عندما بدأت طائرات حِلف النّاتو تقصِف ليبيا وتسعى لتغيير النّظام فيها وقَتل الزعيم معمر القذافي، قُلنا في اليوم الأوّل، وفي مقالةٍ افتتاحيّةٍ في صحيفةٍ أُخرى، “بروفه ليبيه والهدف سورية”، وهذا ما حدث حيثُ انتقل المشروع الأمريكيّ بتفاصيله كاملة إلى سورية، ولكنّه لم ينجح في إطاحة نِظام الحُكم فيها، وبقي الرئيس بشار الأسد على رأسه بعد ثماني سنوات من الصّمود.
اليوم يتكرّر السّيناريو نفسه في ليبيا وباللّاعبين أنفسهم مع فارقٍ أساسيٍّ وهو حُدوث انقسامات في صُفوفهم، فالبعض مِثل قطر وتركيا وإيطاليا يدعمون حُكومة الوفاق الوطنيّ بزعامة فايز السراج، أمّا مِصر وأمريكا والإمارات والسعوديّة وفرنسا فتدعم المُشير خليفة حفتر وجيشه الذي يشن هجومًا شرِسًا بدأه يوم 4 نيسان (إبريل) الحالي بهدف السّيطرة على العاصمة طرابلس، آخِر المواقع الكُبرى خارج هيمنة قوّاته، وتوحيد ليبيا بالتّالي تحت حُكمه.
الانقسام نفسه بين القِوى العظمى المُتورّطة في هذا الصّراع انتقل إلى مجلس الأمن الدوليّ، الأمر الذي انعكَس حالةً من الشّلل، وصُعوبة استصدار موقف مُوحّد يُؤدّي إلى قرارٍ بوقف إطلاق النّار.
المشير حفتر الذي يوصف بالرجل القويّ، فشِل حتى الآن، وبعد ثلاثة أسابيع من تحقيق هدف هُجوم قوّاته باستعادة العاصمة حيث تُواجه هذه القوّات مُقاومةً شرسَةً في جنوب العاصمة تحول دون تحقيق أيّ اختراق لها، حتّى الآن على الأقل، مثلما تُفيد التّغطيات الصِّحافيّة الميدانيّة المُحايدة.
الدكتور غسان سلامة، المبعوث الأُممي إلى ليبيا، يقوم حاليًّا بجولةٍ أوروبيّةٍ لإقناع زُعمائها بدعم خُططه لوقف إطلاق النّار والعودة إلى الحل السلميّ الذي يقوم على أساس الحِوار في مُؤتمرٍ موسّعٍ يضُم كُل ألوان الطّيف السياسيّ والقبائليّ الليبيّ، ولكنّه لم يُحقّق أيّ تقدّم في مسعاه حتّى الآن، لأنّ أوروبا التي عانت وتُعاني من تدفّق اللاجئين، وتخشى من تسلّل الإرهابيين وسطهم، لم تعد تعوّل على الحل السلميّ، رغم أنّها تتحمّل الجُزء الأكبر من مسؤوليّة دمار ليبيا.
الدكتور سلامة يُحاول مسك العصا ولكن ليس من الوسط، وعكست تصريحاته اتّخاذه موقفًا أقرب إلى دعم حكومة السراج الأمميّة عندما حذّر أثناء توقّفه في باريس الدول الأوروبيّة من دعم المشير حفتر، ووصفه بأنّه ليس ديمقراطيًّا، وأنّ مُعظم الليبيين لا يُؤيّدون برنامجه السياسي، وأضاف “إنّه ليس أبراهام لينكولن الزّعيم الذي وحّد أمريكا، صحيح أنّه يملك مُؤهّلات يُريد من خلالها توحيد ليبيا، ولكنّه يستخدم القبضة الحديديّة في الأماكن التي يُسيطر عليها”، وما نفهمه من كُل ما تقدّم أنّه يُحاول أن يكون “مُحايدًا”، ولكن فشَل مُؤتمر “غدامس” الذي دعا إليه يُؤثّر بشكلٍ واضحٍ على مواقفه.
التطوّر الأهم في المشهد الليبي هو دخول الرئيس التركي رجب طيّب أردوغان على خط الأزَمَة، وإعلانه في اتّصالٍ هاتفيٍّ مع السيد السراج أنّه “سيُسخّر كل إمكانيّات بلاده لمنع ما وصفه بالمُؤامرة على الشّعب الليبي مُثمّنًا دور السراج وحُكومته في التصدّي للهُجوم على طرابلس″، وهذا يعني في رأينا الدّعم العسكريّ وليس السياسيّ فقط.
تدخُل الرئيس أردوغان في الأزمَة الليبيّة يُذكّرنا بدوره في التدخّل في الأزمة السوريّة، ولكن ليس في مُعسكر حُلفائه الامريكان والفرنسيين والسعوديين والإماراتيين، وإنّما في المُعسكر القطريّ الإيطاليّ، فهل ستكون النّتائج مُختلفةً هذه المرّة؟ لا نملك بلورة سحريّة، ولا نضرِب في الرّمل، ولكنّها “مُقامرة” ليست مضمونة النّتائج.
اللواء أحمد المسماري، المُتحدّث باسم قوات حفتر، بادر فورًا إلى استغلال إعلان أردوغان بالتدخّل لصالح حُكومة السراج بالإعلان عن إقدام تركيا بنقل “إرهابيين” من سورية عبر أراضيها إلى ليبيا، لدعم جناح الإخوان المسلمين، وأنّها سلّمت العناصر المُسلّحة في مصراته طائرةً بدون طيّار مع طاقم تركيّ لتشغيلها، ولا تُوجد أيّ أدلّة أو معلومات من جِهات مُحايدة تُؤكِّد هذه الاتّهامات.
الشعب الليبي الذي جرى تضليله وتحريضه ضد نظام القذافي، أيّد في مُعظمه قصف طائرات النّاتو وتغيير النظام أمَلًا في الخلاص، ولهذا توقّع أن يُحقّق له النّاتو في السماء وثوار النّاتو على الأرض الأمن والاستقرار والرّخاء الذي يستحقّه، ولكن النّتائج جاءت عكسيّةً تمامًا، حيثُ تحوّلت ليبيا إلى دولةٍ فاشلةٍ تَعمّها الفوضى الدمويّة، ولم ينجح الثوّار وحُكوماتهم إلا في أمرٍ واحدٍ وهو نهب أكثر من مِئتي مليار دولار تركها النّظام السابق كاستثمارات وودائع في مصارف ليبيّة وأجنبيّة، وتفتيت الوحدة الوطنيّة والترابيّة، ومُضاعفة مُعاناة شعبهم، والآن الحرب على النّفوذ بينهم.
التدخّلات الخارجيّة في الأزمة الليبيّة التي تتطوّر من سياسيّة إلى عسكريّة، ستُفاقم مُعاناة الليبيين الذين هاجر نصفهم إلى دول الجِوار بحثًا عن الأمان، وستُطيل من عمر الحرب، وستُضاعف خسائرها البشريّة والماديّة، فحرب طرابلس أدّت حتّى الآن إلى مقتل 300 شخص وإصابة 1330 آخرين في ظِل غِيابٍ كاملٍ للرّعاية الصحيّة، علاوةً على هُروب 40 ألفًا إلى تونس، ونقصٍ كبيرٍ في الدّواء والغذاء، ومبعوثو الأُمم المتحدة يتوقّعون كارثةً كُبرى قادِمة.
عندما وصفت السلطات السوريّة تدخّل حِلف الناتو و”أصدقاء سورية” بزعامة أمريكا في سورية ودعم الجماعات المُسلّحة بأنّها “مُؤامرة” تعالت الأصوات في المُعسكر الدّاعم للتدخل العسكريّ بالسّخرية من هذا التّوصيف.
التّاريخ يُعيد نفسه، والمُعسكر المدعوم تُركيًّا وقطريًّا يصِف ما يجري من هُجوم على طرابلس بأنّه “مُؤامرة”، ويُطالب العالم بمُساندته لصدّها، نعم إنّها مُؤامرة.. وكُلّكم مُتآمرون.
ألم نقُل لكم أن السّيناريو السوريّ يتكرّر الآن في ليبيا، مثلَما تكرّر السيناريو الليبيّ في سورية قبل ثماني سنوات؟
كان الله في عون الشّعبين السوريّ والليبيّ اللذين كانا وما زالا الضحيّة في السّيناريوهين.. ولنا عودة.. فالأزَمَة قد تطول، وربّما تكون في بِدايات مرحلتها الثّانية.
“رأي اليوم”