"يابنى كونا للظالم خصما و للمظلوم عونا"..الإمام علي (عليه السلام)

وثائق جديدة تؤكد تورط إسرائيل في الإبادة الجماعية في رواندا

عرب ٤٨ :

* رواندا: مقتل أكثر من 800 ألف من قبيلة التوتسي ومعتدلين معارضين للإبادة من قبيلة الهوتو
* إسرائيل واصلت تسليح رواندا خلال عمليات الإبادة

* إسرائيل عملت على بناء قوات الأمن الرواندية في السنوات 1963 – 1973
* ملفات الخارجية الإسرائيلية تؤكد أن إسرائيل كانت على اطلاع على جوهر نظام الطاغية العسكري
* إسرائيل كانت تعلم أن نظام قبيلة الهوتو يعمل على تصفية أبناء التوتسي

* الموساد يقدم دورات إرشادية ويساعد النظام الدكتاتوري في تنظيم حركات شبيبة مقاتلة
* مطالبة بتشكيل لجنة تحقيق في تورط إسرائيل في مجازر الإبادة الجماعية


في السادس من نيسان/ أبريل 1994، وبعد ساعات معدودة من إسقاط صاروخ أرض – جو لطائرة دكتاتوري رواندا ووبوروندي، بدأ نظام الهوتو في رواندا بعملية إبادة شعب (جينوسايد) منظمة ومخطط لها ضد قبيلة التوتسي. وخلال 100 يوم قتل نحو 800 ألف شخص من أبناء التوتسي والمعتدلين في قبيلة الهوتو الذين عارضوا عملية الإبادة.

ولعل من بين أهم ما تكشف عنه وثائق جديدة بشأن التورط الإسرائيلي في الإبادة الجماعية هو السعي لكسب تأييد رواندا في المحافل الدولية، بما يتصل بقضية اللاجئين الفلسطينيين، حيث سعت للاستفادة من كون رواندا تواجه قضية مماثلة بعد اضطرار مئات الآلاف من قبائل التوتسي إلى اللجوء من وطنهم هربا من مجازر دكتاتورية نظام الهوتو.

ورغم الطلبات المتكررة، فإن إسرائيل رفضت، ولا تزال ترفض حتى اليوم الكشف عن العلاقات التي كانت مع النظام الذي نظم عملية الإبادة، رغم أن تقارير مختلفة أشارت إلى أن إسرائيل دعما نظام الهوتو عسكريا خلال الحرب الأهلية في تسعينيات القرن الماضي.

كما أشارت التقارير إلى أنه خلال عمليات الإبادة (جينوسايد) واصلت إسرائيل نقل إرساليات السلاح إلى رواندا، وبضمنها بنادق وذخيرة وقنابل.

ورغم الرفض الإسرائيلي للكشف عن العلاقة مع النظام في رواندا، إلا أن وثائق نشرت في موقع “سيحا مكوميت”، كشف عنها للمرة الأولى المحامي إيتي ماك، الناشط الحقوقي، والداعي لزيادة الشفافية والرقابة العامة على التصدير الأمني الإسرائيلي، تبين أن إسرائيل كانت طيلة سنوات الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي مدركة جيدا لخطورة الأوضاع في رواندا، بما في ذلك خطر سفك الدماء والقتل، ورغم ذلك واصلت دعم الدكتاتورية فيها.

من المذبحة (أ ب)
من المذبحة (أ ب)

ولعل ما يشير إلى ذلك هو أن ممثل إسرائيل في العاصمة الرواندية، كيغالي، مئير يافه، كتب في حزيران/ يونيو 1968 أن “رواندا تسير نحو دكتاتورية عسكرية.. لذلك جيد أننا نخترق الآن الجهاز الأمني”، ولو من باب توزيع امتيازات لعناصر القوة (لأن ذلك سيكون له مردود لاحقا). بحسبه.

النظام الكولونيالي زرع بذور الإبادة

تعود جذور الإبادة الجماعية في رواندا إلى أيام السلطات الكولونيالية في القرن التاسع عشر، إذ أنه حتى ذلك الحين كان من الصعب التمييز بين قبيلتي التوتسي والهوتو. وعملت ألمانيا في حينه، في إطار مؤتمر برلين 1884، على تثبيت الملكية الإقطاعية لأبناء التوتسي، وعلى هرمية عنصرية صارمة بينهم وبين الهوتو.

وعززت بلجيكا، التي سيطرت على رواندا خلال الحرب العالمية الأولى، الحدود العرقية، كما عززت تفوق قبيلة التوتسي، وعززت أيضا استغلال وقمع الغالبية من أبناء الهوتو. وبدءا من العام 1935 ألزمت بلجيكا السكان في رواندا على حمل بطاقات هوية شخصية عرقية، ووضعوا حواجز تمنع الانتقال بين المجموعتين.

ولاحقا، وفي سنواتها الأخيرة في رواندا، بدلت بلجيكا موقفها، وانتقلت لدعم أبناء الهوتو الذين تمردوا على سلطة التوتسي عام 1959. وتبدلت الهرمية العنصرية، ومارست نخبة الهوتو القمع على خلفية عنصرية ضد التوتسي. ومع استقلال رواندا عام 1962، واصلت هذه النخبة القمع العنصري، بمساعدة بلجيكا.

وبعد الاستقلال، قاد رواندا غريغوري كاييباندا، وهو من نخبة الهوتو، بيد من حديد. وبعد عزله في انقلاب عسكري عام 1973، تسلم وزير الدفاع جوفينال هابياريمانا حتى وفاته في تحطم الطائرة عام 1994.

نتنياهو يزور معرض تخليد الضحايا.. ولا إقرار إسرائيليا (مكتب الصحافة الحكومي)
نتنياهو يزور معرض تخليد الضحايا.. ولا إقرار إسرائيليا (مكتب الصحافة الحكومي)

وكان قد أدار كاييباندا وخلفه هابياريمانا الدكتاتورية في رواندا على أساس عرقي، وألزما المواطنين بحمل بطاقات شخصية تبرز الانتماء العرقي، والتي كانت تحدد مصير الشخص، واحتمالات تسجيله في المدارس أو الحصول على وظيفة عامة أو فتح مصلحة. كما استمرت عمليات القتل وارتكاب الفظائع بحق أبناء التوتسي.

وعلى مر السنين، هرب مئات الآلاف من أبناء التوتسي من رواندا بسبب الملاحقة. وفي العام 1990 دخل البلاد متمردون “الجبهة الوطنية الرواندية” (RPF)، التي تأسست من قبل اللاجئين في معسكرات في أوغندا، على الحدود مع رواندا، وبدأت الحرب الأهلية. وهناك توثيق واضح يشير إلى المجازر التي ارتكبت بشكل منهجي ضد أبناء التوتسي في كافة أنحاء رواندا، بواسطة “خلايا الموت” التي أقامها نظام الهوتو.

ووصلت الحرب الأهلية أوجها في أعقاب تحطم الطائرة التي كانت تقل هابياريمانا، ورئيس الحكومة البوروندية، سيبريان نتارياميرا. ودعت “الإذاعة الحرة” إلى إبادة أبناء التوتسي، بل وذكرت قوائم أسماء وعناوين وأرقام مركبات، إضافة إلى أبناء الهوتو المعتدلين. كما صدرت أوامر بالقتل عبر الإذاعة، وتجول القتلة في مرات كثيرة ومعهم السلاح وجهاز الراديو، ووصف أبناء التوتسي بـ”الصراصير” التي تجب إبادتها.

وتبين أن النظام الدكتاتوري في رواندا قد وجّه وخطط لعمليات الإبادة التي شاركت فيها ميليشيات “خلايا الموت” العسكرية والمدربة. كما تبين أن أن رجال قتلوا نساءهم، ونساء قتلن أزواجهن، كما أقدم آخرون على قتل جيرانهم. كل ذلك بسبب انتماء الضحية إلى التوتسي.

“جيد أننا نتسلل إلى الجهاز الأمني”

وبحسب التقرير، فإن الاطلاع على ملفات وزارة الخارجية الإسرائيلية،  الموجودة في أرشيف الدولة وفتحت مؤخرا أمام الجمهور، فقد كان لإسرائيل في عهد كاييباندا، بين السنوات 1963 – 1973، دور في بناء قوات الأمن الرواندية، وحاولت تحقيق مكاسب سياسية من الشروخات العرقية هناك. والحديث هنا عن فترة مصيرية زرعت فيها البذور التي أدت إلى الإبادة الجماعية في التسعينيات.

وتظهر البرقيات التي أرسلها ممثلو إسرائيل في رواندا، أنهم كانوا على اطلاع على جوهر نظام الطاغية العسكري هناك. وفي برقية يعود تاريخها إلى 18/06/1968، كتب ممثل إسرائيل في كيغالي، مئير يافه أنه “يحتمل أن يكون من المبكر التنبؤ بأن رواندا تتجه نحو دكتاتورية عسكرية، ولكن أسمع ذلك من دوائر مختلفة. جيد أننا نتسلل الآن إلى الجهاز الأمني حتى ولو كان من باب تقديم امتيازات (تحقق مردودا لاحقا)”.

وفي برقية يعود تاريخها إلى 02/12/1968، طلب يافه الحصول على تقرير عن الانطباع من ضابط رواندي كان على رأس محاولة انقلاب عسكري. ويتضح من البرقية أن الضابط زار إسرائيل، قبل ذلك بثلاثة شهور، مع مجموعة ضباط آخرين من رواندا، وامتدح إسرائيل. وكتب أنهم “خلال جولتهم في إسرائيل، تعلموا أكثر بكثير مما تعلموه خلال شهور في بلجيكا”.

أطفال رواندا يأملون أن تتعافى بلادهم من آثار المجازر (أ ب)
أطفال رواندا يأملون أن تتعافى بلادهم من آثار المجازر (أ ب)

وفي برقية يعود تاريخها إلى 03/02/1969، وصف يافه الاحتفالات بما أطلق عليه “يوم الديمقراطية” التي جرت قبل ذلك بعدة أيام. وبحسبه، فإن كاييباندا ألقى خطابا بالفرنسية أمام دبلوماسيين أجانب، وبعد ذلك ألقى خطابا مطولا باللغة المحلية تحدث فيه عن التطهير في السلطة.

وفي برقية أخرى يعود تاريخها إلى 11/08/1969، كتب أحد ممثلي إسرائيل في كيغالي، حاييم هراري، عن احتفال بافتتاح مقر جديد لحزب السلطة، شارك فيه طلاب مدارس وناشطي الحزب، أن غالبية الأغاني تمحورت حول شخصية كاييباندا وحزبه من باب تقديس الشخصية. وفي برقية أخرى في اليوم نفسه كتب أنه الوضع في رواندا غريب جدا، حيث لا يوجد صحيفة يومية أو أسبوعية أبدا، وعندما تحصل حادثة معينة فإن محطات الإذاعة المحلية التي تبث بالفرنسية تتجاهلها.

كما أشار في برقية بتاريخ 26/09/1969 إلى أنه نظرا لأنه 90% من سكان رواندا أميون، ففي الانتخابات السابقة توجه كل ناخب إلى ممثل عن السلطة كان ينتظره قرب كل صندوق ليساعده في التصويت، الأمر الذي أثر بشكل قاطع على النتائج.

أما بالنسبة للانتخابات القريبة، فقد تقرر التصويت بطريقة مختلفة، بموجبها يحصل كل ناخب، قبل الانتخابات بيوم، على قائمة مرشحين مع مغلف، ويصوت بمساعدة قريب له يعرف القراءة والكتابة، وفي الغداة يتوجه إلى صندوق الاقتراع ومعه المغلف. وفي برقية يعود تاريخها إلى 06/10/1969، أشار هراري إلى أن الدكتاتور كاييباندا حصل على ولاية ثانية بدعم 99% من الناخبين!

كل ما سبق لم يمنع إسرائيل من تقديم المساعدة لنظام الدكتاتور في تسويق نفسه. وفي برقية يعود تاريخها إلى 10/01/1969 يقول يافه إنه ساعد النظام هناك في إعداد مجلة دعائية لتشجيع السياحة، وطلب منه وزير الخارجية الرواندي طباعة 10 آلاف نسخة أخرى منها.

إسرائيل كانت تعلم أن الهوتو يعملون على تصفية أبناء التوتسي

وخلال تلك السنوات، كما ورد أعلاه، فإن مئات الآلاف من أبناء التوتسي فروا من رواندا بعد سلسلة مجازر ارتكبت ضدهم. وعلى سبيل المثال، وردا على عملية نفذها لاجئون من التوتسي من أراضي بوروندي المجاورة، قتل النظام في رواندا خلال 4 أيام نحو 10 آلاف من المواطنين والمواطنات من أبناء التوتسي. واستخدم أبناء الهوتو هجمات لاجئي التوتسي لشرعنة التعامل السلبي مع من بقي منهم في البلاد، نحو 10% من السكان، واعتبارهم كغرباء وغزاة وغير جديرين بحقوق الإنسان والمواطن، ويسمح بارتكاب جرائم القتل والاغتصاب والتعذيب ضدهم. وفي سنوات الستينيات وصف النظام في رواندا أبناء التوتسي بـ”الصراصير”.

ويشير التقرير إلى أن ممثلي إسرائيل في رواندا كانوا يعلمون بملاحقة وتصفية أبناء التوتسي، حيث كتب  المستشار في السفارة الإسرائيلية في واشنطن، حنان بار أون، في برقية يعود تاريخها إلى 08/05/1962 أن الوضع في  رواندا مقلق لوزارة الخارجية الأميركية أكثر من أي قضية أفريقية أخرى، وأنه مع خروج بلجيكا من رواندا فإنه لا يمكن حتى الآن للأمم المتحدة أن تأخذ على عاتقها مسؤولية الحفاظ على النظام في رواندا وبوروندي، ولا يبدو أنها تستطيع ملء الفراغ الذي سينشأ والذي قد يؤدي إلى حرب أهلية.

وفي برقية يعود تاريخها إلى 10/07/1962، رحب مندوب إسرائيل في الأمم المتحدة، ميخائيل كومي، بقرار الأمم المتحدة إرسال وفد إلى رواندا وبوروندي لمراقبة القوات البلجيكية، وتدريب قوات شرطة محلية. وكتب أن “كل واحد يعرف أنه بدونه كانت هناك خطر كبير لحرب قبائل وسفك دماء بعد الاستقلال، وخاصة في رواندا”.

كما بينت برقية بتاريخ 29/11/1968، بحسب هراري، أنه كانت هناك اتصالات بين قوات الأمن التابعة للنظام الدكتاتوري في رواندا مع قوات الأمن للنظام المماثل في بوروندي، لللتعاون بينهما ضد مجموعات اللاجئين من أبناء التوتسي.

تخليدًا للضحايا (أ ب)
تخليدًا للضحايا (أ ب)

وكتب هراري في برقية بتاريخ 25/08/1969 أنه “تمت تصفية التوتسي من قبل الهوتو حكام رواندا”. وبعد نحو شهر، بتاريخ 29/09/1969، كتب أن “وحدات الجيش الرواندي نشرت قرب الحدود مع الكونغو وبوروندي وأوغندا، خشية دخول اللاجئين التوتسيين الذين وصفوا بالصراصير (IMYENZI باللغة المحلية)”، وهو نفس التعبير الذي استخدمته إذاعة النظام بعد 25 عام لتشجيع القتل الجماعي ضد التوتسي.

وفي استعراض أعده هراري بتاريخ 08/10/1971، كتب أن “النظام في رواندا هو أحد الأنظمة الأكثر استقرارا في القارة الأفريقية بسبب وحدة اللغة وغياب صراعات القبائل، باستثناء قبيلة التوتسي التي هزمت بعد إسقاطهم بواسطة الغالبية الحامسة من أبناء الهوتو الذي تصل نسبتهم إلى 90% من السكان. ومع سقوط نظام التوتسيين في رواندا عام 1959، وهروبهم إلى البلاد المجاورة لم يتوقفوا عن كونهم مصدر قلق لحكام رواندا حتى اليوم، فهم يرون فيهم تهديدا محتملا لنظامهم، ويجب أخذ هذا العامل بالحسبان من أجل تقييم سياسة رواندا تجاه جاراتها بشكل صحيح”.

المصلحة المشتركة بين إسرائيل ورواندا: الحرب على اللاجئين

وجاء في تقرير ماك أنه بدلا من القلق على سلامة اللاجئين من أبناء التوتسي الذين فروا خوفا على حياتهم، فإن إسرائيل اعتقدت أنها يمكن أن تستغل لصالحها خوف رواندا من هؤلاء اللاجئين، ودفع رواندا لدعم إسرائيل في الهيئات الدولية التي تناقش قضية اللاجئين الفلسطينيين.

وكتب ممثل إسرائيل في كيغالي، أريه ليفين، في برقية بتاريخ 21/02/1966، أنه “لا يوجد أي سبب منطقي لرواندا يدعوها لعدم دعم موقفنا، لأن مشكلة اللاجئين معروفة لها من عشرات آلاف التوتسيين الذين يجلسون على طول الحدود، والذين يتلقون دعما من العرب، حيث تنشط مكاتب التوتسيين في القاهرة والجزائر والرباط. وفي الشهور الأخيرة تعرضت رواندا لخطر غزو اللاجئين التوتسيين، الذين شارك بعضهم في عمليات المتمردين في الكونغو”.

وفي برقية بتاريخ 08/06/1966، كتبها سفير إسرائيل في رواندا، يتحدث عن محادثة أجراها مع وزير الخارجية الرواندي، بشأن مواجهة حرب العصابات التي يشنها اللاجئون التوتسيون، فإن السفير يقترح “دورة استخبارية يقترحها الموساد الإسرائيلي على الروانديين”.

وفي برقية بتاريخ 14/09/1966، يصف ليفين محادثة أجراها مع مندوب رواندا للأمم المتحدة، تمهيدا للمداولات في الجمعية العامة، يقول فيها إنه في العام الماضي كان لدى إسرائيل خيبة أمل معنية من رواندا، وإنها تأمل هذه المرة أن تبدي تفهما وصداقة أكثر.

كما كتب أن “المواقف الأساسية لرواندا وإسرائيل متقاربة جدا، وخاصة بكل ما يتصل بقضية اللاجئين. وقضايا مثل منظمة التحرير الفلسطينية، وتعيين وصي على أملاك الغائبين وغيرها، يجب أن تكون مفهومة من قبل رواندا أكثر من أي دولة أخرى”.

وبحسب ليفين، فإن ممثل رواندا رد بالقول إن “بلاده لا تستطيع دائما أن تسير مع إسرائيل على حافة النصل”، وقال أيضا إن “مشاكل رواندا معقدة أكثر، ونحن نطلب من أصدقائنا أن يتفهموا دقة ادعاءاتنا، الأمر الذي لا يحصل دائما، كما أن أصدقاء إسرائيل البارزين، مثل الولايات المتحدة  وفرنسا وإيطاليا وغالبية الدول الأفريقية يتجاهلوننا”. وردا على ذلك قال ليفين إن “دولا أفريقية كثيرة، ليست واضحة لهم قضية اللاجئين مثل رواندا، تصوت معنا”.

تخليدًا للضحايا (أ ب)
تخليدًا للضحايا (أ ب)

ويقول ليفين، في برقية بتاريخ 21/10/1966، إنه اجتمع مع الدكتاتور كاييباندا، وشرح له موقف إسرائيل من قضية اللاجئين، وقال له “نستطيع أن نتوقع من أصدقائنا، وخاصة أولئك الذين ليس غريبا عنهم قضية اللاجئين، أن يبدوا تفهما وتعاونا أكثر”.

وردا على ذلك، قال كاييباندا إنه يدعم موقف إسرائيل في قضية اللاجئين، ويضيف أنه “يجب منع استمرار الدعم الدولي للاجئين لأن ذلك يعتبر “مدخلا للتدخل في الشؤون الداخلية”. كما طلب كاييباندا من ليفين أن يرسل مذكرة إلى وزارة خارجية رواندا تفصل مطالب إسرائيل في التصويتات المختلفة، وتعهد بأن يتصرفوا بحسب المطالب الإسرائيلية.

ورغم توظيف خشية النظام في رواندا من لاجئي التوتسي للحصول على دعم دولي في الموقف ضد قضية اللاجئين الفلسطينيين، إلا أن تقديرات مندوبي إسرائيل كانت تشير إلى أن اللاجئين التوتسيين لا يشكلون خطرا حقيقيا على النظام.

وكتب هراري في برقية بتاريخ 05/07/1971 أن “الروانديين يعلمون جيدا أنه يعيش في أوغندا أكثر من نصف مليون رواندي، بينهم أكثر من 150 ألفا من لاجئي التوتسي ينتظرون الفرصة للعودة إلى وطنهم، والقضاء على نظام الهوتو الذي يقوده الرئيس كاييباندا”.

كما كتب أنه “من الصعب تصديق أن خطوة كهذه ستخرج إلى حيز التنفيذ، ولكن الروانديين متشككون بطبعهم، ومن يخشى، في كل الأحوال، من التوتسيين الذين يعيشون في وسطهم ويعتبرون بنظرهم طابورا خامسا، فهو يخشى من الخطر الذي يحوم عليهم في الشمال”.

الموساد يقدم الإرشاد

ويتضح من البرقيات أن النظام الدكتاتوري في رواندا كان معنيا بأن تقدم إسرائيل المساعدة في تطوير علاقاتها مع جيرانها الكونغو وأوغندا، في ظل الدعم الأمني الإسرائيلي للأنظمة هناك.

وتشير برقية لمئير يافه بتاريخ 15/11/1969 إلى أن المدير العام لوزارة خارجية رواندا طلب المساعدة الإسرائيلية مقابل نظام موبوتو سيسي سيكو في الكونغو، وذلك بسبب علاقات إسرائيل الجيدة جدا مع كنشاسا، حيث تقدم لها مساعدة تكنولوجية وأمنية واسعة، كما أن موبوتو يعتبر داعما لإسرائيل.

كما طلبت رواندا مساعدة إسرائيل في التوسط بينها وبين الرئيس الأوغندي، إيدي أمين، وذلك بعد أن قام الأخير بإغلاق حدود بلاده مع رواندا. وكان أمين يحصل على مساعدات أمنية إسرائيلية. وبحسب وثائق تعود إلى أيلول/ سبتمبر 1971، فإن رواندا وبلجيكا اشتبهتا بأن خبراء إسرائيليين يساعدون جيش أوغندا في تنفيذ عمليات ضد رواندا. وفي أعقاب طلب رواندا، تحدث رئيس دائرة أفريقيا في الخارجية الإسرائيلية وممثلو الموساد مع أمين بهذا الشأن، وحاولوا إقناعه بفتح الحدود مع رواندا. وأثمرت هذه الاتصالات، وفي تشرين الأول/ أكتوبر 1971، تمكنت إسرائيل من إقناع أمين بتجديد العلاقات مع رواندا.

ويتضح من برقية أرسلها سفير إسرائيل في أوغندا، بتاريخ 11/08/1967، أن العلاقات لم تكن سياسية فقط، حيث تبين أن وزير الأمن الرواندي، جوفينال هابياريمانا، الذي أصبح لاحقا حاكم روندا حتى إسقاط طائرته، أرسل طلبا رسميا للحصول على مساعدات أمنية إسرائيلية.

وكتب السفير أنه من أجل فحص هذا الشأن سافر معه جنرال الاحتياط، بار سيفير، إلى رواندا وشارك في محادثة مع وزير الأمن. وفي تلخيص الاجتماع أشار إلى موضوعين يجدر الدخول بهما، الأول يتطرق إلى طلب وزير الأمن إيفاد مستشار لتقديم المشورة لإقامة جهاز أمن ويكون قادرا على تنظيم دورات أساسية، والثاني يتصل بإقامة حركة شبيبية مقاتلة، مماثلة لـ”ناحال” الإسرائيلية. وتشير الوثائق إلى أن إسرائيل التزمت بتعهداتها، وساعدت في إقامة جهاز أمن جديد، وفي إقامة حركة شبيبة مقاتلة.

أما سفير إسرائيل في أوغندا فيقول في برقية تعود إلى شباط/ فبراير 1968، حول محادثة أجراها مع وزير الدفاع في رواندا إنه تم الاتفاق على أن يقدم الموساد الإسرائيلي دورة أمنية في نيسان/ إبريل من العام نفسه. وكتب ممثل إسرائيل في كيغالي، يافه، أنه “في مطلع أيار/ مايو سيصل إلى رواندا مرشدان من الموساد، ويقدمان دورة أمنية أساسية تستمر لشهرين أو ثلاثة شهورر لقادة الأجهزة الأمنية”.

وأضاف أن “وزير الأمن رؤساء الأجهزة الأمنية ذكروا أكثر من مرة أنهم مسرورون إذا أبقى الموساد مستشارا لدى رئيس الأجهزة لمدة سنة أو سنتين”. وتابع أنه يدعم هذه الفكرة لأن “هذا الدور يسمح لإسرائيل باختراق الأجهزة الأمنية والتأثير على المركز العصبي للدولة”، مضيفا أنه يأمل أن يعمق وزير الأمن الرواندي وبعثة الضباط الروانديين إلى إسرائيل جاهزيتهم للتعاون معها.

وبحسب برقية أرسلها سفير إسرائيل في أوغندا في 24/07/1968، فإن الموساد أكمل دورة أساسية في رواندا، ويتم تنظيم الأجهزة الأمنية وفق المواصفات التي قدمها إسرائيليان مكثا هناك. كما كتب أنه يعلم من المرشدين ومن مئير يافه أن الروانديين سيطلبون إبقاء مرشد بشكل دائم للأجهزة الأمنية. ولا يبدو أنه يوجد في الموساد من هو متفرغ لذلك، ولكن بسبب الظروف والضغوطات، فمن الممكن أن يستجيبوا لهذا الطلب، حتى لفترة ستة شهور.

وبحسب برقية أخرى للسفير في أوغندا، بتاريخ 05/08/1968، فإن رئيس الأجهزة الأمنية الرواندية قد قدم الشكر على المساعدات التي قدمته له ولبلاده من قبل المرشدين الذي “قدموا عملا ممتاز” بحسبه.

وفي كانون الأول/ ديسمبر من العام نفسه، يتحدث يافه عن استمرار العلاقات مع وزير الدفاع، هابياريمانا، حيث يقول إن الأخير، وفي محادثة معه بتاريخ 11/12/1968، قال إنه في ظل استبدال رئيس الأجهزة الاستخبارية في رواندا، فإنه يطلب الانتظار مدة شهر أو شهرين، وعندها يبدأ تطبيق خطة تنظيم الجهاز حسب اقتراح المرشدين، يهودا غيل، ومئير بن عامي، كما أنه معني بأن يزور بنيامين روتم رواندا مرة أخرى من أجل إقامة علاقة مع رئيس الجهاز الجديد، ومناقشة الخطة المقترحة معه.

الدكتاتور يعبر عن تقديره لإسرائيل

ويشير التقرير إلى أن مشروع إقامة حركة الشببية المقاتلة تقدم بشكل جيد. حيث يتحدث هراري في 09/06/1971 أن وزارة الأمن الإسرائيلية أرسلت ضباطا من الجيش لإقامة حركة شبيبة مماثلة لـ”ناحال” في معسكرات مختلفة في أنحاء رواندا. وقبل ذلك بنحو عام، كتب هراري بتاريخ 06/08/1970، أن إسرائيل قدمت تقارير لوزير الدفاع الرواندي حول التقدم في المشروع، رغم أن برقية كتبها قبل سنتين، في أيلول/ سبتمبر 1968، كان قد تحدث فيها أن عمليات التدريب انتقلت بشكل مثير للشكوك من المناطق الحدودية إلى معسكر قرب العاصمة كيغالي.

ولم يكن الحديث عن تدريب ضباط روانديين في إسرائيل، وإنما عن قيام الموساد بعمليات تدريب وبناء حركة شبيبة رواندية.

هل كان بالإمكان تفادي المذبحة؟ (أ ب)
هل كان بالإمكان تفادي المذبحة؟ (أ ب)

وفي برقية يعود تاريخها إلى 14/06/1968، يقول مدير دائرة أفريقيا في وزارة الخارجية الإسرائيلية، حنان بار أون، إن نظام الهوتو طلب شراء راجمات وذخيرة من إسرائيل، كما طلب توفير مرشدين إسرائيليين لسلاح المدفعية.

ويبدو أن جهود إسرائيل في رواندا قد نجحت، حيث أن برقية بعث بها هراري بتاريخ 01/09/1969، تشير إلى أن الدكتاتور كاييباندا أبدى دعما وتقديرا لإسرائيل. وكتب أيضا، بتاريخ 07/10/1979، أن “موقف رواندا تجاه إسرائيل لا يزال داعما. وستواصل برأيي، دعم الخط السياسي لإسرائيل مقابل العرب، وخاصة في قضية اللاجئين”.

وفي برقية تعود إلى 10/08/1971، كتب هراري أنه اقتراح على وزير الخارجية الرواندي فتح سفارة لبلاده في القدس، إلا أن هذه الخطوة لم تخرج إلى حيز التنفيذ.

وفي استعراض أعده هراري بتاريخ 08/10/1971، قبل سنة ونصف من الانقلاب العسكري الذي أطاح بالدكتاتور كاييباندا، كانت تقديراته صائبة، حيث أن الوحيد الذي يستطيع استبداله هو وزير الدفاع جوفينال هابياريمانا، بيد أن الوثائق لا تشير إلى علاقات إسرائيل مع النظام الجديد حتى ارتكاب عمليات الإبادة الجماعية، لأنها لم تكشف بعد أمام الجمهور.

حان الوقت للتحقيق بعلاقات إسرائيل مع مرتكبي الإبادة الجماعية

أشار التقرير إلى أنه في السنوات الأخيرة جرت عدة إجراءات قضائية في إسرائيل، مع محقق الإبادة الجماعية (الجينوسايد)، بروفيسور يائير أورون، بطلب الكشف عن وثائق وزارة الأمن بشأن التصدير الأمن في سنوات التسعينيات إلى نظام الهوتو في رواندا الذي ارتكب مجازر الإبادة الجماعية، وطلب محاكمة إسرائيليين إذا كانوا متورطين في المساعدة على ارتكاب الإبادة الجماعية وارتكاب جرائم ضد الإنسانية.

وردا على ذلك، قال المدعي العام، شاي نيتسان، إن المدير العام لوزارة الأمن في حينه، دافيد عبري، أصدر بتاريخ 12/04/1994، بعد 6 أيام من بدء عملية الإبادة، بتجميد كل الفعاليات الأمنية الإسرائيلية في رواندا، مع وصول الأنباء عن اندلاع حرب أهلية.

وادعى نيتسان أن المواد التي عرضت عليه من قبل وزارة الأمن لا تشير إلى أن جهات إسرائيلية كانت على علم بالمجازر التي ترتكب ضد أبناء التوتسي قبل ذلك.

في المقابل، فإن هذه الوثاق التي تنشر للمرة الأولى بشأن سنوات الستينيات ومطلع السبعينيات من القرن الماضي، تؤكد أن إسرائيل وممثليها كانوا يعلمون على مدى عشرات السنوات عن الطابع الدموي  والعنصري والفاسد لنظام الهوتو في رواندا، ويبدو أن ذلك لم يكن يعنيهم، أو فضلوا مصالح أخرى، مثل الاستفادة من تصويت رواندا في الهيئات الدولية.

وبحسب ماك، فإنه رغم أن المحكمة العليا منعت نشر وثاق من فترة الإبادة الجماعية في رواندا، بادعاء أن ذلك يمس بأمن وعلاقات إسرائيل الخارجية، فإن لا يوجد أدنى شك في أنه في السنوات الأخيرة بات الجمهور يعلم بالتورط الإسرائيلي المخزي في رواندا، بيد أنه لا يعلم كافة التفاصيل عن التورط الأمني لأن قسما من وثائق الخارجية ووثائق وزارة الأمن والجيش الإسرائيلي والموساد والشاباك لا تزال محجوبة عن الجمهور. كما لا شك بأن الحديث عن تورط لا يزال متواصلا.

يشار في هذا السياق إلى أن الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، أصدر تعليمات، مؤخرا، بتعيين طاقم خبراء ومؤرخين لدراسة مدى تورط فرنسا في الأحداث في رواندا. وبعد مرور 25 عاما على الإبادة الجماعية فيها، فقد حان الوقت لتشكيل لجنة تحقيق مماثلة في إسرائيل، بحسب ماك.