط من حزب الأحرار العثمانيين بقيادة صباح الدين محمود باشا، أعقبه خلع السلطان.
وحدثت صراعات بين أنصاره ممن أطلق عليهم الرجعيون الراديكاليون، وأعضاء الأحرار الدستوريون. وفي خضم تلك الصراعات، وقعت مذبحة الأرمن الثانية عام 1909وراح ضحيتها 30 ألف مسيحي، غالبيتهم من الأرمن.
وأشار ثابت إلى أن “الأزهر الشريف ورغم خضوع مصر وقتها للحكم العثماني أصدر شيخه سليم البشري فتوى تحرم قتل الأرمن، ووجه رسالة للمسلمين في تركيا بأن يتقوا الله في كافة الرعايا من كافة الأديان. وقام محامٍ مصري يدعى حسين صبري بتصوير نحو 25 ألف نسخة من تلك الفتوى وإرسالها على نفقته إلى تركيا لوقف مذابح الأرمن”.
أفظع جرائم الإنسانية
كما أضاف أنه “عقب تلك الأحداث، خرجت في تركيا فكرة جديدة لجمع ما تبقى من الدولة. فتم اقتراح عمل دولة تركية نقية الدماء والتخلص من كافة الملل الأخرى وتهجيرها. وعقب اندلاع الحرب العالمية الأولى عام 1914، بدأ العثمانيون تنفيذ الفكرة مستغلين انشغال العالم كله بالحرب. وبدأت حملات تهجير الأرمن قسراً، وأطلقت السلطات كافة المسجونين ممن أطلق عليهم المتوحشون، وشكلت منهم ميليشيات لمرافقة الأرمن المهجرين إلى حلب في سوريا. وخلال تلك الرحلة، ارتكبت أفظع الجرائم الإنسانية”.
مليون ونصف المليون!
سار الآلاف من الأرمن على أقدامهم في ظروف قاسية، دون طعام أو شراب، إلى حلب. وتسابق المتوحشون من الميليشيات العثمانية إلى بقر بطون الحوامل من النساء والرهان على نوع الأجنة في بطونهم، وقتل من يتوقف منهم عن السير طلباً للراحة. إلى ذلك، ارتكبت مذابح وثقها محامٍ سوري يدعى فايز الغصين كان في تلك الأثناء منفياً. وفي طريقه للمنفى شاهد بعينيه تلك الفظائع وجمعها في كتاب له أطلق عليه “المذابح في أرمينيا”، صدر عام 1917 ونشرت مقتطفات منه صحيفة “المقطم” المصري.
وأوضح ثابت أن عدد الضحايا في تلك المذابح بلغ مليونا ونصف المليون بحسب الأرقام التي أعلنها الأرمن، بينما قالت الحكومة العثمانية إن العدد لا يتجاوز 700 ألف أرمني، مضيفاً أن الشريف حسين، جد الملك عبد الله الثاني ملك الأردن حالياً، أصدر وقتها مرسوماً لجميع القبائل بإيواء الأرمن واستضافتهم وحمايتهم مما يتعرضون له من مذابح، فيما جمعت المدن المصرية أموالاً لرعاية المهجرين منهم، الذين فروا من رحلات التهجير الجماعي والمذابح الجماعية ولجأوا إلى مصر.