"يابنى كونا للظالم خصما و للمظلوم عونا"..الإمام علي (عليه السلام)

أبو هريرة المختلف فيه وفي مروياته!

 المقال :

فلا نحن نعرف هل هو عبد الرحمن بن صخر، أم عبد الرحمن بن غنم، أم هو -كما قيل فى سير أعلام الصحابة- عبد بن غنم، أم هو عبد نهم بن عامر، أم هو عبد شمس بن عامر، أم عمير بن عامر، أم أن اسمه عبد شمس بن صخر، أم عامر بن عبد غنم كما جاء فى «الإصابة فى تمييز الصحابة»، لا ندرى أى اسم له بالضبط، وحتى اسم أبيه غير منضبط فى المراجع، وهذا وحده دليل قوى على جهل الصحابة به، بل والتابعين الملاصقين له، ما يعنى أنه شخص ذو كنية مشهورة، وُضعت كل الأحاديث على لسانه.

وفى التاريخ أشخاص وأماكن أسطورية غير حقيقية ألصقت بها كل الحكايات التى كان يريد أن يحكيها أهل زمانهم، فشخصية جحا الحكيم أيضًا من الشخصيات الفريدة التى لها لقب أو كنية ولا أحد يعرف لها أصلًا ولا فصلًا، ونُسبت إليها كل الحكايات وصُبَّت فى شخص واحد، وربما كان أبو هريرة كذلك، لكن مصيبتنا فى أبى هريرة أن حكاياته ليست ككل الحكايات.

حكايات أبى هريرة تلقفها الفقهاء واستنبطوا منها الأحكام، وهذه الأحكام هى التى حددت ملامح للدين الإسلامى فى نهايات الدولة الأموية وبداية الدولة العباسية، هل يتخيل أحد أن الإسلام الذى يطلب من المؤمنين به أن يتثبتوا، ينقلون عن شخص غير معروف الاسم ما يربو على 5374 حديثًا؟! على ما ذكره الذهبى فى ترجمته لأبى هريرة فى كتابه «سير أعلام النبلاء» اتفق البخارى ومسلم على 1326 «ألف وثلثمئة وستة وعشرين» حديثًا، وانفرد البخارى بـ93 حديثًا، ومسلم بـ98 حديثًا، كما أحصى له المحقق «شعيب الأرناؤوط» فى تحقيقه مسند أحمد 3870 حديثًا.

فهل من المعقول أن شخصًا مختلَفًا على اسمه واسم أبيه، أى من مجاهيل المدينة، ومدة مصاحبته الرسول الكريم ثلاث سنوات فقط، ينقل عنه كل هذا الكم؟! هل من المعقول أن ينقل عن أبى هريرة قرابة 800 رجل وامرأة -وهذا ما قدره البخارى- وهؤلاء الـ٨٠٠ لا يتفقون على اسمه ولا على اسم أبيه؟!

الغريب أن أبا هريرة يرفض أحاديثه كثير من الصحابة ويصر البعض على اعتباره من كبار الصحابة، ونصر على أخذ الدين الإسلامى من لسانه رغم كم التناقضات التى كانت كافية لرفضه بالكلية، ولعل أبرز تناقضات أبى هريرة التناقض فى التاريخ وتسلسله ومعاصرة الشخصيات والأحداث وقتها؛ فمثلًا حديثه عن رقية بنت الرسول، صلى الله عليه وسلم، التى يزعم أنه دخل عليها وفى يدها مشط وكان الرسول الكريم خارجًا من عندها وأوصاها بإكرام عثمان زوجها، والتناقض هنا ناشئ من أن رقية ماتت قبيل غزوة بدر التى كانت فى العام الثانى الهجرى، والتى تخلف زوجها عثمان بن عفان عن المعركة من أجل أن يطبّبها، وأبو هريرة أسلم بعد فتح خيبر، أى فى العام السابع الهجرى، فكيف دخل عليها وهى قد ماتت من أكثر من خمس سنوات؟!

وليس هذا هو تناقض أبى هريرة الوحيد، ففى بعض الأحيان كان يتناقض مع نفسه، فقد روى عبد الله بن محمد: حدثنا هشام بن يوسف أخبرنا معمر عن الزهرى عن أبى مسلمة عن أبى هريرة، قال: قال النبى، صلى الله عليه وسلم: لا عدوى ولا صفر ولا هامة. أى أن المرض ليس بسبب العدوى من المريض، فالله هو مَن يُمرض مَن يشاء، ولا صفر، أى لا تشاؤم بشهر صفر، والهامة هى البومة أو طائر الثأر عند العرب فى الجاهلية. من هذا الحديث نتعلم أن الرسول ينهى عن اعتبار المرض بسبب العدوى من مريض، ثم يفاجئنا أبو هريرة بحديث: عن أبى سلمة سمع أبا هريرة يقول: قال النبى، صلى الله عليه وسلم: لا يوردن ممرض على مُصح. أى أن المريض لا يدخل على الصحيح كى لا تنتقل منه العدوى! وأنكر أبو هريرة حديثه الأول عندما نبهه الحاضرون بقولهم له: ألم تحدِّث: لا عدوى…، فرطن بالحبشية، قال أبو سلمة: فما رأيته نسى حديثًا غيره. هذا الحديث فى صحيح البخارى ج7 ص31 باب «لا هامة»، وصحيح مسلم ج7 ص32، تناقضات كثيرة ومعضلات كانت كافية للتوقف عن النقل عنه.

حتى لو تجاوزنا عن كل هذه المعضلات، واعتبرنا أن شخصية أبى هريرة صحيحة وسليمة، وأن الاختلاف فى اسمه واسم أبيه لا يضره ولا يقدح فيه، وأن ارتباكه فى الرواية أن أشخاصًا ماتوا قبل خمس سنوات فى غير ذات محل، سيواجهنا اتهام عمر بن الخطاب لأبى هريرة علامة فارقة فى تجريح الرجل، وقد كان جرحًا كافيًا لأن تستبعد أحاديثه، ولا ندرى ما الدافع لأن يستمر الناس فى الاستماع إليه والنقل عنه، فاتهام عمر بن الخطاب لأبى هريرة يجرح ذمته المالية، وهو اتهام صريح بالتكسب من الوظيفة، تقول الحادثة: «عمر بن الخطاب أنّبَ أبا هريرة الذى كان عامله على البحرين بقوله: إنى استخلفتك على البحرين وأنت بلا نعلَين، ثم بلغنى أنك ابتعت أفراسًا بألف دينار، فقال أبو هريرة: كانت لنا أفراس تناتجت وعطايا تلاحقت، فقال عمر: بلى والله أوجع ظهرك. ثم قام إليه بالدرة فضربه حتى أدماه.

ثم قال: ائت بها، فقال أبو هريرة: احتسبتها عند الله، قال عمر: ذلك لو أخذتها من حلال وأديتها طائعًا، أجئت من أقصى حجر البحرين بجبى الناس لك لا لله ولا للمسلمين، ما رجعت بك أميمة إلا لرعية الحمر».

ألم يكن هذا الاتهام كافيًا لترك أحاديث أبى هريرة؟ فالرجل متهم من قبَل كبير الصحابة، فإما أن الفاروق عمر بن الخطاب كان ظالمًا لأبى هريرة، وإما أن أبا هريرة فعلًا تكسب من منصبه.

ثم لماذا لم نتبع سُنة عمر فى التوقف عن النقل عن أبى هريرة؟ فهو أول مَن منعه وأمره بالتوقف لتشككه فى ما يقول، وقد روى مسلم فى صحيحه أن عمر بن الخطاب ضرب أبا هريرة لما سمعه يحدّث عن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وروى ابن عبد البر عن أبى هريرة نفسه، قال: «لقد حدثتكم بأحاديث لو حدثت بها زمن عمر بن الخطاب لضربنى عمر بالدرة» صحيح مسلم، ج1، ص201.

إذن وباعتراف الجميع فعُمر منع أبا هريرة من الحديث عن الرسول، بل قام وضربه، ثم نأتى نحن ونأخذ منه؟! وماذا لو مات أبو هريرة قبل عُمر؟ بالتأكيد لم تكن لتصل إلينا كل هذه الأحاديث، لكن هذه الأحاديث مهمة فى استنباط تفاصيل التشريع! أزعم أن جيل جمع الأحاديث كان سيخترع شخصية مثل أبى هريرة ليلقى على لسانها كل الأحاديث التى يريدونها لاستكمال ما بدا لهم أنه مهم لاستنباط أحكام الإسلام، والله أعلم.