مُسند للأنباء – ساسة بوست :
نحن الآن في الأناضول عام 1402م، أمامنا موكب ضخم يحيط به آلاف الجنود والفرسان ذوي الأصول الآسيوية، والذين يبدو عليهم الشراسة، وتبرز من أعينهم نظرات الافتراس.
في صدر الموكب كان هناك قفص حديدي كبير يحمله الجنود. مكمن الاستغراب لم يكن وجود القفص الحديدي في ذاته، إنما فيما -أو للدقة فيمن- احتواه القفص. لقد كان خلف القضبان حاكم واحدة من أكثر الدول قوة في العالم في ذلك الوقت، إنه السلطان العثماني بايزيد الثاني، والذي كان يلقَّب بالصاعقة بسبب انقضاضاته الخاطفة على أعدائه، ما بين أقصى شرق وأقصى غرب دولته.
فكيف انتهى هذا الرجل إلى ذلك المصير الذي يشبه مصير قرود السيرك الحبيسة؟؛
الإجابة ببساطة: تيمور لنك.
كان بايزيد -آخر كبار من سحقهم قطار الشرق التيموري السريع- والمنتشي بانتصاره عام 1396م في موقعة نيكوبوليس ضد تحالف أوروبي واسع، منشغلًا في ذلك العام بفرض حصار خانق ضد القسطنطينية، الهدف الأضخم للدولة العثمانية منذ تأسيسها، وهدف الفاتحين المسلمين منذ سبعة قرون، وبينما أوشكت الثمرة الناضجة أن تسقط بين قدميه، نزلت عليه الأخبار الصاعقة باقتحام جيوش تيمور لنك لآسيا الصغرى، انتقامًا من بايزيد لحمايته أحد خصوم تيمور لنك.
فكَّ بايزيد حصاره عن القسطنطينية، وأسرع بجيشه المنهك إلى أقصى شرق مملكته، ليتصادم الجيشان في موقعة تاريخية فاصلة، هي موقعة أنقرة في شهر يوليو (تموز) عام 1402م، والتي انتهت بهزيمة مروعة للجيوش العثمانية، وسقوط السلطان أسيرًا، ليموت بعد أشهر في محبس تيمور لنك، بينما تتفكك الدولة العثمانية، وتتمزق أوصالها لسنواتٍ في سلاسل من الحروب الأهلية، وصراعات النفوذ المحلية والسلطانية. آسيا المغولية تتمزقبعد مضيّ قرنٍ من الزمان على الفتوحات الساحقة الماحقة غزيرة الدماء، التي قام بها الفاتح المغولي الشهير جنكيزخان، وأضاف إليها أبناؤه وأحفاده، قبل أن تنكسر موجاتها العاتية على حدود مصر في عين جالوت عام 656هـ (1258م)، لم يتصور الكثيرون في أسوأ كوابيسهم، أن قارة آسيا ستكون على موعد مع طوفان دموي جديد، مغولي المصدر أيضًا، تتضاءل بالمقارنة به بعض أفاعيل الجدود، خصوصًا وأن الوضع في آسيا المغولية لم يعُد كما كان أيام المد المغولي الأكبر.
في أواسط القرن 14 الميلادي، كانت الدولة المغولية الضخمة التي بلغت أقصى اتساعٍ لها قبل قرنٍ عندما امتدت من الصين شرقًا إلى حدود مصر غربًا، قد تقسَّمت إلى عدة خانيات أو ولايات ضخمة، ثم تمزقت بعض تلك الخانيات إلى دويلاتٍ أصغر، ومناطق حكم محلية مستقلة.
كانت أبرز تقسيمات آسيا المغولية هي خانية يوان في شرق آسيا والصين، وهي تنتسب إلى قوبلاي خان حفيد جنكيز خان، وخانية جغطاي خان بن جنكيز خان في أواسط آسيا، والدولة الإيلخانية المغولية في فارس -إيران حاليًّا- وأجزاء من العراق وما حولها. والتي كان ملوكها قد أعلنوا إسلامهم قبل عشرات السنين، لكنهم استمروا في حروبهم التوسعية ضد المناطق الإسلامية المجاورة خاصة العراق والشام، فاصطدموا بجيوش دولة المماليك في عدة مواقع فاصلة، وهُزموا في أكثر تلك المعارك. وكان آخر ملوكها الأقوياء هو السلطان أبو سعيد، والذي توفى 1335ميلاديًّا، وتمزقت الدولة من بعده، وساعد على تمزقها أكثر؛ تفشي طاعون الموت الأسود الكبير الذي ضرب أجزاء واسعة من أوروبا وآسيا، ونشر الموت والفوضى في كل مكان.
وأخيرًا في غرب آسيا، كانت هناك دولة القبيلة المغولية الذهبية، والتي كانت أول القبائل المغولية الكبرى دخولًا في الإسلام، واشتهر تحالف ملكها بركة خان في القرن السابق، مع سلطان المماليك الشهير الظاهر بيبرس، ضد الدولة الإيلخانية المغولية.
امتدّت حدود سلطان القبيلة الذهبية شمالًا حتى موسكو وأجزاء كبيرة من روسيا الحالية، وجنوبًا إلى القوقاز وآسيا الصغرى.
جنكيز خان يولَد من جديد ولد تيمور لنك -على أرجح الروايات التاريخية-، في بلدة صغيرة كانت تسمى كيش بالقرب من مدينة سمرقند التاريخية الشهيرة أواسط آسيا، والتي تقع ضمن أراضي دولة أوزباكستان الحالية، وهو ينتسب إلى البارلاس، إحدى الفروع المغولية، والتي كانت مستقرة في أراضي أوزباكستان الحالية، واشتهرت باشتراكها قديمًا في حملاتٍ عسكرية أواسط آسيا، قادها جغطاي بن جنكيز خان.
ولقب لنك يعني الأعرج، وأطلق عليه نتيجة إصابته في شبابه المبكر بسهم أحد الرعاة، الذي أراد تيمور أن يسرق إحدى شياهه.
منذ شبابه برزت مهارات تيمور الحربية، والكاريزما الشخصية له، وكذلك طموحاته القيادية والسياسية التي لا تحدُّها حدود، بالإضافة إلى رصيدٍ هائل من الدهاء والتخطيط. شارك تيمور في الصراع على السلطة في منطقة أوزباكستان، وضرب المتنافسين على ميراث خانية جغطاي خان بعضهم ببعض، حيث تقلَّب في ولائه بين طرفٍ وآخر، حتى خلتْ له ساحة وسط آسيا عام 1370، ليعلن أنه الوريث الحقيقي لتراث جغطاي بن جنكيزخان، وأنه سيجدد الدولة المغولية الموحدة، واتخذ من مدينة سمرقند عاصمة لدولته التيمورية الوليدة، ويتهمه البعض بأنه كان يتخذ من الإسلام ستارًا لأطماعه.
17 مليونًا هذا الرقم المذكور هو تقدير بعض المؤرخين لعدد ضحايا حملات تيمور لنك. العسكرية على مدار حوالي نصف قرن من جهوده التي لم تنقطع لإقامة إمبراطوريته الشخصية، وهذا الرقم كان يمثل أكثر من 5% من مجمل سكان العالم في ذلك الوقت. فسرعان ما ابتلعت الدولة التيمورية معظم أجزاء خانية جغطاي خان في أواسط آسيا، وفي عام 1380، استولت جيوش تيمورلنك على مدينة كاشغر، والتي كانت من أهم حواضر آسيا الوسطى. ثم امتدَّ نفوذ تيمور إلى خانية شبه جزيرة القرم، عندما أرسل جيوشه لدعمها في حروبها ضد الروس، حتى آل الأمر إلى استيلاء جيوش تيمور على موسكو لفترة، والتنكيل بأهلها، ثم نجحت جيوش تيمور كذلك في هزيمة الليتوانيين حلفائهم في إحدى المعارك. عام 1383، سيعود نظر تيمور مرة أخرى مُصوَّبًا جهة الغرب، فيبدأ فتوحه الفارسية بالاستيلاء على مدينة هيرات في أفغانستان الحالية، والتي كانت بمثابة نافذة أطل منها تيمور على أطلال الدولة الإيلخانية المغولية. كانت فارس وجوارها، تفتقد لحكومة موحدة، وانزلقت إلى الكثير من الصراعات الأهلية والسياسية. لذا لم يكن من الصعب على تيمور في خلال عامين (1383- 1385)، أن تستولي جيوشه الجرارة على معظم أجزاء فارس، ليصبح على أبواب الشرق الأوسط.
الحواضر الكبرى على المقصلة التيموريةكان هذا ما رد به أمراء مصر المماليك، على رسالة السلطان العثماني بايزيد التي كان يدعوهم فيها إلى التحالف ضد تيمور لنك، وذلك نقلًا عن ابن تغري بردي في «النجوم الزاهرة»، وكان أبوه من مقدمي المماليك في مصر آنذاك. برغم كثرة المذابح التي ارتكبتها جيوش تيمورلنك، والمدن التي أزالوها من على الخارطة، فإن هناك وقائع بعينها كان لها النصيب الأكبر من الاشتهار، لأنها كانت تمس حياة مئات الآلاف من سكان حواضر الدنيا آنذاك، والتي كان لسقوطها تحت سنابك خيل تيمور دويُّا هائلًا في العالم. بعد استكمال إخضاع أواسط وغرب آسيا، اتجه أنظار تيمورلنك إلى أقوى خصميْن له في العالم الإسلامي، بل العالم بأكمله، الدولة العثمانية وسلطانها بايزيد الصاعقة، ودولة المماليك، وحاضرتها القاهرة، وسلطانها الناصر فرج بن الظاهر برقوق الذي كان في ذلك الوقت لا يزال صبيًا، وكان لجيوش أبيه الظاهر برقوق حروب خاطفة مع جيوش تيمور، تمكَّنت فيها من إبعاد الخطر التيموري مؤقتًا عن ممتلكات دولة المماليك في العراق وشمال الشام. رغم أن خصميْه الرئيسيْن في الغرب، فإن تيمور وجَّه بوصلته الدموية في البداية جنوبًا، حيث الهند وكنوزها، وخزائنها العامرة، التي أسالت لعابه، فأراد أن يتزوَّد بها، قبل تجهيز جيوشه لحرب أقوى خصومه.
حاول سلطان دلهي، محمد تغلق، مقاومة الزحف التيموري بكل ما أتيح له من قوة، لكن آلت الحروب بينهما إلى هزائم مروعة، انتهت إلى استباحة تيمور لمدينة دلهي، وسلب الكثير من كنوزها وثرواتها، ثم تدميرها عن بكرة أبيها، ومحوها من الخارطة، ولم تقم لها قائمة إلا بعد أكثر من قرنٍ من الزمان. وكان من أبرز أحداث حروب تيمور في الهند تغلُّبه على الأفيال التي اعتمدت عليها جيوش دلهي لإلقاء الرعب في خيول جيش تيمور، وذلك باستخدام الجمال، وإرسالها تجاه الأفيال وعلى متنها بعض المواد المشتعلة -وكأنها جمال مفخخة- فتسببت في تخويف الأفيال، وفقدان السيطرة علىها، ثم أسر تيمور العشرات من تلك الأفيال، واستخدمها في حروبه بعد ذلك الآن، جاء الدور على الخصميْن الكبيريْن، بينما أمراء مصر منخرطين في صراعاتهم على النفوذ والسلطة من حول السلطان الطفل، وردت الأنباء المفزعة إلى القاهرة، بزحف جيوش تيمور لنك الهائلة على آسيا الصغري، فاستولوا على مدينة سيواس وهي من الممتلكات العثمانية، ثم بعض مدن آسيا الصغرى الخاضعة لحكومة القاهرة. لكن نتيجة صغر سن السلطان المملوكي، واختلاف الأمراء من حوله، لم يتمْ الانتهاء إلى رد فعل مناسب لما حدث. عسكر تيمور بجيوشه قرب مدينة حلب، وأرسل رسلًا إلى دمشق قاعدة الشام، يطالب بالدعوة له على المنابر، وسك اسمه على العملة، مقابل إيقاف حملته، فما كان من الأمير سودون، أمير الشام المملوكي، سوى أن ارتكب حماقة تاريخية عجَّلت بمصير عشرات الآلاف من الأبرياء، ومصير سودون نفسه، إذ أمر بقتل رسول تيمور توسيطًا، وهي طريقة مملوكية شهيرة بقطع الجسم إلى نصفين من منتصفه، وهكذا وجد تيمور الذريعة ليجعل من عام 1401م، عام الدم في الشام.
استشاط تيمورلنك غضبًا عندما بلغته أنباء قتل رسوله، وانتقل بجيشه لحصار مدينة حلب، وكان قد تحصّن بها أمراء الشام جميعًا للدفاع عنها، وأرسلوا يطلبون من السلطان الخروج بالعساكر المصرية، وذلك لمواجهة تيمور في معركة فاصلة، إلا أن أمراء القاهرة اختلفوا، وكان جلُّهم يخشون الخروج من القاهرة لمواجهة تيمور، ولم يكن في القاهرة شخصية قادرة على اتخاذ القرار الصعب الحاسم، فكانت النتيجة أن تُركت حلب والشام تواجه مصائرها في اللحظة الحاسمة، التي كان يمكن للتدخل فيها، أن يحدث فارقًا كبيرًا. خرج أمراء الشام بكل ما توافر معهم من الجند لحرب تيمور أمام أسوار حلب، رغم الفارق الهائل لصالح جيش تيمور عددًا وعدة. لم يمنع استبسال المتطوعة من أهل حلب دفاعًا عن مدينتهم، وكذلك شجاعة بعض الأمراء، من حدوث الهزيمة المروعة، واستباح تيمور المدينة، فأثخنت جيوشه فيها قتلًا وسبيًا واغتصابًا، وامتلأت الطرقات بالجثث، وأحرق المعتدون أجزاءً واسعة من المدينة، واستمرت المذبحة أيامًا بأمر تيمور. في ذلك الحين، كان أمراء الشام وأعيان حلب متحصنين في القلعة يحاولون الدفاع عبثًا، وفي نهاية المطاف طلبوا الاستسلام مقابل الأمان، فقبل منهم تيمور ذلك، وأمر بإنزالهم مقيّدين من القلعة إلى معسكره، فأخذ يعنّفهم، ثم عفا عنهم جميعًا سوى سودون الذي قتل رسولَه.
ثم غادر تيمور حلب بعد شهر، وقد صارت قاعًا صفصفًا، وترك بها تذكاره المفضل: أبراجًا من رؤوس القتلى. في غضون ذلك، كان ميرانشاه بن تيمور، قد ألحق بمدينة حماة مصيرًا مشابهًا لحلب، ثم اتجهت الجيوش التيمورية الموحدة إلى حاضرة الشام دمشق، والتي كانت قد اكتظّت باللاجئين وقصصهم المروعة، والتي بثّت الرعب في أوصال الكثير من أهل دمشق ومن بقي من أمرائها. رغم ذلك استمات بعض أهل المدينة وجندها في تحصين أسوارها، ونظموا أنفسهم في لجان لحراسة أبواب المدينة، ومنع النزوح الجماعي منها لئلا يسود الاضطراب، وكان من أبرز من تمّ منعه من الفرار من المدينة، أميرها الذي خلّفه سودون في غيبته، إذ ردّه عامة الناس عن الخروج بغلظة وأهانوه. ثم أسهم في تسكين النفوس قليًلا سري الشائعات بخروج السلطان فرج بجيوش مصر لنجدة دمشق. أما في القاهرة، فقد تواترت الأخبار بما حدث في الشام، فأمر السلطان فرج بالتعبئة العامة، واضطربت الأحوال في القاهرة، وخرج الناس يبكون في الشوارع، ويتضرعون إلى الله أن يرفع الغمة.
مسجد وخانقاه السلطان فرج بن برقوق بالقاهرة – المصدر خرج السلطان فرج بالجيش، ودخل دمشق في يوم مشهود. أخذ تيمور يبث الشائعات بمكر عن اختلاف جيشه عليه، وأن أكثره يريد الدخول في طاعة سلطان مصر، وذلك ليستهين به سلطان مصر وجيشها، إذ كان لا يوازي وحشية تيمور إلا دهاؤه. تواجه الجيشان بظاهرة دمشق أيامًا، والحرب سجال؛ طلب تيمور عقد الصلح مع السلطان، ولا يعرف أكان هذا لحيلة، أم لتناقص مؤن جيشه الضخم للغاية. عمومًا أخذت أمراء مصر العزة بالإثم، وأصروا على مواصلة القتال حتى سحق تيمورلنك، ويبدو أنهم صدقوا الشائعات التيمورية، وظنوا أن انتصارهم يلوح في الأفق. استمر القتال، لكن تفاقمت خلافات أمراء مصر القديمة على النفوذ، فوصل الأمر ببعضهم إلى ترك المعركة والعودة إلى مصر دون إذن الناصر فرج، وسرت الشائعات أن هؤلاء الفارين يريدون القيام بانقلاب عسكري، والسيطرة على القاهرة في غيبة السلطان. عندئذٍ وقعت الواقعة، وانسحب باقي الأمراء بالسلطان فرج للحاق بالفارين، وتركوا دمشق وجندها وأهلها لمصير حلب وأخواتها. سرت الفوضى في المعسكر المصري، وبدأ الكثير من الأمراء والجنود في الفرار تاركين أنفسهم وأسلحتهم غنائم باردة لجيش تيمور. ولما علم أهل دمشق بخذلان الأمراء، وانسحاب معظم الجيش المصري، حاولوا تنظيم أنفسهم، واحتلوا أسوار المدينة مدافعين ضد الهجوم العام الذي قام به جيش تيمور مستغلًا الاضطراب الذي حدث، وبالفعل نجح أهل دمشق في صد الهجوم، وكبدوا المهاجمين خسائر كبيرة، اضطرت تيمور لإعمال الحيلة، فأرسل للدمشقيين يطلب أحد أعيان البلد للمفاوضة. خرج قاضي قضاة دمشق لمقابلة تيمور، فألان له الأخير الكلام، وأكد له أن دمشق بلد الأنبياء، وأنه لا يضمر لها ولأهلها سوءًا، وأظهر له التدين وسلامة الاعتقاد، وأنه ما يريد سوى أن تُسلِّم المدينة له حفظًا لماء وجهه أمام عسكره.
عاد قاضي القضاة لأهل دمشق وقد انفرجت أساريره، وكال المديح لتيمور، فاقتنع معظم الناس، وخرج وفد منهم بالهدايا إلى تيمور، وبالجزية النقدية التي فرضها على المدينة، وعادوا برقعة الأمان لأهل دمشق من تيمور، وقُرئت في الجامع الأموي، وفتح أحد أبواب المدينة لدخول جيش تيمور. لكن تحصن بعض المقاومين في قلعة دمشق، وظلوا ممتنعين بها شهرًا كاملًا، حتى يئسوا من قدوم النجدة، فاستسلموا.
أخذ تيمور يشتد على أهل دمشق في طلب المزيد من الأموال، بحجة أن ما أرسلوه، أقل مما اتفق عليه مع أعيانها في مفاوضات الأمان، فألغى الأمان، وأطلق يد جنده في سلب المدينة ونهبها، وفعل ما يحلو لهم بسكانها، فتعرض عشرات الآلاف من أهل دمشق للقتل والأسر والاغتصاب على مدار أيام، ثم أمر تيمور على عادته بإحراق المدينة، وغادرها بجيشه بعد شهرين وقد صارت حاضر الشام خرابًا.
أما سلطان مصر وأمرائها، فإنهم عادوا للقاهرة. فلما اطمئنوا لاستقرار الحكم، بدأوا يتجهزون للخروج للشام مرة أخرى، فجاءتهم الأخبار بمغادرة تيمور للشام خوفًا من إصابة جنده بالطاعون نتيجة الخراب الذي أحدثه في الشام، فسكنت الأمور. وفي العام التالي، عام 1402، كانت واقعة تيمور مع السلطان العثماني بايزيد الثاني التي صدّرنا بها هذا التقرير. الموت على الفراشبعد عودته إلى آسيا الوسطى منتشيًا بانتصاراته الدموية الساحقة في الشرق الأوسط، أخذ تيمور ذو السبعين عامًا يرتب لحملة عسكرية ضخمة لاجتياح الصين. وبينما كانت الاستعدادات على قدم وساق، مرض تيمور فجأة مطلع عام 1405، خرج تيمور بالجيش متوجهًا صوب الصين رغم مرضه، لكن عاجلته المنية في فبراير (شباط) 1405م، قرب بلدة شمكنت في دولة كازاخستان الحالية، ونقلت جثته لتدفن في عاصمة ملكه سمرقند. بوفاة تيمورلنك عام 1405، انقسمت مملكته بين ولديه شاه روخ، وميرانشاه، وبعض أحفاده، لكن نجح الأول -وهو الابن الأصغر- بعد سنوات في الاستيلاء على ما بحوزة أخيه، وأعاد توحيد الدولة التيمورية، مع فقدان جزء بسيط منها، أهمه كان الشام الذي سرعان ما استعاده المماليك.
نقل شاه روخ العاصمة إلى مدينة هيرات -في أفغانستان الحالية-، واتسمت سنوات حكمه الأربعين بالكثير من الازدهار والتطور العمراني، وبالطبع بدموية أقل من أيام أبيه.
لكن لم يكن خلفاء شاه روخ بنفس مقدرته، فبدأت الدولة تُنتَقَص من أطرافها شيئُا فشيئًا، حتى انمحت تمامًا من أواسط آسيا مع مطلع القرن السادس عشر الميلادي عام 1506.
لكن بعد سنوات، نجح أحد أمراء السلالة التيمورية، وهو ظهير الدين بابر، في تأسيس دولة مغول الهند، والتي استمرت لثلاثة قرون حتى الاحتلال الإنجليزي للهند، ومن أشهر الآثار التي تركتها تلك الدولة، وما تزال تحظى باهتمام كبير، تاج محل، الذي يعد من عجائب آثار الدنيا .