يوافق 24 ذي الحجة ذكرى مباهلة الرسول الاكرم (ص) لنصارى نجران حيث خرج (ص) للمباهلة ومعه علي وفاطمة و الحسن و الحسين عليهم السلام.
ولا حاجة للقول بأن القصد من المباهلة لم يكن إحضار جمع من الناس للّعن، ثم ليتفرقواّ كلّ إلى سبيله، لأن عملاً كهذا لن يكون له أي تأثير، بل كان المنتظر أن يكون لهذا الدعاء واللعن أثر مشهود عياناً فيحيق بالكاذب عذاب فوري.
وبعبارة أخرى: فإن المباهله وأن لم يكن القرآن ما يشير إلى تأثيرها- كانت بمثابة (السهم الأخير) بعد أن لم ينفع المنطق والاستدلال، فأن الدعاء وحده لم يكن المقصود بها، بل كان المقصود منها هو (أثرها الخارجي).
لعلّ قضية المباهله بهذا الشكل لم تكن معروفة عند العرب، بل كانت أسلوباً يبيّن صدق النبي (ص) وإيمانه بشكل قاطع. إذ كيف يمكن لمن لا يؤمن كلّ الإيمان بعلاقته بالله أن يدخل هذا الميدان، فيطلب من معارضيه أن يتقدموا معه إلى الله يدعونه أن ينزل لعناته على الكاذب، أن يروا سرعة ما يحل بالكاذب من عقاب؟! لا شك أن دخول هذا الميدان خطر جداً، لآن المبتهل إذا لم يجد استجابة لدعائه ولم يظهر أي أثر لعقاب الله على معارضيه، فلن تكون النتيجة سوى فضيحة المبتهل. فكيف يمكن لإنسان عاقل ومدرك أن يخطو مثل هذه الخطوة دون أن يكون مطمئناً إلى النتيجة في صالحه؟ لهذا قيل إنّ دعوة رسول الله (ص) إلى المباهلة تعتبر واحداً من الأدلة على صدق دعوته وإيمانه الراسخ بها، بصرف النظر عن النتائج التي كانت ستكشف عنها المباهلة.
عند عرض هذا الاقتراح للمباهلة، طلب ممّثلو مسيّحي نجران من رسول الله أن يمهلهم بعض الوقت ليتبادلوا الرأي مع شيوخهم. فكان لهم ما أرادوا. وكانت نتيجة مشاوراتهم _التي تعتمد على ناحية نفسية_ هي أنّهم أمروا رجالهم بالدخول في المباهلة دون خوف إذا رأوا محمداً قد حضر في كثير من الناس ووسط جلبة وضوضاء، إذ أن هذا يعني أنّه بهذا يريد بثّ الرعب والخوف في النفوس وليس في أمره حقيقة. أمّا إذا رأوه قادماً في بضعة أنفار من أهله وصغار أطفاله إلى الموعد، فليعلموا أنّه نبي الله حقاً، وليتجنبوا مباهلته.
وقد حضر المسيحيّون إلى المكان المعيّن، ثم رأوا أن رسول الله(ص) أقبل يحمل الحسين على يد ويمسك الحسن باليد الأخرى ومن خلفه علي وفاطمة، وهو يطلب منهم أن يؤمنوا على دعائه عند المباهلة، وإذ رأى المسيحيّون هذا المشهد استولى عليهم الفزع، ورفضوا الدخول في المباهلة، وقبلوا التعامل معه بشروط أهل الذمة.
أحد أدّلة عظمة أهل البيت:
يصرّح المفسرون من الشيعة والسنة أن آية المباهلة قد نزلت بحق أهل بيت النبي(ص)، وأن الذين أصطحبهم النبي(ص) معه للمباهلة بهم: الحسن والحسين وفاطمة وعلي(ع) وعليه، فإن (أبناءنا) الواردة في الآية ينحصر مفهومها في الحسن والحسين(ع)، ومفهوم (نساءنا) ينحصر في فاطمة(ع)، ومفهوم (أنفسنا) ينحصر في علي(ع) وهناك أحاديث كثيرة بهذا الخصوص.
حاول بعض أهل السنة أن ينكر وجود أحاديث في هذا الموضوع، فصاحب تفسير المنار يقول في تفسير الآية:
الروايات متفّقة على أن النبي (ص) أختار للمباهلة علياً وفاطمة وولديهما ويحملون كلمة (نساءنا) على فاطمة وكلمة (أنفسنا) على عليّ فقط، ومصادر هذه الروايات شيعية، ومقصدهم منها معروف، وقد اجتهدوا في ترويجها ما استطاعوا حتى راجت على كثير من أهل السنة. ولكن بالرجوع إلى مصادره أهل السنة الأصلية يتّضح أنّ الكثير من تلك الطرق لا تنتهي بالشيعة وبكتب الشيعة، وإنكار هذه الأحاديث الواردة بطرق أهل السنة، يسقط سائر أحاديثهم وكتبهم من الاعتبار.
لكي نلقي الضوء على هذه الحقيقة، نورد هنا بعضاً من رواياتهم ومصادرها:
القاضي نور الله الشوشتري في كتابه النفيس (إحقاق الحق) يتحدث عن اتفاق المفسرين في أن (أبناءنا) في هذه الآية أشارة إلى الحسن والحسين، و(نساءنا) إشارة إلى فاطمة، و(أنفسنا) أشارة إلى علي(ع).
ثم يشير في هامش الكتاب إلى نحو ستين من كبار أهل السنة من الذين قالوا إن آية المباهلة نزلت في أهل البيت، ويذكر أسماء هولاء العلماء بالتفصيل.
جاء في كتاب (غاية المرام) عن صحيح مسلم في باب (فضائل علي بن أبي طالب) أنّ معاوية قال يوماً لسعد بن أبي وقاص: لِمَ لا تسبّ أبا تراب (عليّ (ع))؟! فقال: تركت سبّه منذ أن تذكرت الأشياء الثلاثة التي قالها رسول الله (ص) في حق علي(ع) (وأحدهما) عندما نزلت آية المباهلة لم يدع النبي(ص) سوى فاطمة والحسن والحسين وعلي، وقال: اللهم هؤلاء أهلي.
صاحب (الكشاف) وهو من كبار علماء أهل السنة، يذهب إلى هذه الآية أقوى دليل على فضيلة أهل الكساء.
يتفقّ المفسرون والمحدثون والمؤرخّون الشيعة أيضاً هذه الآية قد نزلت في أهل البيت، وقد أورد صاحب تفسير (نور الثقلين) روايات كثيرة بهذا الشأن.
من ذلك أيضاً ما جاء في كتاب (عيون أخبار الرضا) عن المجلس الذي عقده المأمون في قصره للبحث العلمي، وجاء فيه عن الإمام الرضا (ع) قوله: … ميّز الله الطاهرين من خلقه، فأمر نبيّه(ع) بالمباهلة بهم في آية الابتهال. فقال عزّ وجلّ: يا محمد ﴿فَمَنْ حَآجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءنَا وَأَبْنَاءكُمْ وَنِسَاءنَا وَنِسَاءكُمْ وَأَنفُسَنَا وأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَةَ اللّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ﴾، فأبرز النبي(ص) عليّا والحسن والحسين وفاطمة صلوات الله عليهم.
وقال(ص): فهذه لا يتقدّمهم فيها أحد، وفضل لا يلحقهم فيه بشر، وشرف لا يسبقهم إليه خلق.
كذلك ورد روايات بهذا المضمون في تفسير البرهان وبحار الأنوار وتفسير العيّاشي، وكلها تقول إن الآية قد نزلت في أهل البيت.
قصص القرآن / لآية الله الشيخ ناصر مكارم الشيرازي