الدستور :
محمد الباز يكتب.. «الحسين ظالمًا»
محمد الباز
وأقول كلما اتسعت الرؤية انقلبت قناعاتك وتبدلت، وقتها من المهم أن تكون شجاعًا، تعلن ما وصلت إليه أو ما وصل إليك دون تردد أو خوف، إذ ما الذى تملكه سوى كلمة واحدة.. قلها وامض.. حتى لو اشتعلت من خلفك حرائق الأرض جميعا.منذ أكثر من 13 عامًا، كتبت عن الحسين، رضى الله عنه، مقالًا مطولًا ضمنته كتابى «الإسلام المصرى»، وصفته بالمسيح.
رأيت أن لكل أمة مسيحها، ومسيح أمتنا الحسين، نظرت إليه هذا الذى حمل روحه على كفه مطمئن القلب ليقدمها إلى السماء اعتذارًا مقدمًا عما سيقترفه الذين اغتصبوا الخلافة، ولكل من سيأتون من بعدهم ليحولوا رسالة النبى الأعظم إلى سيف على من يغضب، وذهب لمن يخضع.
أكبرت فى الحسين أنه لم يركن ظهره، ولم يستعذب الراحة، قطع طريق الآلام وحده من مكة إلى الكوفة، رافعًا روح البطولة والقتال، فالمعانى الكبيرة لابد لها من شهداء، وليس أكرم عند الله من شهيد نما فى ظلال بيت النبوة، المشهد الدامى أغمد سيفه فى ضمير التاريخ لا يريد أن يبرحه، وعذابات كربلاء لم تغادر بعد قلب الذين تخلوا عنه ونحروه، رغم أنه كان يقدم نفسه فداء لهم.
فى العام الستين من الهجرة مات معاوية بن أبى سفيان، لم يجد فى جعبته ما يسديه من نصح لأمته إلا ما قاله لابنه يزيد: إنى لا أخاف عليك سوى أربعة رجال: الحسين بن على وعبدالله بن الزبير وعبدالله بن عمر وعبدالرحمن بن أبى بكر.. ولأن يزيد كان ضعيفا فقد أخذ وصية أبيه بالهمس الذى قيلت به.. وعندما جلس مكانه أرسل إلى والى المدينة الوليد بن عتبة بن أبى سفيان قائلًا له: خذ الحسين وعبدالله بن عمر وعبدالله بن الزبير وعبدالرحمن بن أبى بكر بالبيعة أخذًا شديدًا ليس فيه رخصة حتى يبايعوا.
كان مطلوبًا من الحسين أن يبايع يزيد، لكنه اختار القتال.
خرج من مكة إلى الكوفة التى خانه أهلها.. وقبل أن يقف وجها لوجه مع خصومه الذين يقودهم عمر بن سعد فى ساحة المعركة، تحدث مع أنصاره ومريديه، طلب إرجاء القتال إلى العاشر من المحرم، يوما واحدا طلبه لا ليفكر أو ليعطى نفسه فرصة للتراجع، ولكنه جمع رفاقه وقال لهم فى فروسية نادرة: إنى لا أعرف أصحابًا خيرًا من أصحابى، ولا أهل بيت أبر من أهل بيتى، فجزاكم الله خيرًا فقد بررتم وأعنتم، وإنكم لتعلمون أن القوم لا يريدون غيرى، وإن يومى معهم غدًا، وإنى قد أذنت لكم جميعا، فانطلقوا فى غير حرج، ليس عليكم منى ذمام، وهذا هو الليل قد غشيكم، فتنطلقوا فى سواده قبل أن يطلع النهار وانجوا بأنفسكم.
خيّر الحسين أصحابه.. فاختاروا.
أجابه أخوه لأبيه العباس بن على: معاذ الله والشهر الحرام، وماذا نقول للناس إذا رجعنا إليهم، نقول تركنا سيدنا وابن سيدنا غرضا للنبال ودريئة للرماح وحرزا للسباع، وفررنا رغبة فى الحياة، معاذ الله، بل نحيا بحياتك ونموت معك.
القضية كانت واضحة عند الحسين ولدى أصحابه أيضًا.
كانوا يعرفون أنه على الحق، وأن قاتليهم أشر عباد الله، لكنهم لم يتراجعوا.
فى كربلاء، أطلق عمر بن سعد سهمه فى اتجاه الحسين ليعلن عليه القتال، رأى الحسين جيش الظلام قادما نحوه، فلم يفعل أكثر من الاعتصام بجاه الله، قال: اللهم أنت ثقتى فى كل كرب، وأنت رجائى فى كل شدة، وأنت لى فى كل أمر نزل بى ثقة وعدة».
لم يتراجع القتلة لكنهم سحقوا أصحاب الحسين وجعلوهم أشلاء متناثرة على أرض كربلاء، صمدوا نعم، لكنهم فى النهاية تحولوا إلى أشلاء.
رأى الحسين جثث أهله وأصحابه ومواليه، فنادى: هل من ذابًّ عن حرم رسول الله؟، هل من موحد يخاف الله فينا؟، هل من مغيث يرجو الله فى إغاثتنا؟!.
راح نداؤه تحت أقدام خيول أعدائه، حاول القتلة أن يهتكوا حرم نساء النبى، فصرخ فيهم الحسين: أنا الذى أقاتلكم، والنساء ليس عليهن جناح، فامنعوا عتاتكم عن التعرض لحرمى ما دمت حيًا».
لم يسمع له قتلته، فعاود فيهم صرخته: ويلكم إن لم يكن لكم دين، وكنتم لا تخافون يوم الميعاد، فكونوا أحرارًا ذوى أحساب، امنعوا رحلى وأهلى من طغاتكم وجهالكم.
كانت الآذان كلها صماء، فصرخ الحسين للمرة الثالثة: لا أعطيكم بيدى إعطاء الذليل، ولا أقر إقرار العبيد.
مات رجاله، وظل هو واقفًا بين أعدائه، جاءت الفرصة لشقىّ الدنيا والآخرة شمر بن ذى الجوشن فصرخ فى الجنود أن يختطفوا رأس الحسين، تجمعوا حوله وقبل أن يهموا به خرج على الرجال طفل صغير هو عبدالله بن الحسن، وعندما رأى أحد الجنود يقترب من رأس عمه، صرخ فيه: أتقتل عمى يا ابن الخبيثة؟.
لم ترحم صرخة الطفل الحسين، ولم ترحمه هو نفسه.
وجه إليه أحد الجنود سيفه فأوقعه قتيلًا، وقبل أن يلقى الحسين حتفه، يحمل الطفل الصغير إلى عمته السيدة زينب التى شهدت مصارع أهلها، وعندما يعود يجد السيوف فى انتظاره، تقدم منه جندى فضربه بسيفه على معصم يده اليسرى فطارت كفه، ثم تقدم ثان فضربه بسيفه على عاتقه فوقع على الأرض، وعندما قاوم اجتمعوا عليه بسيوفهم وبطعنة أخيرة مات، ثم تقدم شمر بن ذى الجوشن، وبسيفه يجتز رقبة الحسين ليحملها هدية إلى سيده الشقى عبيدالله بن زياد والى البصرة، وسيده الأشقى يزيد بن معاوية.
سألت، كما سأل كثيرون غيرى على مر التاريخ الإسلامى كله: هل كان لابد أن يقتل الحسين، وبهذه الطريقة البشعة؟..
وكانت إجابتى كما هى إجابة كل من سألوا نفس السؤال قبلى: نعم.
ولـ«نعم» هذه كان التبرير حاضرًا، فالحسين لم يكن يدافع عن حقه فى حياة رغدة أو ملك ناعم، ولكنه كان يدافع عن كلمة الحق كى تعلو، قدم السيد نفسه فداء، كى يعرف الناس أن الحياة الحرة الكريمة لابد لها من تضحيات، سالت دماؤه على أرض كربلاء ذكية غالية لتكون ثمنا للقيم السامية والمبادئ العليا.
بعد كل هذه السنوات عندما طرحت على نفسى السؤال نفسه، هل كان الحسين، رضى الله عنه، على حق فيما فعله؟.. وجدتنى مترددًا فى الإجابة، لم تكن «نعم» سريعة حاسمة، عدت إلى الحكاية كلها من جديد، وبدأت فى طرح الأسئلة مرة أخرى.
ربما كانت الظلال التى ألقت بنفسها على السؤال والإجابة آتية من تجارب الذين يحاربون الآن باسم الإسلام، مدعين العمل من أجل نصرته، لا أقارن بين هؤلاء والحسين بالطبع، ولكن التجارب متشابهة، وأجدنى مرة أخرى أطرح السؤال من زاوية أخرى.
فما الذى كان سيحدث لو أن الحسين، رضى الله عنه، بايع يزيد بن معاوية عندما طلبت منه البيعة؟،
ما الذى كان سيحدث لو أنه اختار السلام، ولم يضع رحاله فى أرض الحرب؟.
ما الذى كان سيحدث لو أنه دخل إلى منظومة الحكم تحت ظلال يزيد، أو على الأقل لو أنه تفرغ لدعوة الناس إلى الحق، وعلمهم الإسلام كما عرفه فى بيت جده وبيت أبيه على بن أبى طالب من بعده؟.
أعتقد أن كثيرًا من أفكار المسلمين كانت ستتغير لو لم يخرج الحسين مقاتلًا.
لقد كسبنا ثائرًا، ربحنا بطلًا من أبطال التاريخ، تحول إلى أيقونة، فهو الرجل الذى لم يكن إلى جواره أكثر من سبعين رجلًا، لكنه قرر أن يواجه بهم جيشًا من آلاف، فليس مهمًا أن تنتصر فى الحرب، ولكن الأجدى أن تترك أثرًا ومعنى وفكرة.
الذين يعتنقون فكرة الشهادة من أجل الحق على ضعفهم وعلى مدار التاريخ كله، لم يضيفوا للحياة بقدر ما خصموا منها، لقد أورثنا الحسين بموقفه من يزيد شقاقًا فى الصف الإسلامى لا نزال نعانى منه حتى اليوم، فهناك من يبكونه إلى الآن، هناك من يريدون الانتقام لمن قتلوه، هناك من حولوه إلى فكرة، وأخذوا منه رمزًا للخروج على من يختلفون معهم، فقد فعلها الحسين، فلماذا لا يفعلونها هم.
عندما خرج جده العظيم فى العام التاسع للهجرة قاصدًا بيت الله الحرام فى مكة، فرض عليه أهلها صلح الحديبية، كانت شروطه مجحفة، اعتبر عمر بن الخطاب موافقة النبى على هذه الشروط القبول بالدنية فى الدين، لكن النبى أتم صلحه، وأخذ رجاله وعاد مرة أخرى.
كان يمكن للنبى أن يدخل معركة ضد جحافل قريش ليثبت أنه على الحق، أو ليقول للعالم من بعده، ادخل معركة حتى لو هلكت فيها، لتثبت للجميع أن الحق لابد أن يدافع عنه حتى لو كان ضعيفًا، وليس مهما أن يكون قتالك وأنت ضعيف سببًا فى هلاكك وفناء من معك.
لم يلتزم الحسين عليه السلام بفلسفة جده النبى الأعظم، ولو قلت إنه تحول إلى أسطورة، وأصبح رمزا لكل المقهورين والمظلومين ومسلوبى الحقوق، سأقول لك: وما الذى يستفيده هؤلاء من أسطورة الحسين؟، إنهم لا يحصلون على حقوقهم أيضًا، لا ينعمون بحياتهم، ولذلك فقد ظلم الحسين الفقراء والمساكين والمعوزين، خدعهم عندما قال لهم قاتلوا عن الحق وأنتم ضعفاء، كان يجب أن يعلمهم أن يدافعوا عن حقهم بعد أن يصبحوا أقوياء، لأنهم بذلك يمكن أن يحصلوا على حقهم، الذى لن يسمح لهم أحد به إلا إذا كانوا أقوياء.
حبوا الحسين، اعشقوه، علقوا صوره على حوائط بيوتكم، اذهبوا إلى ضريحه، اطلبوا شفاعته، واصلوا تعظيم أسطورته.. لكن أنصحكم وأنتم فى حربكم مع الحياة، لا تتعاملوا بمنطقه، فمنطق يزيد هو الأجدى.
———
كيف وصل رأس الحسين إلى القاهرة؟
-استشهد الإمام الحسين فى كربلاء فى موقعة الطف التى دارت بين أنصاره وجيش يزيد بن معاوية.
-أرسل رأسه إلى يزيد بن معاوية وقيل إن الرأس مكث مصلوباً بدمشق ثلاثة أيام ثم أٌنزل فى خزائن السلاح.
-هناك قول آخر للمؤرخين بأن الرأس دفن فى مواضع كثيرة قبل أن يستقر فى مدينة عسقلان فى فلسطين.
-عندما جاءت الحملات الصليبية على الشام وحاصر بلدوين الثالث مدينة عسقلان خشى الفاطميون أن يصل الصليبيون إلى رأس الحسين.
-قامت الحامية الفاطمية فى عسقلان بأخذ الرأس الشريف وحملته إلى مصر وذلك قبل دخول الصليبيين واستيلائهم على عسقلان عام 1153م/548 هـ.
-أمر الخليفة الفائز الفاطمى فى مصر بحفظ رأس الإمام الحسين فى علبة فى أحد سراديب قصر الزمرد، إلى أن تم بناء مشهد له بالقرب من الجامع الأزهر الشريف و ذلك فى عام 1154م/549هـ.