موقع الأنبا تكلا هيمانوت :
قال د. أحمد حجازي السقا في مقدمته لترجمة التوراة السامرية (والتي أنجزها الكاهن السامري أبو الحسن إسحق الصوري) أن عزرا هو الذي كتب التوراة لليهود، وسلمها لهم بعد العودة من السبي، ولكن بسبب العداء الشديد بين العبريّين والسامريّين لذلك اختلفت التوراتان، ويعلل الدكتور مصطفى محمود لماذا لم يقبل السامريون سوى أسفار موسى الخمسة فقط؟ فيقول ” ويختلف اليهود والسامريون بشأن التوراة.. فالسامريون لا يعترفون إلاَّ بالأسفار الخمسة الأولى من التوراة من آدم إلى موسى، وينكرون الباقي بحجة وجيهة أنها أسفار تاريخية ومذكرات تروي أحداثًا وقعت لبني إسرائيل بعد موسى بمئات السنين.. ولا يد لموسى فيها.. وإنما هي كتابات كتبها أصحابها، ولا يصح تضمينها في الكتاب المقدَّس“(1).
كما يقول د. مصطفى محمود أيضًا ” يقول أكستائن أعلم علماء المسيحية في القرن الرابع أن اليهود حرَّفوا النسخة العبرانية من التوراة خاصة ما ورد في بيان زمان الأكابر الذين قبل الطوفان إلى زمن موسى.. فعلوا هذا لتصير النسخة اليونانية غير معتبرة ولعناد الدين المسيحي، ويفهم من هذا الكلام أن النسخة اليونانية محرَّفة هي الأخرى لأنها منقولة عن العبرانية. ومعلوم أن النسخ الثلاثة الأصلية المعتمدة من التوراة وهي النسخة العبرانية واليونانية والسامرية.. بها اختلافات جوهرية.. فنحن نقرأ في النسخة السامرية أن آدم عاش في زمن الطوفان وأنه أدرك نوحًا وعاش معه 223 سنة، وفي النسخة العبرانية نقرأ أن آدم قد مات قبل نوح بمقدار 126 سنة، وفي النسخة اليونانية نقرأ أن آدم مات قبل ولادة نوح بمقدار 732 سنة، فأيهما نصدق وأيهما نكذب علمًا بأن النسخ الثلاثة اتفقت على أن عمر آدم 930 سنة. لا نزاع في أن مثل هذا الخلاف موجب لرفع الثقة عن النسخ الثلاثة وهو دليل قاطع على أن الله لم يحفظ التوراة من العبث”(2).
ج:
1- سقطت السامرة في القرن الثامن قبل الميلاد على يد ” شلمناصر ” ملك آشور، فأجلى بني إسرائيل عنها ” في السنة التاسعة لهوشع أخذ ملك آشور السامرة وسبى إسرائيل إلى آشور وأسكنهم في صلح وخابور نهر جوزان وفي مدن مادي.. وآتى ملك آشور بقوم من بابل وكوث وعوَّا وحماة وسفروايم وأسكنهم في مدن السامرة عوضًا عن بني إسرائيل فامتلكوا السامرة وسكنوا في مدنها” (2 مل 17: 6، 24) ومن تبقى من أسباط بني إسرائيل العشرة تزاوج مع شعوب الأرض ” وكان في إبتدأ سكنهم هناك أنهم لم يتقوا الرب فأرسل الرب عليهم السباع فكانت تقتل منهم. فكلَّموا ملك آشور قائلين إن الأمم الذين سبيتهم وأسكنتهم في مدن السامرة لا يعرفون قضاء إله الأرض فأرسل عليهم السباع فهي تقتلهم لأنهم لا يعرفون قضاء إله الأرض. فأمر ملك آشور قائلًا أبعثوا إلى هناك واحدًا من الكهنة الذين سبيتموهم من هناك فيذهب ويسكن هناك ويعلمهم قضاء إله الأرض. فأتى واحد من الكهنة الذين سبوهم من السامرة وسكن في بيت إيل وعلَّمهم كيف يتَّقون الرب” (2 مل 17: 25-28) وبهذا صار الشعب السامري خليطًا من بني إسرائيل والأمم.
2- لم يقبل السامريون من الأسفار المقدَّسة سوى أسفار موسى الخمسة، وقد زعموا بأن أقدم مخطوطة لديهم ترجع إلى أبيشوع بن فينحاس بن العازر بن هارون، ولكن زعمهم هذا مبالغ فيه، فأقدم ما لديهم من مخطوطات يرجع إلى القرن الخامس قبل الميلاد، وقد كُتبت بصورة معدلة من الخط العربي القديم أو الخط الكنعاني الشبيه بالكتابة على حجر موآب، والنقش في سلوام، وألواح لخيش، وعلى الأخص ببعض مخطوطات قمران، فهي تُعتبر ترجمة للنص العبري، والنسخة السامرية محفوظة في مجمع نابلس، وتُعرف ” بدرج أبيشا ” إذ ينسبونه إلى ” أبيشا ” أحد أحفاد موسى، وقد تلف الجزء الأكبر منها فلم يتبق منها سوى الإصحاحات الثلاث الأخيرة من العدد بالإضافة إلى سفر التثنية، ومن أقدم النسخ للتوراة السامرية نسخة مدوَّن عليها ملحوظة وهي أنها بيعت سنة 1150م، 1204م، ونسخة ثالثة يرجع تاريخها إلى 1212م محفوظة بمكتبة ايلندز في مانشستر. عرف العلامة أوريجانوس في القرن الثالث ويوسابيوس القصيري والقديس جيروم هذه النسخة السامرية، فإن علماء الغرب لم يتعرفوا عليها إلاَّ بعد اكتشاف مخطوطة دمشق سنة 1616م بيد ” بيترو ديلا فال ” Pietro Della Vale، وتمسك السامريون بعبادة الإله الواحد، واحتفظوا بأسفار موسى الخمسة لا غير، وحفظوا الأعياد الثلاثة الرئيسية فقط وهي أعياد الفصح ويوم الكفارة وعيد المظال(3).
وقد غيَّر هؤلاء السامريون في توراتهم لتتفق مع ميولهم السياسية ومعتقداتهم الدينية، فجعلوا المكان الذي اختاره الله لتقديم العبادة فيه هو جبل جرزيم وليس أورشليم، كما ترفض التوراة السامرية ظهورات الله في العهد القديم، مثل ظهوره لإبراهيم مع ملاكين، أو ظهوره في العليقة لموسى، وتنسبها لملاك الرب، ويقول القس صموئيل يوسف ” وقد أجرى السامريون تعديلات كثيرة في أسفار التوراة (الخمسة) لتناسب اهتماماتهم التاريخية والعقائدية، ولا يُعرف بالضبط من المسئول عن إجراء هذه التعديلات.. ويرى ” كاهل ” Kahle بأن ما يقرب من ستة آلاف كلمة أو عبارة عُدلت في أسفار السامريين، وتختلف عن ما جاء في النص المازوري. كما أضافوا تفسيرًا مطولًا بعد (خر 20: 17، وتث 5: 21) تضم في الأساس مادة من (تث 11: 19 – 30) وفي (تث 27: 2- 7) صار فيها جبل جرزيم بديلًا لجبل عيبال. كماغيَّر السامريون أيضًا التعبير “مقابل الجلجال” في (تث 11: 30) إلى “مقابل شكيم” متجاهلين الاعتبارات الجغرافية بسبب عقائدي أيضًا”(4).
3- التعديلات التي جرت في التوراة السامرية قديمة، فإنه عندما تم اكتشاف نسخ من التوراة السامرية ضمن مخطوطات قمران وُجِد أنها تحمل نفس التعديلات، ويقول فراس السواح ” كان علماء الكتاب يقفون موقف الحذر من الأسفار السامرية، معتقدين أن الاختلافات فيها إنما هي من صنع السامريين، لتثبت معتقداتهم في مواجهة اليهود والدفاع عن وجهات نظرهم تجاههم، إلاَّ أن مخطوطات البحر الميت قد أثبتت وجود أصل عبري قديم للتوراة السامرية، ففي الكهف الرابع من كهوف قمران، تم العثور على بقايا من مخطوط قديم لأسفار موسى الخمسة، يتفق مع التوراة السامرية ضد النص التقليدي والترجمة السبعينية“(5).
4- قول د. أحمد حجازي السقا بأن عزرا هو الذي كتب التوراة وسلمها لكل من السامريين واليهود، وبسبب العداء الشديد بينهما حدثت الاختلافات، فإن هذا الرأي يجانبه الصواب للأسباب الآتية:
أ – كيف يقبل السامريون التوراة من عزرا وهم في حالة عداء شديد مع مملكة يهوذا؟!
ب- لو كان السامريون قد تسلموا من عزرا أسفار العهد القديم كاملة، فكيف يحتفظون بخمسة فقط ويرفضون كل ما تبقى من أسفار مقدَّسة؟!
5- قول الدكتور مصطفى محمود بأن السامريين رفضوا بقية أسفار العهد القديم لأنها ليست أسفار تاريخية، قول جانبه الصواب للأسباب الآتية:
أ – لو قلنا أن السامريين قد رفضوا بقية الأسفار المقدَّسة العديدة لأنها تشمل أمورًا تاريخية، فهذا قول مجاف للحقيقة، لأن هناك أسفار نبوية، وأسفار شعرية. ثم أن أسفار موسى الخمسة شملت تاريخ الخليقة وتاريخ الآباء وتاريخ بني إسرائيل من مصر للبرية ورحلاتهم في البرية حتى الوصول إلى حدود أرض الموعد، فلماذا لم يرفضوا هذه الأسفار أيضًا بسبب ما اصطبغت به من صبغة تاريخية؟!!
ب- لو قلنا أن السامريين يرفضون فقط تاريخ مملكة يهوذا، فلماذا لم يقبلوا سفري يشوع والقضاة وغيرهما مما يشمل تاريخ مملكة بني إسرائيل قبل الانقسام في زمن رحبعام؟!!
6- قول الدكتور مصطفى محمود بأن السامريين رفضوا بقية الأسفار لأنها لم تكتب في زمن موسى ولا بيده، قول مردود عليه، لأن موسى لم يكن النبي الوحيد في العهد القديم، بل هناك أنبياء كثيرين جاء ذكرهم في العهد القديم، بل وجاء أسماء كثير منهم في القرآن معترفًا بنبوءاتهم.. فلماذا تُرفض أسفارهم؟!!
7- استنتاج الدكتور مصطفى محمود أو غيره بأن اليهود حرَّفوا توراتهم العبرانية حتى تصبح النسخة اليونانية غير مقبولة ويرفضها المسيحيين، قول مردود عليه للأسباب الآتية:
أ – من المستحيل أن يد إنسان يهودي مخلص تعبث بكلام الله وتمتد إليه بالتحريف، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في أقسام أخرى.
ب- قال كستائن أن اليهود حرَّفوا النسخة العبرانية حتى تصير النسخة اليونانية غير معتبرة، وذلك نكاية في الدين المسيحي، ويرى د. مصطفى محمود أن معنى هذا أن النسخة اليونانية الأخرى محرَّفة لأنها منقولة عن العبرانية، وعندما نتأمل في هذا نجد فساد المنطق.. لماذا..؟ لأنه طبقًا لكلام كستائن أنه أولًا: تمت الترجمة من العبرانية لليونانية، وثانيًا: بعد أن تمت الترجمة وظهرت التوراة اليونانية للوجود، حرَّف اليهود توراتهم العبرانية ليشك الناس في الترجمة اليونانية والتي تبنتها الكنيسة المسيحية، ومعنى هذا أن الترجمة تمت أولًا قبل تحريف التوراة العبرانية، وبالتالي فإن الترجمة اليونانية صحيحة تمامًا.. فلماذا يطعنون فيها إلاَّ لحاجة في نفس يعقوب؟!
جـ- لو تعرضت التوراة العبرانية للتحريف، فكيف شهد لها السيد المسيح له المجد مع رجال العهد القديم والجديد من الأنبياء القديسين؟! وكيف شهد القرآن لها بأنها نور وهدى.. إلخ؟!!
د – الاختلاف في الأرقام موضوع له ما يبرره، ولنا عودة لهذا الموضوع في هذا الكتاب. أما التحريف وترك التوراة للعبث فموضوع يرفضه العقل، إذ كيف يتخلى الله عن كلماته لتُبدَّل ويعجز عن حفظها، ولنا عودة أيضًا لهذا الموضوع.
8- المرجع الأول للتوراة، وما يقره اليهود والمسيحيون هو التوراة العبرانية وليست السامرية. أما الترجمة السبعينية فإن اليهود لا يرضون عنها، لأنها أخرجت إرثهم من حيازتهم للعالم كله، فبعد أن كانوا هم فقط الذين يملكون التوراة وفيها شرع الله، صارت للعالم كله عبر المسيحية. وقد نظر المسيحيون ويهود الشتات للترجمة السبعينية بعين التقدير الشديد، فيقول القديس إيريناؤس في كتابه “ضد الهرطقات”.. ” بطليموس.. طلب إلى شعب أورشليم أن يترجموا كتبهم المقدَّسة إلى اليونانية، فأرسلوا إليه سبعين شيخًا حازقًا في الكتب المقدَّسة، وفي اللغتين العبرية واليونانية لينفذوا له مشيئته، وإذا رغب أن يختبر كل واحد منهم منفردًا خشية أن يتشاوروا مع بعضهم بعضًا لإخفاء الحق الكائن في الكتب المقدَّسة عند ترجمتها، عزل كل واحد عن رفيقه، وأوصاهم أن يكتبوا ترجماتهم. فلما اجتمعوا معًا في مكان واحد أمام بطليموس، وقارنوا ما كتبوه وترجموه تمجد الله، وأقروا أن الأسفار هي بالحقيقة إلهية، لأنهم جميعًا رأوا ما ترجموه، فكان نفس الكلمات والأسماء من البداية حتى النهاية، وشهد بذلك الوثنيون الحاضرون أنها تُرجمت (بوحي إلهي) وليس في هذا عجب“(6).
ويقول “فيلو” اليهودي ” أن مؤلفيها لم يكونوا مجرد مترجمين بل يمكن أن يدعوا بحق أنبياء“(7) وهكذا اعتبر يوستينوس أيضًا أن المترجمين للترجمة اليونانية السبعينية هم بحق أنبياء، وعظَّم يوسيفوس المؤرخ اليهودي هذه الترجمة، كما عظَّمها كل آباء المسيحية، وتسلمتها الكنيسة المسيحية في القرن الأول الميلادي بتقدير كبير وكعمل مُلهم من الروح القدس، بينما اعتبر يهود فلسطين أن اليوم الذي تمت فيه هذه الترجمة يوم أسود لأن شريعة الأمة اليهودية تسربت إلى الأمم، وفرح يهود الشتات بهذه الترجمة كثيرًا فجاء في دائرة المعارف للبستاني ” أن الإسرائيليين الذين كانت لغتهم يونانية، كانوا يقرأون تلك الأسفار في اجتماعاتهم في زمان شتات شملهم، وكانت معتبرة عندهم، وكانوا يسمونها كتبًا مقدَّسة كالكتب العبرانية“(8).
_____
الحواشي والمراجع لهذه الصفحة هنا في موقع الأنبا تكلاهيمانوت:
(1) التوراة ص 11.
(2) المرجع السابق ص 97، 98.
(3) راجع دائرة المعارف الكتابية جـ 4 ص 324، 325.
(4) المدخل إلى العهد القديم ص 59.
(5) الحدث التوراتي والشرق الأدنى القديم ص 221.
(6) ذكي فلتاؤوس – الكتاب المقدَّس عبر العصور جـ 1 ص 90.
(7) المرجع السابق ص 89.
(8) المرجع السابق ص 90.
رابط :
https://st-takla.org/books/helmy-elkommos/biblical-criticism/311.html