"يابنى كونا للظالم خصما و للمظلوم عونا"..الإمام علي (عليه السلام)

عمر بن عبد العزيز وأزمة تدوين الحديث

المقال :

فى رسالة بعنوان «السُّنة قبل التدوين»، حصل بموجبها الدكتور محمد عجاج الخطيب على درجة الماجستير بتقدير ممتاز، ثم على درجة الدكتوراه فى الحديث وعلومه بتقدير ممتاز مع مرتبة الشرف، عن موضوع «نشأة علوم الحديث ومصطلحه»، نقل بعض الفقرات الهامة من كتابه «السُّنة قبل التدوين» لبيان حجم الكارثة التى حلّت بالمصدر الثانى للتشريع منذ ولادته، ولولا أنها رسالة علمية أكاديمية صاحبها عَلَم من علماء الحديث، ما التفت إليها.

يقول الباحث تحت عنوان «خدمة عمر بن عبد العزيز للسُّنة»:
«عاش عمر بن عبد العزيز فى جو علمى، فلم يكن بعيدًا وهو أمير الأمة عن العلماء، ورأيناه يكتب بنفسه بعض الأحاديث، ويشجع العلماء، وقد رأى أن يحفظ حديث الرسول ويجمعه، وربما دعاه هذا إلى نشاط التابعين آنذاك، وإباحتهم الكتابة حين زالت أسباب الكراهة؛ لأننا لا نعقل أن يأمر بجمع السنة وتدوينها، والعلماء كارهون لهذا، ولو كرهوا كتابتها ما استجابوا لدعوته. ومما لا شك فيه أن خشيته من ضياع الحديث دفعته إلى العمل لحفظه».

تعليق: فهذه الرسالة العلمية، التى لا شك أنها تحمل مرجعيات موثقة، تشهد أنه حتى فترة خلافة عمر بن عبد العزيز «99- 101هـ» لم تكن هناك مدونات تحفظ الحديث، بل وكان التابعون يكرهون كتابته، فهل يُعقل أن يكره التابعون شيئًا لم يكرهه الصحابة؟!

ثم ما معنى قوله عن خليفة المسلمين عمر بن عبد العزيز: «خشيته من ضياع الحديث دفعته إلى العمل لحفظه»؟ فكيف عرف خليفة المسلمين أن الحديث لم يضع أصلا وقد كان الصحابة والتابعون يكرهون كتابته خلال قرن مضى؟!

ثم انظر ماذا قال الباحث بعدها:
«ويمكننا أن نضم إلى ما ذكرنا سببًا آخر كان له أثر بعيد فى نفوس العلماء حملهم على تنقيح السُّنة وحفظها، وهو ظهور الوضع بسبب الخلافات السياسية والمذهبية، ويؤكد لنا هذا ما يرويه أخو ابن شهاب الزهرى عنه، قال: سمعته يقول: لولا أحاديث تأتينا من قبل المشرق ننكرها لا نعرفها ما كتبت حديثًا، ولا أذنت فى كتابه.

ورأى الزهرى هذا رأى أكثر علماء ذلك العصر، فإن حرصهم على حديث رسول الله من أن يُدرس، لا يقل عن حرصهم على سلامته من الكذب والوضع، فكان هذان العاملان من أقوى العوامل التى حفّزت همم العلماء على خدمة السُّنة وكتابتها، عندما تبنَّت الحكومة جمعها رسميًّا على يدى الخليفة الورع عمر بن عبد العزيز».

تعليق: إذن فالذى حمل أئمة السلف على «تنقيح السُّنة وحفظها» هو ظهور «الوضع بسبب الخلافات السياسية والمذهبية»، وذلك قبل عصر عمر بن عبد العزيز، فهل بعد أن تبنّت حكومة عمر بن عبد العزيز رسميًّا، جمع الأحاديث، استطاعت تنقيح السُّنة وحفظها؟!

يقول الباحث: إن عمر بن عبد العزيز كتب إلى الآفاق: «انظروا حديث رسول الله فاجمعوه»، وإذا كانت المنية قد اخترمت الخليفة الراشد الخامس قبل أن يرى الكتب التى جمعها أبو بكر بن حزم بناءً على طلب الخليفة، كما ذكر ذلك بعض العلماء، فإنه لم تفته أولى ثمار جهوده التى حققها «ابن شهاب الزهرى» الذى يقول:
«أمرنا عمر بن عبد العزيز بجمع السُّنَن فكتبناها دفترًا دفترًا، فبعث إلى كل أرض له عليها سلطان دفترًا»، وقد اعتبر علماء الحديث تدوين عمر بن عبد العزيز هذا أول تدوين للحديث، ورددوا فى كتبهم هذه العبارة:
«وأما ابتداء تدوين الحديث فإنه وقع على رأس المئة فى خلافة عمر بن عبد العزيز أو نحوها»، وهكذا كانت نهاية القرن الأول الهجرى وبداية القرن الثانى خاتمة حاسمة لما كان من كراهة الكتابة وإباحتها، فدونت السُّنة فى صحف وكراريس ودفاتر، وكثرت الصحف فى أيدى طلاب الحديث».

تعليق: فها هو الباحث يكشف عن بعض أسباب عدم تدوين الحديث طيلة قرن من الزمن، وحتى عصر الزهرى «ت 124هـ»، ومنها اختلاف الصحابة والتابعين حول شرعية هذا التدوين، فهل بعد أن زالت هذه الأسباب، ودُوِّنت السُّنة فى صحف وكراريس ودفاتر، بأمر من الخليفة الراشد الخامس عمر بن عبد العزيز، انتهت أزمة تدوين السُّنة، و«تنقيحها وحفظها» فى منتصف القرن الثانى الهجرى؟!

ثم أين كتب الحديث التى دونها الزهرى بأمر من خليفة المسلمين عمر بن عبد العزيز، والتى إن وجدت ما كان لأمهات كتب الحديث التى ظهرت بعد ذلك أن تولد أصلا، وفى مقدمتها البخارى «السُّنى»، الذى وُلد عام 194هـ، والكافى «الشيعى»، الذى ولد فى منتصف القرن الثالث، وتوفى عام 329هـ؟!

فإذا بحثنا فى علم الرجال، عن السيرة الذاتية للزهرى، الذى يعتبر الحلقة الأولى التى يمكن الإمساك بها تاريخيًّا للوقوف على الاتجاه العام لحركة تدوين الحديث، وجدنا الآتى:
الاسم: محمد بن مسلم بن شهاب الزهرى «ت 124هـ»، كان من رُواة الحديث، وكان حريصًا على إرضاء التوجه السُّنى العام الذى كان سائدًا فى عصر الدولة الأموية، استعمله يزيد بن عبد الملك على القضاء، ولكنه أمام مجون واستهتار الوليد بن يزيد «ت 126هـ» دافع عن على وشيعته، وأدان عثمان والسيدة عائشة، وطلحة والزبير، ولم يُحفظ له كتاب، كحال معظم كتب الإخباريين الأُوَل، ولكن حفظت أجزاء من كتاب له يسمى «المغازى»، داخل كتاب مصنف عبد الرزاق الصنعانى.

وتحت عنوان «رد الشبهات التى أثيرت حول الزهرى» يقول الباحث:
«لم يسلم الزهرى من اتهامات وجهها إليه بعض أتباع الفرَق وأعداء الإسلام، فاتهمه بعض الشيعة بالسير فى ركاب الأمويين وإرضائهم بوضع ما يروق لهم من الأحاديث التى تثبت دعائم ملكهم، وترد على خصومهم، ويرى هؤلاء فى ادّعائهم هذا أن الأمويين استعانوا ببعض العلماء من الصحابة والتابعين لإلباس حكمهم ثوب المشروعية الدينية، وساعدوهم فى نشر سلطانهم».

ثم يقول الباحث: «ويمكننا أن نحمل قول الزهرى (كنا نَكرَه كتاب العلم حتى أكرهنا عليه هؤلاء الأمراء، فرأينا ألا نمنعه أحدًا من المسلمين) على ما بيناه؛ لأننا نعرف أن الإمام الزهرى كان يكتب الحديث وهو فى دور طلب العلم، وكان يشجع أصحابه على الكتابة، حتى إنه كان يكتب فى ظهر نعله خشية أن يفوته الحديث».

ثم يقول: «وفعلا عندما طلب منه الخليفة هشام بن عبد الملك أن يكتب لبنيه خرج وأملى على الناس الحديث، وقال: استكتبنى الملوك، فأكتبتهم، فاستحييت الله إذ كتبها الملوك ألا أكتبها لغيرهم».

وعن من كان يكره كتابة الحديث فى القرن الثانى الهجرى، قال: «ونرى بعض من كره الكتابة فى هذا العصر، يعتمد عليها فى حفظ الحديث، ثم يمحو ما كتبه بعد أن يحفظه، وقد فعل غير واحد من السلف؛ أمثال سفيان الثورى «ت 161هـ»، وحماد بن سلمة «ت 167هـ»، ويُروى فى هذا عن خالد الحذاء «ت 141هـ»: ما كتبت شيئًا قط إلا حديثًا طويلا فإذا حفظته محوته».

تعليق: إن الذين يدَّعون أن علوم الشريعة من تفسير وحديث وفقه وتاريخ، دُوّنت فى عصر الرسالة، ولكنها كانت مدونات فردية، ظهرت إلى النور عندما سمحت السلطة الحاكمة بالتدوين بعد منتصف القرن الثانى، هؤلاء أقول لهم:
إذا كانت هذه المدونات قد حملت شريعة إلهية واجبة الاتباع، فلماذا لم تدون فى حياة النبى، أو فى عصر الخلافة الراشدة، قبل أن تعصف بها الفتن الكبرى، والخلافات السياسية والمذهبية، لتخرج إلى الناس بعد قرن ونصف القرن فى ثوب مذهبى، تدعى كل فرقة، ويدعى كل مذهب من مذاهب الفرقة الواحدة، أن مرجعياته فى الحديث هى التى حملت السُّنة النبوية الصحيحة واجبة الاتباع؟!

إن رسول الله لا يفعل شيئًا إلا بأمر من الله تعالى، ولو أمره الله بتدوين أحاديثه لفعل كما فعل مع كتاب الله، ولأصبحت هذه الأحاديث جزءًا أساسيا من الشريعة الإلهية التى أمر الله باتباعها، ولتعهد الله بحفظها كما تعهد بحفظ كتابه.

إن الذين قسموا الوحى الإلهى إلى:
القسم الأول: كتاب الله، الذى شهد رسول الله على بلاغه قبل وفاته، وورثه المسلمون كما بلغه الرسول، وتعهد الله بحفظه إلى يوم الدين.

القسم الثانى: أحاديث نبوية، لم يشهد رسول الله تدوينها، ولا الخلفاء الراشدون من بعده، ولم يرثها المسلمون كتابا واحدًا، بل كانت سببًا فى تدعيم أزمة التفرق والتخاصم والتكفير بينهم، وظهور الجماعات والأحزاب الدينية التى تفسد فى الأرض وهى ترفع راية «الكتاب والسُّنة».

إن الذين فعلوا ذلك أقول لهم: اتقوا الله، فقد نسبتم إلى الله ما لم يأذن به، والله -تعالى- يقول:
«قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَن تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ».