DW :
رفضت تقريبا جميع الدول الأوروبية عودة “الدواعش” من سوريا والعراق، غير أن كوسوفو تنتهج طريقاً مختلفاً من خلال استعادة رعاياها. تحقيق حصري لـ DW يكشف أيضا دور المال الخليجي في تطرف “دواعش كوسوفو”؟ .
عودة تحت جنح الظلام
تنسيق العملية بين جميع المعنيين، قض مضجع منصور لعدة أيام، خصوصا في غياب أي علاقات رسمية مع “قوات سوريا الديموقراطية”، التي تسيطر على منطقة واسعة في شمال سوريا. وكانت الولايات المتحدة هي التي جعلت هذه العودة ممكنة، بتنسيق مع حلفائهم الأكراد.
تم تطويق المطار بعد نزول 32 امرأة و 74 طفلاً وأربعة رجال من الطائرة. تم اقتيادهم بعدها إلى حافلات معتمة النوافذ. نقل الرجال إلى سجن بودوييف المشددة الحراسة، فيما خضعت النساء والأطفال للفحص الطبي والنفسي في مركز الوصول. “كانوا في حالة سيئة جدا.. ليس من الناحية الطبية فقط” على حد تعبير منصور.
منصور في منتصف الأربعينيات، قوي البنية بتقليعة شعر قصيرة، يعرف تمام المعرفة أن الجزء الأصعب من العمل لا يزال أمامه، وأن إدماج العائدين الداعشيين سيكون تحديا كبيرا أمام بلده. وهو أحدث دولة أنشأت في أوروبا.
دولة الخلافة في العقول
تأثير ايديولوجية “الدولة الإسلامية” يظهر جليا في حالة فلورا (اسم مستعار). مثل العائدين الجدد، عادت فلورا منذ نصف عام تقريبا إلى وطنها. وهي تخضع كباقي العائدين لمراقبة دائمة ولإقامة جبرية في منزل والديها في قرية زراعية صغيرة في كوسوفو. يبدو المشهد هادئا وهي تجلس تحت ظل شجرة البلوط. غراب، ديوك ، قطة تتجول، زهرة عباد الشمس تتأرجح في مهب الريح. غير أن النوافذ المكسورة لمنزل والديها تؤشر على حالة الفقر المدقع الذي تعيش فيها الأسرة.
تلبس باقي نساء الأسرة تنورات ملونة واسعة وطويلة ملونة، عكس فلورا (22 عاما)، ذات الجسم النحيف التي ترتدي نقابا أسودا يغطيها من الرأس إلى أخمص القدمين، ولا يظهر سوى فتحة العينين الضيقة.
عاشت فورا خمس سنوات في كنف دولة داعش الإرهابية، ولا تريد خلع نقابها بالكامل حتى في البيت. وتؤكد أن الدين لا يزال يلعب دورًا كبيرًا في حياتها، فيما يتجول طفلها البالغ من العمر عامين في الحديقة بحذاء كبير جدًا. طلبت الأسرة من DW الحفاظ على سرية جنس الطفل، لتفادي الوصول إلى أي استنتاجات.
فلورا وأزواجها الثلاثة
لن يعرف الطفل أبوه أبدًا، تقول فلورا: “كنت بالقرب منه عندما مات”. “كنا مع بعض قبل ذلك بقليل، ثم خرج فأصابه صاروخ” أرداه قتيلا على الفور. كان الزوج الثاني، من أصل ثلاثة، من مقاتلي داعش في حياتها الفتية. الأول قتل أيضا، وهو من كوسوفو، وهو الذي سافرت معه لأول مرة إلى مناطق داعش وعمرها لم يكن يتجاوز 17 عاما. حينها كذبت فلورا على والدها، مدعية ذهابها لقضاء إجازة في تركيا. أما زوجها الثالث فلا يزال على قيد الحياة، وهو رهن الاعتقال لدى الأكراد في معسكر شمال سوريا. هو أيضا من البلقان، لكن ليس من كوسوفو، وفلورا لا تريد الحديث عنه أكثر.
عندما عادت إلى البيت مع طفلها في أبريل / نيسان، كان طفلها ضعيفًا في بنيته لدرجة أنه لم يكن قادرا على الوقوف. كان الوضع في مخيم الهول في محافظة الحسكة الخاضعة للأكراد، سيئ جدا. بل وزاد الطين بلة في المرحلة الأخيرة من عمر “الدولة الإسلامية”. تتذكر فلورا أنه لم يتبق شيء من الطعام لدرجة أنهم كانوا يضطرون لأكل العشب.
بين الندم والأيديولوجية
رغم أن فلورا تعترف اليوم، أنه كان من الخطأ الانضمام إلى تنظيم داعش، إلا أنها لا تفهم التهم الموجهة لها وللعائدين الآخرين إلى كوسوفو. “كنا فقط في المنزل ..لم نفعل شيئًا”. “لم تكن لدينا نوايا سيئة، رافقنا رجالنا فقط”. إنها حجة تتكرر باستمرار لدى نساء داعش.
فلورا تدعي عدم علمها بعمليات القتل وغيره من الفظائع، باستثناء دمار الحرب الذي رأته بأم عينها. بل وتعتبر نفسها ضحية، آملة تفادي السجن بتهمة الانتماء لتنظيم إرهابي. إنها تسعى لإعادة الاندماج في المجتمع ، كما تقول. في الوقت نفسه، تتمنى أن “يقبل الناس بي كما أنا ويتقبلون ارتدائي للنقاب”.
علم والد فلورا بعودتها في أبريل/ نيسان من خلال صديق له. تذكُر تلك اللحظة يُثير فيه مشاعر جياشة، فاغرورقت عينا الرجل المسن بالدموع. في الوقت نفسه يبدو يائسا، لأنه غير قادر على الوصول لابنته رغم أنها تعيش معه في البيت. وأوضح لـ DW أنها “أصبحت منغلقة على نفسها”. في الماضي، لم تكن ترتدي النقاب. “من الغريب الآن بالنسبة لي أن أراها فلورا تصلي كثيراً وتمارس إيمانها بصرامة”.
رأي علم النفس
فالبونا تافيلاج تعرف فلورا جيدا كما باقي العائدين الآخرين. وهي تسهر بمساعدة فريق يتكون من عشرين من الخبراء والأطباء النفسيين على مرافقة العائدين ومساعدتهم في طريق إعادة الاندماج في المجتمع. وتقول عالمة النفس إن الجميع أصيبوا بصدمات نفسية كبيرة. “لقد عادوا من منطقة حرب وشهدوا جرائم فظيعة”.
تكمن مهمة تافيلاج في كسب ثقة العائدين، فهي تزور شهريا النساء العائدات في بيوتهن. كما تعمل على إشراك الأسر والجيران في عملية إعادة الإدماج. أما بالنسبة للجلسات العلاجية، فيتعين على النساء والأطفال السفر إلى المركز النفسي في عيادة جامعة بريشتينا، حيث مكتب تافيلاج.
تحكي عالمة النفس بفخر أن جميع الأطفال فوق سن السادسة تمكنوا من بدء الدراسة في شهر سبتمبر/ أيلول. للتحضير للحياة المدرسية، تم تنظيم رحلات إلى المتنزهات وصالات التسلق لاختبار ما إذا كان الأطفال مستعدون بالفعل للدخول لعالم المدرسة. وبما أن الأمهات يخضعن للإقامة الجبرية، فإن حرية تنقل الأطفال تكون بدورها مقيدة.
“صياد الإرهابيين”
هل هناك خطر أمني؟ وإذا كان الأمر كذلك، ما حجمه؟ أسئلة تؤرق فاتوس ماكولي وهو أعلى شخصية أمنية في محاربة الإرهاب بكوسوفو. فالدولة الصغيرة في البلقان لا تضم سوى مليوني نسمة. ولكنها تعتبر البلد الأوروبي الأول من حيث نسبة المنضمين إلى تنظيم داعش (400 متشدد) بالمقارنة بعدد السكان الإجمالي. وهذا ما يمثل 20 ضعفا مقارنة بالإسلاميين الذين غادروا ألمانيا مثلا، وانظموا للتنظيم الجهادي (1050 متشددا لـ 82 مليون نسمة).
تواصل ألمانيا وبريطانيا وحتى فرنسا جهودها للحيلولة دون عودة مواطنيها من مناطق داعش السابقة في سوريا والعراق. هناك فقط في بعض استثناءات أحيانا حينما يتعلق الأمر بالأطفال.
في مكتبه في الطابق الثامن من مبنى حكومي وسط العاصمة بريشتينا، يوضح فاتوس ماكولي سبب انتهاج بلاده مقاربة مختلفة بشأن الجهاديين العائدين. فبعد الاندحار العسكري لتنظيم “الدولة الإسلامية” الذي كان متوقعا، جرى نقاش مكثف حول كيفية التعامل مع العائدين. رأت بريشتينا أن الجهاديين السابقين لن يتمكنوا من البقاء إلى الأبد في سجون الأكراد، وبالتالي كان هناك خطرا حقيقيا بشأن هروبهم وانتقالهم إلى العمل بطريقة سرية. “لهذا السبب قررنا إعادتهم” يقول ماكولي. “لقد خاطرنا بوعي، لكنها مخاطرة يمكن التحكم فيها، إننا نعرفهم. أولئك الذين ارتكبوا منهم الجرائم نقدمهم للعدالة، ونبذل قصارى جهدنا لإعادة دمج الآخرين”. ووفقا لماكولي، اكتسبت كوسوفو خبرة كبيرة في الإجراءات القانونية ضد المتشددين الإسلاميين. فمنذ عام 2014، تم اعتقال أكثر من 150 من أنصار داعش. أكثر من 80 منهم صدرت في حقهم قرارات قضائية بعضها يشمل عقوبة السجن.
التأثير الخليجي
أكثر من 95 في المئة من سكان كوسوفو هم من المسلمين السنة، يتبعون إسلاما وسطيا، ومن بينهم علمانيون كثيرون. ولكن بعد حرب كوسوفو عام 1999، ازداد تأثير التيارات المحافظة. ماكولي يحمل المسؤولة بشكل رئيسي للسعودية والدول الخليجية الأخرى. كانت هناك نية واضحة “لإحياء الإسلام في كوسوفو” وتسييسه من خلال تدريب الأئمة، فيما اهتمت منظمات الإغاثة العربية بشكل خاص بالعمل مع الأطفال.
في منتصف التسعينات من القرن الماضي، أصبح أثر الأيديولوجيات الوهابية والسلفية واضحا في كوسوفو “ظهرت مشاكل مفاجئة في العائلات، حيث توقف بعض الأطفال فجأة عن الحديث مع النساء، رافضين حضور المناسبات العائلية، متهمين والديهم بعدم اتباع الإسلام الحقيقي”. وفي ظل المستوى المرتفع للبطالة، وغياب أي آفاق مستقبلية للشباب، إضافة لانتشار الفساد، أصبحت كوسوفو معقلا محوريا للتطرف.