"يابنى كونا للظالم خصما و للمظلوم عونا"..الإمام علي (عليه السلام)

ما معنى عبارتي “الكتاب الحكيم” و “الكتاب المبين” اللتين وردتا في القرآن؟

شفقنا :

ثمة سؤال يطرح: ما معنى عبارتي “الكتاب الحكيم” و “الكتاب المبين” اللتين وردتا في القرآن؟ وقد جاء الرد على هذا السؤال في الموقع الالكتروني لمركز الابحاث العقائدية الذي يشرف عليه مكتب المرجع الديني السيد علي الحسيني السيستاني.

السؤال: ما معنى عبارتي “الكتاب الحكيم” و “الكتاب المبين” اللتين وردتا في القرآن؟ هل هما القرآن نفسه أم كتب مختلفة؟

الجواب: في تفسير الميزان السيد الطباطبائي ج 10 ص 8 قال:

والمراد بالكتاب الحكيم هو الكتاب الذي استقرت فيه الحكمة، وربما قيل : إن الحكيم من الفعيل بمعنى المفعول والمراد به المحكم غير القابل للانثلام والفساد، والكتاب الذي هذا شأنه – وقد وصفه تعالى في الآية التالية بأنه من الوحي – هو القرآن المنزل على النبي صلى الله عليه وآله وسلم .

وربما قيل : إن الكتاب الحكيم هو اللوح المحفوظ، وكون الآيات آياته هو أنها نزلت منه وهى محفوظة فيه، وهو وإن لم يخل عن وجه بالنظر إلى أمثال قوله تعالى : (( بَل هُوَ قُرآنٌ مَجِيدٌ * فِي لَوحٍ مَحفُوظٍ )) (البروج:21-22) وقوله : (( إِنَّهُ لَقُرآنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتَابٍ مَكنُونٍ )) (الواقعة:77-78) لكن الاظهر من الآية التي نحن فيها وسائر ما في سياقها من آيات أوائل هذه السور المفتتحة بالحروف (( الر )) وسائر الآيات المشابهة لها أو الناظرة إلى وصف القرآن ان المراد بالكتاب وبآياته هو هذا القرآن المتلو المقرو وآياته المتلوة المقروة بما أنه من اللوح المحفوظ من التغيير والبطلان كالكتاب المأخوذ بوجه من الكتاب كما يستفاد من مثل قوله تعالى : (( تِلكَ آيَاتُ الكِتَابِ وَقُرآنٍ مُبِينٍ )) (الحجر:1)، وقوله : (( كِتَابٌ أُحكِمَت آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَت مِن لَدُن حَكِيمٍ خَبِيرٍ )) (هود:1)، وغير ذلك .

وفي تفسير الميزان ايضا ج 7 ص 126 قال :

وقد دلت الآية على أن هذه الأمور في كتاب مبين فما هو الذي منها في كتاب مبين ؟ أهو هذه الأشياء من جهة شهادتها وغيبها جميعا أم هي من جهة غيبها فقط ؟

وبعبارة أخرى : الكتاب المبين أهو هذا الكون المشتمل على أعيان هذه الأشياء لا يغيب عنه شئ منها وإن غاب بعضها عن بعض أم هو أمر وراء هذا الكون مكتوبة فيه هذه الأشياء نوعا من الكتابة مخزونة فيه نوعا من الخزن غائبة من شهادة الشهداء من أهل العالم فيكون ما في الكتاب من الغيب المطلق .

وبلفظ آخر الأشياء الواقعة في الكون المعدودة بنحو العموم في الآية أهي واقعة بنفسها في الكتاب المبين كما تقع الخطوط بأنفسها في الكتب التي عندنا أم هي واقعة بمعانيها فيه كما تقع المطالب الخارجية بمعانيها بنوع من الوقوع في ما نكتبه من الصحائف والرسائل ثم تطابق الخارج مطابقة العلم العين ؟ .

لكن قوله تعالى : (( مَا أَصَابَ مِن مُصِيبَةٍ فِي الأَرضِ وَلَا فِي أَنفُسِكُم إِلَّا فِي كِتَابٍ مِن قَبلِ أَن نَبرَأَهَا )) (الحديد:22) يدل على أن نسبة هذا الكتاب إلى الحوادث الخارجية نسبة الكتاب الذي يكتب فيه برنامج العمل إلى العمل الخارجي، ويقرب منه قوله تعالى (( وَمَا يَعزُبُ عَن رَبِّكَ مِن مِثقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأَرضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصغَرَ مِن ذَلِكَ وَلَا أَكبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ )) (يونس:61) وقوله : (( لَا يَعزُبُ عَنهُ مِثقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الأَرضِ وَلَا أَصغَرُ مِن ذَلِكَ وَلَا أَكبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ )) (سبا:3) وقوله : (( قَالَ فَمَا بَالُ القُرُونِ الأُولَى * قَالَ عِلمُهَا عِندَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنسَى )) (طه:51-52) إلى غير ذلك من الآيات. فالكتاب المبين أيا ما كان هو شئ غير هذه الخارجيات من الأشياء بنحو من المغايرة، وهو يتقدمها ثم يبقى بعد فنائها وانقضائها كالبرامج المكتوبة للأعمال التي تشتمل على مشخصات الأعمال قبل وقوعها ثم تحفظ المشخصات المذكورة بعد الوقوع . على أن هذا الموجودات والحوادث التي في عالمنا متغيرة متبدلة تحت قوانين الحركة العامة والآيات تدل على عدم جواز التغير والفساد فيما يشتمل عليه هذا الكتاب كقوله تعالى : (( يَمحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الكِتَابِ )) (الرعد:39) وقوله : (( فِي لَوحٍ مَحفُوظٍ )) (البروج:22) وقوله : (( وَعِندَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ )) (ق:4) فالآيات – كما ترى – تدل على أن هذا الكتاب في عين أنه يشتمل على جميع مشخصات الحوادث وخصوصيات الاشخاص المتغيرة المتبدلة لا يتبدل هو في نفسه ولا يتسرب إليه أي تغير وفساد.

ومن هنا يظهر أن هذا الكتاب بوجه غير مفاتح الغيب وخزائن الأشياء التي عند الله سبحانه فإن الله تعالى وصف هذه المفاتح والخزائن بأنها غير مقدرة ولا محدودة، وإن القدر إنما يلحق الأشياء عند نزولها من خزائن الغيب إلى هذا العالم الذي هو مستوى الشهادة، ووصف هذا الكتاب بأنه يشتمل على دقائق حدود الأشياء وحدود الحوادث، فيكون الكتاب المبين من هذه الجهة غير خزائن الغيب التي عند الله سبحانه، وإنما هو شئ مصنوع لله سبحانه يضبط سائر الأشياء ويحفظها بعد نزولها من الخزائن وقبل بلوغها منزل التحقق وبعد التحقق والانقضاء .

ويشهد بذلك أن الله سبحانه إنما ذكر هذا الكتاب في كلامه لبيان إحاطة علمه بأعيان الأشياء والحوادث الجارية في العالم سواء كانت غائبة عنا أو مشهودة لنا، وأما الغيب المطلق الذي لا سبيل لغيره تعالى إلى الاطلاع عليه فإنما وصفه بأنه في خزائنه والمفاتح التي عنده لا يعلمها إلا هو بل ربما أشعرت أو دلت بعض الآيات على جواز اطلاع غيره على الكتاب دون الخزائن كقوله تعالى : (( فِي كِتَابٍ مَكنُونٍ * لَا يَمَسُّهُ إِلَّا المُطَهَّرُونَ )) (الواقعة:78-79) . فما من شئ مما خلقه الله سبحانه إلا وله في خزائن الغيب أصل يستمد منه، وما من شئ مما خلقه الله إلا والكتاب المبين يحصيه قبل وجوده وعنده وبعده غير أن الكتاب أنزل درجة من الخزائن، ومن هنا يتبين للمتدبر الفطن أن الكتاب المبين – في عين أنه كتاب محض – ليس من قبيل الألواح والأوراق الجسمانية فإن الصحيفة الجسمانية أيا ما فرضت وكيفما قدرت لا تحتمل أن يكتب فيها تاريخ نفسه فيما لا يزال فضلا عن غيره فضلا عن كل شئ في مدى الأبد .

فقد بان بما مر من البحث:

أولا : أن المراد بمفاتح الغيب الخزائن الإلهية التي تشتمل على الأشياء قبل تفريغها في قالب الاقدار، وهى تشتمل على غيب كل شئ على حد ما يدل عليه قوله تعالى : (( وَإِن مِن شَيءٍ إِلَّا عِندَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعلُومٍ )) (الحجر:21).

وثانيا : أن المراد بالكتاب المبين أمر نسبته إلى الأشياء جميعا نسبة الكتاب المشتمل على برنامج العمل إلى نفس العمل ففيه نوع تعيين وتقدير للأشياء إلا أنه موجود قبل الأشياء ومعها وبعدها، وهو المشتمل على علمه تعالى بالأشياء علما لا سبيل للضلال والنسيان إليه، ولذلك ربما يحدس أن المراد به مرتبة واقعية الأشياء وتحققها الخارجي الذي لا سبيل للتغير إليه فإن شيئا ما لا يمتنع من عروض التغير عليه إلا بعد الوقوع وهو الذي يقال : إن الشئ لا يتغير عما وقع عليه .

وبالجملة هذا الكتاب يحصى جميع ما وقع في عالم الصنع والايجاد مما كان وما يكون وما هو كائن من غير أن ان يشذ عنه شاذ إلا أنه مع ذلك إنما يشتمل على الأشياء من حيث تقدرها وتحددها، ووراء ذلك ألواح وكتب تقبل التغيير والتبديل، وتحتمل المحو والاثبات كما يدل عليه قوله تعالى : (( يَمحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الكِتَابِ )) (الرعد:39) فإن المحو والاثبات – وخاصة إذا قوبلا بأم الكتاب – إنما يكونان في الكتاب . وعند ذلك يتضح اتصال الآية أعني قوله : (( وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الغَيبِ لَا يَعلَمُهَا )) (الأنعام:59) إلى آخر الآية بما قبلها من الآيات فإن محصل الآيتين السابقتين أن الذي تقترحونه على من الآيات القاضية بيني وبينكم ليس في مقدرتي، ولا الحكم الحق راجع إلى بل هو عند ربى في علمه وقدرته ولو كان ذلك إلى لقضى بيني وبينكم وأخذكم العذاب الذي لا يأخذ إلا الظالمين لان الله يعلم أنكم أنتم الظالمون وهو العالم الذي لا يجهل شيئا أما أنه لا سبيل إلى الوقوف والتسلط على ما يريده ويقضيه من آية قاضية فلان مفاتح الغيب عنده لا يعلمها إلا هو، وأما أنه أعلم بالظالمين ولا يخطئهم إلى غيرهم فلانه يعلم ما في البر والبحر ويعلم كل دقيق وجليل، والكل في كتاب مبين.