فقد دأبوا (ع) على إبقاء روح الشريعة متقدة في الأمة بمقارعتهم السلطات المنحرفة فلم يركنوا إلى الظالمين، ولم يفتأوا يدعون إلى حقوق المسلمين وحقوقهم المغتصبة، ولم يتنصّلوا عن مسؤولياتهم تجاه الأمة، فمارسوا دورهم بعد رسول الله (ص) في حماية خط الإسلام والحفاظ على شريعته المقدسة.
وقد بدأ هذا الدور أمير المؤمنين وزوجته الطاهرة الصديقة فاطمة الزهراء (ع) بمطالبتهما بفدك ووصل دور أمير المؤمنين الرافض لبيعة السقيفة إلى محاولة اغتياله ! وقام بعده بهذا الدور الإمام الحسن الذي كشف استهتار معاوية بمقدرات الأمة حتى آل الأمر بمعاوية إلى قتله بالسم.
وأستمر هذا الدور وبلغ الذروة حينما أراد بنو أمية إرجاع جاهليتهم الأولى على يد يزيد فقام الإمام الحسين (ع) بثورته العظيمة التي حفظ بها روح الإسلام بدمه الطاهر وأحيا شريعة جده بتضحياته وشهادته.
ونهج الأئمة من بعد كلهم (ع) على هذا المسار ولم يحيدوا عنه طرفة عين رغم الوسائل القمعية التي مُورست ضدهم وأجواء الإرهاب التي عاشوها, فبقي دورهم فاعلاً ومؤثراً في رفض الظلم.
تأييد الأئمة الثورات العلوية
كان من الأسباب الرئيسية للثورات العلوية على العباسيين هو الضغوط التي مارستها السلطة العباسية وانتهاجها نهجاً عدائياً مفرطاً ضد العلويين حيث تنوّعت أساليب القمع والاضطهاد من القتل إلى السجون والتعذيب والتشريد والتنكيل, ونتيجة لهذا العداء السافر والتضييق والاضطهاد فقد اضطر العلويون من أبناء الأئمة (ع) وأبناء عمومتهم إلى اللجوء إلى الاصطدام المسلح فقاموا بالعديد من الثورات داعين إلى العدل والانصاف والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرفعوا شعار الدعوة إلى (الرضا من آل محمد) والقصد من ذلك هو الإمام المعصوم الذي تتحقق على يديه هذه المفاهيم.
وكان المراد من رفع هذا الشعار الذي يدل على أحد الأئمة من آل البيت (ع) دون ذكر اسمه هو لعدم تعرّضه للخطر في حالة عدم نجاح الثورة وفي ذلك دلالة واضحة على أن هدف الثورات كان إعادة الحق المغتصب لأهل البيت ورفع الظلم عن الأمة كما كانت هذه الثورات تحظى بتأييد ودعم من الأئمة (ع)
ورغم أن الإمام منهم (ع) كان يحرص على مد الثورة بالمال ومتابعة أخبارها ومستجداتها وتحركات الثوار والترحم على قادتها ولعن قاتليهم كما في أحاديث الإمام الصادق (ع) بخصوص ثورة زيد بن علي (ع)، والإمام الكاظم (ع) بخصوص ثورة حسين فخ إلا أنه (ع) في نفس الوقت كان حريصاً على عدم القيام بالثورة المعلنة بنفسه من أجل إكمال مسيرة الإسلام وبقاء روح الشريعة والعقيدة متّقدة في المجتمع فهو يحمل مواريث النبوة ومقاليد الإمامة.
ونجد ما يشير إلى ذلك بوضوح في روايات الإمام الصادق (ع) في دعمه الثائرين وخصوصاً ثورة عمه الشهيد زيد بن علي وابنه يحيى بن زيد (عليها السلام)، فكان (ع) يشيد بدور هذين البطلين ومن استشهد معهما في الدفاع عن الاسلام ومقارعة الظلم والفساد، من ذلك قوله في ثورة زيد: (رحم الله عمي زيداً إنه دعا إلى الرضا من آل محمد ولو ظفر لوفى بما دعا إليه) وقوله (ع) بخصوص سائر الثورات العلوية: (من خرج على هؤلاء ـ يعني بني العباس ـ وقتل فعلي نفقة عياله).
الثورات العلوية
من هذا المنطلق الرافض للظلم والاستبداد العباسي استمرت الثورات العلوية في عهدهم (ع) وتواصلت واستفحلت, ففي عهد الإمام الباقر والصادق (عليهما السلام) قام بالثورة زيد بن علي, وابنه يحيى بن زيد, وعبد الله بن معاوية بن جعفر بن أبي طالب, ومحمد بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب (ذي النفس الزكية), وأخوه إبراهيم.
وفي عهد الإمام الكاظم (عليه السلام) قام بالثورة الحسين بن علي المعروف بـ (شهيد فخ), وأخواه يحيى وإدريس.
وفي عهد الإمام الرضا (عليه السلام) ثار زيد بن موسى بن جعفر, وثار محمد بن إبراهيم, ومحمد الديباج بن الإمام الصادق, وإبراهيم بن الإمام الكاظم.
وفي عهد الإمام محمد الجواد (عليه السلام) قام بالثورة ابنا عم الإمام الجواد عبد الرحمن بن أحمد, ومحمد بن القاسم.
وفي عهد الإمام الهادي (عليه السلام) قام بالثورة محمد بن صالح بن موسى بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب, والحسن بن زيد, ومحمد بن اسماعيل من أحفاد الإمام الحسن, وعبد الله بن عيسى بن الحسن بن الحسين بن علي بن أبي طالب, وأخوه أحمد.
وفي عهد الإمام العسكري قام بالثورة علي بن محمد بن أحمد بن علي بن عيسى بن زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب.
ثورة فخ
عاصر الإمام الكاظم هذه الثورة ضد السلطة العباسية في عهد الهادي وقد قام بها الحسين بن علي بن الحسن المثلث بن الحسن المثنى بن الحسن السبط بن علي بن أبي طالب (ع) سنة (169ه/786م) وكان هذا الثائر العلوي من أعلام بني هاشم أمه زينب بنت عبد الله بن الحسن المثنى بن الحسن بن علي بن أبي طالب (ع) وقد استشهد فيها واستشهد معه أكثر من مائة علوي من أهل بيته وبني عمه من أولاد الحسن والحسين فضلاً عن خيار الشيعة ومن أصحاب الإمامين الصادق والكاظم (ع) وقد ذكر هذه المعركة الشاعر دعبل الخزاعي في تائيته الشهيرة:
قبورٌ بكوفانٍ وأخرى بطيبةٍ * وأخرى بـ (فخٍ) نالها صلواتي
أسباب الثورة
كانت سيرة الهادي العباسي من أبشع السير وأقساها تجاه العلويين فما إن تولى الخلافة حتى ضيق عليهم واضطهدهم ومنعهم حقوقهم ومارس عليهم أساليب القمع والوحشية يقول اليعقوبي: إن الهادي أخاف الطالبيين خوفاً شديداً، وألحّ في طلبهم وقطع أرزاقهم وعطياتهم، وكتب إلى الافاق يطلبهم. (2)
ومن هذه الأساليب أن موسى الهادي العباسي ولّى على المدينة أكثر الناس بغضاً لآل علي وهو عمر بن عبد العزيز بن عبد الله بن عمر بن الخطاب, فضيق عليهم وأساء إليهم وأفرط في التحامل عليهم فكان يفرض عليهم الحضور في المقصورة (إثبات وجود) في كل يوم فكانوا يعرضون في كل يوم بل تعدى الأمر إلى اتهامهم بما ليس فيهم.
يقول الشيخ محمد الساعدي: إن أسباب ثورة صاحب فخ نتيجة لضغط والي المدينة من قبل موسى الهادي على الطالبيين وهو عمر بن عبد العزيز بن عبد الله بن عمر ابن الخطاب وإرهابه لهم وتحديه إياهم بما كان يفرضه عليهم من الحضور عنده كل يوم للعرض حذراً لما يتوقعه منهم عند غيابهم عن المدينة، فكانت الثورة في الواقع نتيجة الإرهاب والضغط الشديدين وأخذهم دعاة الحق بالقوة والأذى مع العلم أن الحسين في فترات مختلفة وبوسائل شتى حاول إيجاد التفاهم الايجابي وعدم الركون
والرجوع إلى القوة والحرب بينهم وبين ذلك الوالي فلم يفلح ولم يحض منه برد وقبول حسن (3)
نتيجة الثورة
أرسل الهادي جيشاً بقيادة موسى بن عيسى بن موسى بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس لقمع ثورة الحسين ورغم استبسال العلويين في القتال إلا أن كثرة الجيش العباسي حسمت المعركة لصالحهم فقطعت رؤوس الشهداء وبقيت الأجساد الزكية في وادي فخ مضرّجة بالدماء على وجه الأرض.
يقول الطبري وابن الأثير: إن قطع الرؤوس كان يوم التروية ايضاً، فحملوها إلى مكة ومنها الى المدينة وكانت مائة ونيف رأس (4)
وجاء الجند بالرؤوس إلى قائد الجيش العباسي موسى بن عيسى بعد أن ألقوا القبض على أغلب ولد الحسن والحسين ممن لم يشتركوا بالقتال والثورة.
موقف الإمام الكاظم (ع)
أحضروا رؤوس الشهداء مع الأسرى وهم مقيدون بالسلاسل إلى المجلس فلم يسأل موسى بن عيسى أحداً منهم ولم يتكلم أحد منهم بشيء إلا الإمام موسى بن جعفر (ع) حينما قال موسى بن عيسى:
هذا رأس الحسين؟
فقال الإمام الكاظم (ع): نعم إنا لله وأنا اليه راجعون، مضى والله مسلماً صالحاً صوّاماً قوّاماً آمراً بالمعروف ناهياً عن المنكر ما كان في أهل بيته مثله.
فلم يجيبوه بشيء ثم قيدوهم الأسرى بالحبال والسلاسل وقادوهم إلى بغداد وأدخلوهم على الخليفة موسى الهادي فأمر بقتلهم وأن يصلبوا فصلبوا بباب الحبس.
ندد الإمام الكاظم (ع) بالجريمة التي ارتكبها الجيش العباسي صراحة وأمام قائد الجيش ولم تأخذه في الله لومة لائم ولم يخش بطش السلطة في قول الحق فكان هذا الموقف منه هو تأييد علني للثورة
كما يدل قول الهادي العباسي على أن الإمام (ع) لم يكن مؤيداً للثورة فقط, بل أن الثورة لم تكن لتقوم لولا موافقته ودعمه, فبعد الثورة غضب الهادي على الإمام غضباً شديداً وهدّده بالقتل وقال:
والله ما خرج الحسين إلا عن أمره, ولا اتبع إلا محبته, لأنه صاحب هذه الوصية في أهل هذا البيت قتلني الله إن أبقيت عليه.
وهذا القول منه كان من الأخبار التي تصله عن طريق الجواسيس الذين يضعهم لمراقبة العلويين عامة والإمام الكاظم خاصة لأنه (ع) كان سيد بني هاشم والزعيم المطاع فيهم لذلك صمم على قتل الإمام لكن إرادة الله حالت دون ذلك فأهلكه الله قبل تنفيذ وعده.
وقد أوصى الإمام الكاظم (ع) الحسين عندما بلغت الثورة ذروتها بقوله:
إنك مقتول فأحدّ الضراب فإن القوم فسّاق يظهرون أيماناً ويضمرون نفاقاً وشركاً فإنا لله وإنا اليه راجعون وعند الله عز وجل أحتسبكم من عصبة.
كما تفجع الإمام لما آل إليه مصير الثورة من مأساة مؤلمة وفاجعة مريرة فقد تأثر لذلك كثيراً وبكى على أولئك الصفوة من أهل بيته وأصحابه وقال:
ــ لم يكن لنا بعد الطف مصرع أعظم من فخ
محمد طاهر الصفار
…………………………………………………….
1 ــ الحركات السرية في الإسلام ص 67
2 ــ تاريخ اليعقوبي ج 3 ص 148
3 ــ الحسنيون في العراق ج 1 ص 154
4 ــ تاريخ الطبري والكامل في التاريخ