من تعدّد أحجام مصاحف القارة الإفريقية إلى اختلاف أسماء السور القرآنية، مرورا بأنواع الزّخرفات التي ترافق نصّ القرآن الكريم، يقدّم الأنثروبولوجي الفرنسي كونستون هاميس عناصر من بحث له في حوالي ثلاثين مجلّدا ومخطوطا قرآنيا إفريقيا.
وإلى جانب إشارات تربط تقسيم القرآن إلى أخماس بالقراءة الجماعية، وإلى أسباع بقراءة القرآن طيلة أيام الأسبوع، يسلّط هاميس الضوء على التمايزات الموجودة بين مصاحف غرب إفريقيا وشرقها، وما يعنيه ذلك من تأثّر بالمشرق أو المغرب الإسلاميين، وميل إنسانيّ إلى التميّز والاختلاف.
جريدة هسبريس الإلكترونية التقت كونستون هاميس، الأستاذ الباحث في الأنثروبولوجيا بالمعهد العالي للدراسات في العلوم الاجتماعية والمركز الوطني للبحث العلمي بفرنسا، وسألته عن نتائج دراسته العلمية للمصاحف الإفريقية، والعلاقة التي تربط زخرفات “دلائل الخيرات” بزخرفات المصاحف القرآنية، وخصوصيات المصاحف المكتوبة بالخط المغربي، ودلالات تعدّد واختلاف المصاحف الإفريقية..
ما أهم التمايزات التي وجدتها بعد فحص عشرات المصاحف الإفريقية؟
بعد فحص مقارن لأزيد من ثلاثين مجلدا للمصاحف الإفريقية، أدركت أن هناك تمايزات مهمّة، ومنهجية تقريبا بين إفريقيا الشرقية وإفريقيا الغربية. وتمتدُّ إفريقيا الغربية من موريتانيا، والسنغال، وغينيا، مرورا بمالي، والنيجر، وشمال نيجيريا، وصولا إلى تشاد. هناك توجد حدود تبدأ بعد تشاد، انطلاقا من السودان، وإثيوبيا، والصومال، وكينيا.. وهنا إفريقيا الشرقية.
بين هاتين المجموعتين فروق مهمة، أولّها: يبدو في المستوى المادي الملموس، فكل مصاحف إفريقيا الغربية أوراقها منفصلة، تُكوَّم فوق بعضها البعض، وبعد ذلك توضع في غلاف جلدي. بينما في إفريقيا الشرقيّة تكون الأوراق متّصِلَة، تماما مثل بقيّة العالَم الإسلامي.
كذلك، من بين الفروقات المهمّة أن إفريقيا الغربية تقسّم مصاحفها إلى أربعة، وفي كل ربع من هذه الأرباع زخرفة. وهي إما أن تكون عنوانا يحيط باسم السورة، أو تكون رسوما هندسية في الغالب، يمكن أن تشغَل صفحة أو صفحتين أو حتى ثلاث صفحات، وهو شيء جميل جدا، يكون في كل ربع من أرباع المصحف. أما في إفريقيا الشرقية فلا يوجد هذا على الإطلاق.
في إفريقيا الشرقية هناك، غالبا، مصاحف من أجزاء متعدّدة. وأَوْضَحُ مثال هو الصومال، التي يقسَّم فيها القرآن إلى سبعة أجزاء. وبالتأكيد هذا التقسيم يعني أن يُقْرَأَ في كلّ يوم من أيام الأسبوع، لأن كل جزء يرتبط بيوم من أيام الأسبوع.
هناك أيضا فرق في العناوين التي أُعطِيَت للسّوَر، وهناك عنوان واحد مشترك بين إفريقيا كلّها، هو اسم سورة “غافر”، التي تسمّى في إفريقيا بسورة “المؤمن”. وبالنسبة إلى البقيّة، فإن التمايزات بين إفريقيا الغربية والشرقية واضحة جدا. إذ أن سورة “ص” تسمّى في إفريقيا الغربية “داوود”، وهذا لا يوجد في إفريقيا الشرقية.
كما نجد في إفريقيا الشرقية سورة تسمّى “الدّهر” بدل “الإنسان”، وهو ما لا نجده في إفريقيا الغربية. وكما تلاحِظ، هناك معارضة منهجية في كل النّقط تقريبا. وحتى في القراءات، فإفريقيا الغربية كلها تعتمد قراءةَ “ورش”، بينما في إفريقيا الشرقية يَسْتَعمِل عددٌ معيَّن، وليس الجميع، قراءات متعدّدة لـ”حفص”.
هل هناك تفسيرات لاستعمال مناطق إفريقية معيَّنة قراءة “ورش”، فيما تستعمل أخرى قراءة “حفص”؟ وبالنسبة إلى الخطّ، لماذا تقترب بعض المناطق الإفريقية أكثر من الكتابة المغاربية، بينما تقترب أخرى أكثر من الخطّ العثماني؟
قدّمتَ الجواب بطرح السؤال؛ فتأثير الكتابة المغاربية، والخطّ المغربي على وجه الخصوص، مرّ بالصحراء عبر موريتانيا، القريبين جدا، ومن موريتانيا مرّت هذه الكتابة إلى العالَم “الفولاني” -Le monde peule-الذي كان تاريخيّا، عبر اسم “الجهاد”، فـ”الفولاني” الموجودون بين موريتانيا والسنغال قاموا بجهاد أخذهم إلى مالي، وبجهاد آخر أخذهم إلى شمال نيجيريا. وقد أخذوا معهم هذا الخطّ.
وبالنسبة إلى روايتَي “ورش” و”حفص”، فإن مع “حفص” هناك بالتأكيد تأثير شرقي – عثماني، مثل الخطّ شيئا ما؛ لأن “النّسخ” عثماني، ويمكننا الحديث أيضا عن المذهب، لأن الناس شافعيون في إفريقيا الشرقية، ومالكيون في إفريقيا الغربية.
ما الذي استنتجته بعد مقارنة خطّ “دلائل الخيرات” وخطّ بعض المصاحف الإفريقية؟
هذا موضوع مثير للاهتمام، فنرى أن النّاسخين غير متخصّصين، وعندما ينسخون “دلائل الخيرات”، ثم ينسخون القرآن بعد ذلك، يأخذون في بعض الأحيان صورا من “دلائل الخيرات”، ويطبّقونها على القرآن. وقد رأينا هذا مع سلالم المنبر التي نجدها في “دلائل الخيرات”، ثم نجدها في زخرفة عنوان مصحف فولانيّ في سورة “البقرة”.
أيضا نجد هذا في مؤشّرات أرباع القرآن، مثل “ربع”، الآتية من “دلائل الخيرات”. ونرى أن المؤلَّفين يتفاعلان مع بعضهما البعض، في الغالب، لأن النّاسخين بكل بساطة ينسخونهمَا في الوقت نفسه.
ما الذي يعنيه استعمال صور من “دلائل الخيرات” في زخرفة المصاحف؟
هذا موضوع شاسع، لأنه عندما بدأ هذا في المغرب في القرنين 16 و17، كانت لنا صورتان للمدينة، في الشمال كان مسجد المدينة مع المنبر والمحراب، وفي اليمين كانت هناك الروضة، أي قبور محمد وأبي بكر وعمر. ورغم خروجنا هنا من الموضوع الإفريقي إلا أنه حاضر.
في القرن 18، تحت تأثير وهّابيّي السعودية، في الغالب، قيل إن وضع صورتين، تتضمّن إحداهما قبور النبي وخلفائه، ليس شيئا أرثوذوكسيا جدا، فنجد انطلاقا من هذا القرن أن في “دلائل الخيرات” توضع صورة للمدينة في الشمال، وصورة لمكّة عن اليمين. وهو ما نجده أيضا في “دلائل الخيرات” الإفريقية، التي فيها خليط من الصور، دون أن يعرف الناس جيدا ما الذي يجب رسمه، وما الذي لا يجب رسمه.
هناك شجار لاهوتي عبر الصّوَر، ويجب أن تكون عندنا نسخ إفريقية أكثر، حتى يمكن تحليل الطريقة التي شاع بها هذا بشكل أكثر دقّة، لأن بعض الصور كانت ممنوعة، أو غير موصى باستعمالها، وهو موضوع مثير جدا.
ما خصوصيات المصاحف المخطوطة في المنطقة المغاربية، والمغرب على وجه الخصوص؟
الخصوصيات التي يمكنني الحديث عنها هي خصوصيات الخطّ؛ فالخطّ المغربي فرض نفسه عبر موريتانيا، والعالَم الفولاني، بمواصفاته، رغم أنني لم أُعدِّدْها كلَّها، والتي أهمُّها حرف الفاء بنقطة أسفله، والقاف بنقطة فوقه، وهناك أمثلة أخرى، لكني لم أشتغل على هذا، وليس هذا مجالي. في عناوين السور نجد في المغرب، كما في غرب إفريقيا، سورة “المائدة”، التي تسمّى في بعض مصاحف المغرب سورة “العقود”، وهو ما نجده في موريتانيا، والعالَم الفولاني، بتأثير مغاربي.
ويمكن أن نجد، قَطْعا، أمثلة أخرى إذا بحثنا قليلا.
ما الذي يعنيه هذا التعدّد وهذه الاختلافات في مصاحف القارة الإفريقية؟
تقول لنا هذه الاختلافات إن للإنسان، والمجموعات الإنسانية، ميلا إلى التّفرّد، وميلا إلى أن تكون لها هوية خاصّة بها. والطفل أو الطفلة، عندما يكبران يكونان بحاجة إلى التّفرّد، بأن يعارضا أباهما أو أمّهما. وهذا نفسه -ما حدث- في المناطق الإفريقية، التي كانت بحاجة إلى معارضة بعضها على مستوى الدين، وفي التفاصيل، وفي الخطّ، وعناوين السور، وأحجام كتب معيّنة، وطريقة تقسيمها..
وهي طريقة في وسم الهويّة الثقافية الخاصّة، عبر خطوط مرسومة. وهذا أمر مهمّ؛ لأن هذه المصاحف جزء من التراث الثقافي لكلّ منط