ساسة بوست :
قبل ستّة قرون من الآن كان العالم شاهدًا على جرائم الممالك المسيحية الإسبانية من خلال المجازر الرهيبة التي عرفتها بلاد الأندلس من طرد الموريسكيين من ديارهم والتنكيل بهم من خلال محاكم التفتيش، غير أنّ الفترة ذاتها شهدت مجازر لا تقلُّ بشاعةً عن ما شهدته إسبانيا، وذلك في الضفّة المُقابلة من البحر الأبيض المتوسّط.
غير بعيدٍ عن غرناطة، آخر معاقل المسلمين في الأندلس (إسبانيا حاليًا)، كان سكّان مدينة وهران الجزائرية ينتظرون مصيرهم بعد أن وصل المدّ الإسباني مع بداية القرن السادس عشر إلى سواحل البحر المتوسط، في هذا التقرير نعود بالأحداث إلى المجازر التي رافقت احتلال إسبانيا لمدينة وهران الجزائرية، والأهوال التي عاشها سكّانها.
غرناطة.. «الثور الأبيض» الذي سبق مدينة وهران
في الثاني من يناير (كانون الثاني) 1492م، كان العالم على موعدٍ مع سقوط آخر قلاع المسلمين في الأندلس، بعد أن حاصر الزوج الملكيّ المسيحيّ، إيزابيلا ملكة قشتالة وليون، وزوجها فرديناند ملك أراغون، غرناطة في 30 أبريل (نيسان) 1491 حصارًا شديدًا دام ثمانية أشهر انتهى بتوقيع معاهدة استسلام سلّمت من خلالها مدينة غرناطة للممالك المسيحية، ضمّت هذه المعاهدة في فصولها على بنودٍ تحفظ للمسلمين دينهم وأموالهم وأملاكهم، كما سمحت المعاهدة لمسلمي غرناطة بممارسة الشعائر الإسلامية والاحتكام إلى الشريعة.
مدينة وهران – مصدر الصورة: جامعة سيدي بلعباس
بُعَيدَ استلام الملك الكاثوليكي فرديناند وزوجته إيزابيلا مفاتيح مدينة غرناطة، بدأت فترةٌ صعبةٌ من معاناة المسلمين بعد أن انقلبت الممالك المسيحية على اتفاقية التسليم تلك، وشرعت في ارتكاب مجازر شنيعةٍ وتطبيق محاكمات قاسيةٍ ضد المسلمين واليهود عُرفت بمحاكم التفتيش، لكن المد الإسباني لم يتوقّف عند غرناطة؛ إذ وضعت الملكة إليزابيث سواحل المغرب العربي في دائرة استهدافها وتوسّعها، بحجّة ملاحقة الموريسكيين والحدّ من هجماتهم، وفي هذا السياق يرى المؤرخ الفرنسي جون أندري جوليان في كتابه «تاريخ شمال أفريقيا» إنّ الحملة الإسبانية على سواحل المغرب العربي بعد سقوط الأندلس تأتي في المرحلة الثانية من ناحية الاهتمام، نتيجة الخطر الأمني الذي كانت تشكّله ثورات الموريسكيين وغاراتهم على الأمن الإسباني.
في تلك الأثناء، كان الغرب الجزائريّ محكومًا من طرف الزيانيين تحت مسمى الدولة الزيانية، والتي كانت تشهد مع بداية القرن الـ16 الميلادي ضعفًا شديدًا كما كانت في طريقها للزوال، هناك أرسل الملك الإسباني فيرديناند أحد جواسيسه ويدعى باديلا إلى عاصمة الدولة الزيانية بتلمسان من أجل جمع معلوماتٍ عن سواحل الجزائر بما فيها مدينة وهران، ومكث الجاسوس باديلا سنةً كاملةً يجوب فيها الغرب الجزائري متنكرًا في زيّ تاجر، ليعدّ تقريرًا للملك فرديناند أعطى من خلاله الضوء الأخضر لبداية الحملة الأسبانية على وهران، غير أنّ وفاة الملكة إيزابيلا سنة 1504م أجّلت خطة احتلال وهران.
رجل ظلمه التاريخ.. «آخر ملوك الأندلس» لم يكن خائنًا كما يتصور الكثيرون
احتلال المرسى الكبير.. بداية المجازر الإسبانية في وهران
عمد الكاردينال كاسيمناس خيمينيس المشهور بتعصّبه الديني على إقناع الملك فرديناند بمواصلة حربه ضد المسلمين الفارّين من الأندلس إلى شمال أفريقيا، وأمر جاسوسًا تحت اسم جيرونيمو فبانيلي – إيطالي من البندقية – بالتوجّه إلى وهران وإعداد خريطةٍ لمدينة وهران ومينائها المرسى الكبير، وهو ما نجح فيه الجاسوس الإيطالي، ليغادر الأسطول الإسباني ميناء ملقا في 29 من أغسطس (آب) سنة 1505م باتجاه المرسى الكبير.
وقع خبر الحملة الإسبانية تلك على أسماع السكّان فانطلقوا من أجل القتال نجدةً المدينة، غير أنّ الأحوال الجوية السيئة أخّرت وصول الحملة الإسبانية، فرأى الجانب الجزائري حسب المؤرخ الجزائري أحمد توفيق مدني في كتابه «حرب الثلاثمائة سنة» أنّ الحملة فشلت، ما جعل جنود الدولة الزيانية يعودون إلى تلمسان ويُبقون على بعض الجنود للمراقبة.
في 11 من سبتمبر (أيلول) وصلت الحملة الإسبانية التي كانت تتشكّل من 150 سفينةٍ و5 آلاف جندي، والتي كانت ممولةً من الكاردينال خمينيس و كان قائدها دييغو فرينانديز دي كوردوبا إلى المرسى الكبير، وبعد قتال شرس و غير متكافئٍ استمرّ طيلة 50 يومًا، دخل الإسبان المرسى الكبير ليرتكبوا مجازر دامية في حقّ سكّانها ويقوم الجنرال دي كوردوبا بتحويل المسجد الأعظم بالمدينة إلى كنيسة، وتعلن السلطات الإسبانية أسبوعًا كاملًا من الأفراح داخل إسبانيا ابتهاجًا بهذا الانتصار.
تلمسان الجزائرية.. «قرطبة أفريقيا» التي كان يخشاها العثمانيون
احتلال وهران.. حين أفزعت المجازر الإسبانية جميع الجزائريين
في 16 من مايو (أيّار) سنة 1509م، انطلقت من ميناء قرطاجنة الإسباني حملةٌ عسكريةٌ بتعداد 15 ألف مقاتلٍ من أشدّ المقاتلين الإسبان، كانت وجهة الحملة ميناءَ المرسى الكبير قبل أن تتحوّل في البحر صوْب مدينة وهران بالتحاق أسطول البحارة الذي كان في المرسى الكبير.
عزم الكاردينال خيمينيس على القضاء على الموريسكيّين المتواجدين في الشمال الأفريقي، ووضع كبرى أولوياته حربًا ضروسًا ضد مدينة وهران التي كانت تحمي الموريسكيين الفارين من جحيم الإسبان.
بعد أسبوع من انطلاق الحملة وصل الأسطول الإسباني إلى مدينة وهران لتبدأ معركة حاسمة سقط خلالها آلاف القتلى، لتستسلمّ المدينة في يدّ الإسبان وتبدأ مشاهد الانتقام وفصول المجازر الرهيبة التي أعادت إلى الأذهان مشاهد سقوط غرناطة قبل 16 سنة خلت.
وممّا يذكره المؤرخ الفرنسي شارل أندري جوليان في كتابه تاريخ شمال أفريقيا حول أسباب سقوط المدينة في يدّ الإسبان أنّ الخيانة لعبت دورًا كبيرًا في ذلك من خلال خيانة اليهودي ستورا لوهران بعد فتحه أبواب المدينة للجنود الإسبان.
خريطة توضح الحملة الإسبانية على وهران – مصدر الصورة: جامعة سيدي بلعباس
وبحكم الحقد الذي كان يحمله الكاردينال كاسمناس خيمينيز للمدينة، يذكر المؤرخ الجزائري مبارك الميلي في كتابه «تاريخ الجزائر في القديم والحديث» أن الكاردينال الإسباني كسيماناس أمر جنوده «بتقتيل أكبر عدد من الجزائريين ويعترف شهود من الإسبان أنّ جنود كسيماناس شرعوا في تقتيل سكان المدينة بكلّ وحشية فلم تمضي سوى ساعاتٍ قلائل حتى تمّ تقتيل أكثر من 4 آلاف شخص عدا النهب والسلب وقد قدرت غنائم الإسبان بأكثر من 24 مليونًا، وغادر كسيماناس وهران بعد أن حوّل مساجدها إلى كنائس».
كما يسترجع المؤرخ توفيق المدني ذاكرة سقوط وهران في كتاب حرب ثلاثمائة سنة فيقول «أعمل الإسبان السيف في رقاب أهلها – وهران – إلى الحد الذي سقطت معه دموع القائد الإسباني نفسه أمام هول المجازر التي لحقت بأهل المدينة المسلمين، الذين قتل منهم ما يزيد على 4 آلاف فرد، وأُسر ما يزيد عن 8 آلاف، سِيقوا عبيدًا إلى إسبانيا».
كما قام الإسبان بنهب تحفٍ ونفائسٍ وكتبٍ نادرة تمّ شحنها إلى إسبانيا، في مقابل قيام الكاردينال خيمينيس باستقدام عائلاتٍ مسيحيةٍ قصد الاستيطان بمدينة وهران وتعميرها.
حرب 300 سنة.. وهران أسيرة الإسبان طيلة ثلاثة قرونٍ
استمرّ الاحتلال الإسباني لمدينة وهران الجزائرية طيلة الفترة الممتدة من سنة 1509م حتى 1791م، ولم تتغيّر خلالها أوضاع سكان المدينة الذين رزحوا تحت وطأة الممارسات القمعية الإسبانية، كما استمرّت محاولات العثمانيين – حكام الجزائر العثمانية – لاستعادة المدينة طيلة تلك الفترة، ومع تصاعد القدرات العسكرية للجزائر العثمانية إلى مستوى أرعب إسبانيا ومصالحها في وهران، جهزت إسبانيا في 23 من يوليو (حزيران) سنة 1770م حملةً ضد مدينة الجزائر في محاولةٍ منها لصد الخطر العثماني المتصاعد عرفت بحملة أوراي، غير أنّ جيش صالح باي تمكّن من دحر الحملة وهزيمتها. وأمام تلاحق هزائم الإسبان أمام الأسطول الجزائري، وجدت إسبانيا نفسها مجبرةً حسب مبارك الميلي على عقد صلحٍ مع الجزائر سنة 1785م كان من بين بنوده جلاء الإسبان من مدينة وهران، غير أنّ مماطلة الإسبان وطمعهم في كسب مزيدٍ من الوقت والامتيازات أخّر عملية الإجلاء.
وأمام تقاعس الإسبان يذكر أستاذ التاريخ الحديث بجامعة غرداية محمد السعيد بوبكر في كتابه «العلاقات السياسية الجزائرية الإسبانية» أنّ محمد الكبیر – باي وهران- سنة 1789م قام بتجهيز جيشٍ كما استعان بفرقةٍ من الطلبة وحفظة القرآن، واتجه من مدينة معسكر ومعه 5 آلاف رجل إلى وهران ليتمكن من محاصرتها، وقبيل دخولها، ضرب في ليلة 8 – 9 أكتوبر (تشرين الأول) زلزالٌ عنیفٌ مدينة وهران دام ثلاث دقائق فقط، ولكنه أحدث أضرارًا بليغة، حیث خربت المدینة جراءه، فهدم جميع المنازل، والكنائس، والأماكن العامة، والأسوار، وتوفي خلاله حوالي 3 آلاف، واستغل محمد الكبیر هذه الأوضاع، وهاجم مع جيشه حصون ومزارع الإسبان بالمدينة وعمّ الاضطراب كل أرجائها.
جيش الطلبة ودوره في تحرير مدينة وهران- مصدر الصورة (oran histoire et nostalgie)
لم يستطع الإسبان التصدي لحملات محمد الكبير؛ ما اضطرهم إلى التفاوض مجددًا على مصير المدينة، ليقرر الملك الإسباني شارل ترك وهران نهائیًا، وفي 12 سبتمبر عام 1791 وصل السفیر الإسباني إلى الجزائر، وعرض على الداي حسان باشا إخلاءها، وطلب الإسبان مدّة ستة أشهر للإجلاء، على أن يدفع الإسبان ضريبةً سنويةً قدرها 120 ألف جنيه إسترليني للخزينة الجزائرية، كما أعادت إسبانيا المدافع الحربية التي كانت بالمدينة أثناء فترة احتلالها.