عربي بوست :
لكن في معبد كوم أمبو الأثري، الذي يقع على بُعد 644 كم تقريباً جنوب القاهرة، حيث اكتشف علماء مؤخراً مجموعة من المومياوات المتحللة، حلَّت اللعنة في صورة مضجرة: أساسات مُشبَّعة بالمياه.
اللعنة الحمراء!
أسفرت عقودٌ من الري بالغمر في الحقول المحيطة بكوم أمبو، والتي كانت في ما سبق صحراء، عن تشبُّع التربة أسفل المعبد بالمياه.
وتخللت المياه كذلك أساسات المعبد المصنوعة من الحجر الرملي، وتسببت، ومعها مزيج من الملح والحرارة، في محو بعض الكتابات الهيروغليفية من على حوائط المعبد.
وبدأت الرموز والأشكال، التي تبدو حقاً أنها سطور تحكي قصة قديمة، تتلاشى متحولة إلى غبار.
ووفقاً لمهندسين عاملين في مشروع ذي تمويل أميركيبقيمة 9 ملايين دولار، يقولون لـ new york times فإنَّ الحل هو تأسيس بعض أنظمة الصرف الحديثة.
ومنذ أكتوبر/تشرين الأول 2017، شرع عشرات العمال في حفر خندق بعمق 9 أمتار حول حوائط المعبد، في محاولة لتجفيف المياه الجوفية وإعادة توجيهها نحو نهر النيل.
اللعنة في «التوسع بالصحراء»
أحد المعابد الأثرية بمصر
وقال توم نيكولاس، المهندس بالمشروع الأميركي: «التوسع في الصحراء حلم لطيف». وفي حين كان يقف على تلة قرب المعبد، أشار إلى الحقول الوافرة بقصب السكر، والبيوت الريفية التي تظهر من بينها وكأنها نقاط، والتي توسعت حتى وصلت لحوائط المعبد، وقال: «لكن، عليك النظر إلى العواقب الأخرى أيضاً».
وعلى نحو غير معهود، يعمل فريق من الأثريين جنباً إلى جنب مع عمال، على أمل إنقاذ أية كنوز غير مكتشفة في الخندق.
وقد عثروا على أشياء مهمة، مثل تمثال نصفي للإمبراطور الروماني ماركوس أوريليوس، وورشة أوانٍ فخارية تعود لعهد المملكة المصرية القديمة، ونحت بارز للإله سوبك، إله التمساح في المعبد.
وفي إحدى فترات الظهيرة الحارقة في شهر يوليو/تموز 2018، تحدَّث أحد الأثريين مطولاً عن غداء قديم هو حفنة من القمح المحترق يعود لـ4 آلاف عام، اكتُشِف في جرّة عثر عليها في أثناء التنقيب.
أبو الهول «القزم»
وقال أحمد سيد أحمد، المدير العام أثار كوم أمبو: «سيسمح لنا هذا المشروع بإعادة كتابة تاريخ المعبد».
أما الاكتشاف الأكثر إثارة، فربما يكون قد حدث في الأسابيع الأخيرة؛ إذ استخرج أثريون تمثالاً لأبو الهول مغطىً بالرمال من حفرةٍ مشبَّعة بالرطوبة. وحدد الأثريون أنَّ التمثال يعود للعصر البطلمي، الذي استمر منذ عام 305 قبل الميلاد إلى عام 30 ق.م.
ونظراً إلى طوله الذي يبلغ أقل من متر، يُعتبر هذا التمثال قزماً مقارنة بتمثال أبو الهول الشهير في الجيزة، والذي يصل ارتفاعه إلى نحو 20 متراً، والمسافة بين رأسه وذيله تمتد إلى 73 متراً.
ووُجِدَت براثن التمثال المُكتشَف حديثاً مكسورة، ولم تكن عليه أية علامات مميزة.
لكنْ عكس تمثال أبو الهول في الجيزة،الذي تآكلت ملامحه بمرورالوقت وعوامل التعرية، وُجِد تمثال كوم أمبو في حالة جيدة، وتتمثل فيه قواه الأسطورية: رأس إنسان وجسد أسد، وتحدق عيناه الواسعتان مجدداً عقب 2000 عام كان يقبع فيها في الظلام.
من جانبه، قال ماثيو دوغلاس، الباحث بمعهد الفنون الجميلة في جامعة نيويورك، إنَّه حتى النسخة المُصغرة عن أبو الهول ترمز إلى التفاني القوي لآلهة المعبد. وأضاف: «يرمز (التمثال) إلى أنَّ الملك كان يحرس المعبد ويُبقي قوى الفوضى خارجه».
أما إبقاء المياه خارج المعبد فهو مسألة أخرى
هذه الكتابات مهددة بسبب مياه الري
جاءت مشاكل المياه في معبد كوم أمبو، وغيره من المواقع الفرعونية على طول نهر النيل، نتاجاً لواحد من أكبر نجاحات مصر التي تفتخر بها.
إذ أحدث سد أسوان العالي الضخم، الذي يقع على مسافة 48 كم أعلى نهر النيل من كوم أمبو، تحولاً في الزراعة المصرية حين اكتمل بناؤه عام 1971. فبعد أن أصبح المصريون بارعين في دورة الفيضان والجفاف التي وضعها قدماء المصريين، استطاع المصريون الزراعة حتى نهاية النهر؛ ما ساعد على تحويل أرضهم لواحدة من أكثر الأراضي إنتاجاً في العالم.
وأطلقت عملية بناء السد واحدة من أروع مهام الإنقاذ الأثرية التي شهدها العالم. فخلال فترة الستينيات، سارع مسؤولون مصريون وسويديون لإنقاذمعبدين في أبو سمبلكانا مهدَّدين بالغرق جراء ارتفاع منسوب مياه بحيرة ناصر، التي تقع خلف السد. وتم تقطيع المعبدين إلى 1035 كتلة حجرية، يتراوح وزن الواحدة منها ما بين 20 و30 طناً، ثم في عام 1968 أُعيد تركيب المعبدين مثلما كانا بالضبط في موقعٍ أعلى ارتفاعاً.
ولكن طوال العقود اللاحقة، بدأت الآثار الجانبية لسد أسوان تتضح تدريجياً. ففي بعض مناطق دلتا النيل الخصبة، تسبب السد في زيادة ملوحة الأرض؛ ما دفع المزارعين لتغيير نوع المحصول أو ترك حقولهم كليةً. ولم تَسلم كذلك المعابد الفرعونية الموجودة على طول النيل من المعاناة.
بُنيَت أكثر المعابد في وقت كانت المنطقة المحيطة بها صحراء، وبمرور قرون من الأزمنة غلفتها طبقات من الرمال؛ أي أجواء شبه مثالية لحفظ هذه المعابد. ولكن اليوم، أصبحت المعابد محاصَرة بالحقول الغزيرة والبيوت الريفية، ودولة يقارب عدد سكانها 100 مليون نسمة.
أضف إلى ذلك، أنَّ التغير المناخي جلب معه طقساً أقسى وأكثر تقلباً، وتسبب في تسريع عملية التآكل جراء ارتفاع منسوب المياه الجوفية. وتفاقمت المشكلة كذلك نتيجة مياه الصرف غير المُعالجة والمياه المسربة من المنازل غير المُصرَح بها.
وقال الباحث أدامز إنَّ العلامة الأولى على حدوث ضرر ناجم عن المياه هو تلاشي الكتابات الهيروغليفية. وأضاف: «حتى لو طال مناطق قليلة من النقوش، فما تبقى من مصر القديمة مصدر محدود جداً؛ لذا حين يختفي أي جزء منها، يذهب للأبد».
ويعد العمل في معبد كوم أمبو واحداً من 6 مشاريع ضخمة تستهدف خفض منسوب المياه الجوفية، وتمولها الولايات المتحدة في مصر بقيمة تصل إلى 100 مليون دولار، بدأتها منذ التسعينيات. وركزت الجهود السابقة على أهرام الجيزة، والسراديب الأثرية في الإسكندرية والقاهرة القديمة.
ولاقى هذا التمويل ترحيباً كبيراً من الحكومة المصرية المتأزمة مالياً، خصوصاً أنَّ السياحة المصرية تراجعت منذ الربيع العربي عام 2011. لكن التمويل الأميركي لم يعد مضموناً الآن؛ إذ أعربت إدارة ترمب عن عزمها اقتطاع مليارات الدولارات من الأموال المخصصة للوكالة الأميركية للتنمية الدولية، كجزء من تحقيق أجندة «أميركا أولاً».
في بعض النواحي، تأتي مشكلة المعبد خلافاً لما يشغل بال أغلب المصريين، فهم لا تشغلهم كثرة المياه؛ بل شُحها؛ إذ تواجه بلدهم أزمة نقص مياه مزمنة نتيجة التلوث والهدر والاحتياجات المتزايدة للسكان. وفاقم بناء سد ضخم لتوليد الطاقة الكهرومائية في إثيوبيا على مجرى النيل الأزرق من قلق العامة في مصر.
يُذكر أنَّ الموت المفاجئ للورد كارنارفون، عقب فترة قصيرة من فتح مقبرة توت عنخ آمون عام 1922، أشعل فتيل أسطورة لعنة المومياء. وقد استنتج الخبراء لاحقاً أنَّ موته لم يكن له علاقة بالاكتشاف.
وربما تصل القصة لختامها العام المقبل (2019)، حين يفتح المتحف المصري الكبير -وهو قيد التشييد حالياً قرب أهرام الجيزة- أبوابه. وسيضم المتحف، الذي كلف بناؤه مليار دولار، ما يزيد على 100 ألف قطعة أثرية، ليصبح بذلك أضخم متحف في العالم مخصص لحضارةٍ واحدة، وستضم المعروضات كذلك 5000 قطعة من مقبرة توت عنخ آمون تُعرَض لأول مرة منذ اكتشافها.