إحسان الفقيه :
ما مِن مُستبد سياسي إلى الآن إلا ويتخذ له صفة قدسية يشارك بها الله، ولا أقل من أنْ يتخذ بِطانة من خَدَمَةِ الدين يعينونه على ظلم الناس باسم الله، وأقل ما يعينون به الاستبداد، تفريق الأمم إلى مذاهب وشِيَع مُتعادية تقاوم بعضها بعضاً، فتتهاتر قوة الأمة ويذهب ريحها، فيخلو الجو للاستبداد ليبيض ويُفرخ».
لكل حاكمٍ مستبد بطانة من حَمَلة الدين يُشرعنون باطِلَه، ويُمررون فساده، كما أشار الكواكبي في المقدمة أعلاه، لمعرفة الحكام والملوك بقوة تأثير الدين في حياة الناس، وقدرته على توجيه آرائهم، وعندما يتم هذا التزاوج بين السلطتين السياسية والدينية، يُصبح الطاغية مُحاطًا بسياجٍ مانعٍ عن كل مُساءلة ومؤاخذة.
نبْتَةُ شر وجدتْ لها تُربة حاضنة وواقعًا هيأ لها الظهور والتمدد في بلاد المُسلمين، عن تيار السلفية الجامية والمدخلية أتحدث، ذلك التيار الذي نشأ في السعودية بعدما علتْ أصوات دعوية مُعارضة لاستقدام الأمريكان في حرب الخليج الثانية، فانبرى أهلُه لصياغة شكل جديد من السلفية تُضفي القداسة على ولي الأمر، وارتقوا منابر التصنيف، يصفون هذا بالتكفيري وهذا بالخارجي وهذا بالمبتدع لمخالفتهم الحكام، وتدعو العامة للتأمين على كل قرار يتخذه ولي الأمر الذي لا يجوز مخالفته.
بالمقابل صار هذا التيار قُرة عين الأنظمة الاستبدادية، فأُصدرت بعض الحكومات، الأوامر بتسهيلات لرموزه وإعطائهم مساحات واسعة لترويج هذا المنهج، وشن الحرب على كل فكرة مُناهضة لفساد الحاكم، ولم يتم تسييس هذا التيار فحسب، بل تمت عسْكرتُه كذلك ضمن موجة الثورات المضادة لثورات الربيع، فكتائبهم المسلحة التي تشكلت للقتال بجانب حفتر في ليبيا معروفة، وجرائمهم التي ارتكبوها بحق الثورة مفضوحة، وباسم الدين حملوا السلاح وقتلوا بني الدين والدم والأرض.
من خلال متابعتي لسيرة هذا التيار المُنتسب زورًا إلى المنهج السلفي، أستطيع القول بأنه يرتكز في شرعنة الاستبداد وتقديس ولي الأمر على أمرين:
الأمر الأول هو انتقائية النصوص، فالجامية والمدخلية يحشدون النصوص المؤكدة على طاعة ولي الأمر وإلباسها ثوب الإطلاق، ويغضون الطرف عن النصوص التي تُظهر تقييد هذه الطاعة وأنها ليست على إطلاقها، فالطاعة المُلزمة للرعية، التي يستقيم بها ميزان الدولة هي الطاعة في غير معصية وفساد.
وترى الجامية والمدخلية يعضون بالنواجذ على حديث «ثم ينشأ دعاة الضلال فإن كان لله في الأرض خليفة جلَد ظهرك وأخذ مالك فأطعه»، وهو مع ما في سنده من مقال، لا يمكن تفسيره إلا بأن الوصية بالطاعة في ما لو جلد ظهرك وأخذ مالك بحق لا بالباطل، حتى يستقيم النص مع الأحاديث التي تأمر بحفظ المال والنفس والعرض، وأن من مات دونها فهو شهيد.
ومن جهة أخرى، فماذا سيفعل صاحب هذا القول إن اغتصب الحاكم نساءه؟ هل سيطيع؟ فإن قال لا فلماذا قَبِل باغتصاب المال ظلمًا، مع أن العِرض والمال من المقاصد الكلية الخمسة التي جاءت الشريعة لحفظها؟ كما أنهم يساوون بين ظلم أحد الرعية والظلم العام للأمة، فيطالبون الأمة بالسكوت عن ظلم الحكام مهما ارتكبوا من الجور بحق شعوبهم.
الأمر الثاني الذي يعتمد عليه الجامية في شرعنة الاستبداد، هو التلبيس على الناس بشأن الإنكار على الحاكم، والخلط بين الإنكار والخروج، فعندهم أن الإنكار العلني على الحاكم يعد خروجًا عليه، وبناء على ذلك، إذا كان للحاكم نصف ساعة على الفضائيات يزني فيها ويشرب الخمر، فلا ننكر عليه بل نؤلف الناس عليه لتجتمع الكلمة، هكذا زعم أحد كبار الجامية فعليا، ولا حرج في أن يقتل الحاكم نصف شعبه ليعيش النصف الآخر إذا رأى ذلك، كما عبر جامي آخر، ولا مانع في أن يُحشر الناس ليعملوا ويكدوا دون أدنى أجر طالما كان ذلك أمر الحاكم، بحسب ما قال الجامي المُلهم، وعلى من يعترض على ذلك الظلم أن يُجهز نفسه ليُعامل معاملة الخوارج، فإن سُجن بعدها أو قُتل فلا يلومن إلا نفسه!
فرقٌ كبير بين الخروج على الحاكم، الذي يكون بالقوة والسلاح، وبين الإنكار عليه، لا علاقة بين هذا وذاك، بل جاء الأمر في النهي عن المنكر بصفة عامة، وجاء كذلك بصفة خاصة في ما يتعلق بالحكام، كقول النبي صلى الله عليه وسلم «يَكُونُ عَلَيْكُمْ أُمَرَاءُ تَعْرِفُونَ وَتُنْكِرُونَ فَمَنْ أَنْكَرَ فَقْدَ بَرِئَ وَمَنْ كَرِهَ فَقَدْ سَلِمَ وَلَكِنْ مَنْ رَضِيَ وَتَابَعَ»، فماذا يفعل هؤلاء الجامية مع قول النبي «فمن أنكر فقد برِئَ».
أمثال هؤلاء الجامية الذي يقدسون الحاكم على هذا النحو، يُلصقون بالإسلام تهمة الكهنوتية والحكم الثيوقراطي، وذلك حين يُكرسون لإعفاء الحاكم من المُساءلة والحساب وتخويف الناس من مجرد الاعتراض على فساد حكامهم، في تجاهلٍ تام لحق الأمة في اختيار حاكمها ومراقبته ومحاسبته وفق القنوات الشرعية المتمثلة في أهل الحل والعقد، وذلك ما جرى عليه عمل القرون المفضلة، حيث كانوا يحاسبون الحاكم وينكرون عليه علنًا إذا دعت الحاجة، بل كان الخليفة يطالب الناس لدى تعيينه بتقويمه إذا اعوج وحاد.
منهج هؤلاء الجامية لا يقل في خطره وغلوه وتطرفه عن خطر الدواعش الذين اختزل البعض شرور العالم فيهم وحسب، كلاهما وجهان لعملة واحدة، استبداد بالرأي، وشرعنة للظلم، وتصنيف للآخرين ورميهم بالتبديع والتفسيق، كلاهما يقتل، كلاهما حمل السلاح في وجه الأبرياء، كلاهما لا يواجه ولا يعادي إلا المخلصين، وكلاهما يتلاعب بالنصوص بالاجتزاء والتأويل والبتر عن السياق.
كم أساءت هذه الفئة للسلفيين عمومًا، وتأصل في حس الكثيرين أن كلمة سلفي مرادفة لعلماء السلطان، واختلط الحابل بالنابل، لذا وجب على دعاة السلفية المعتدلين التحذير من هذا التيار وفضح منهجه، وبيان قضايا التعامل مع الحكام وفق رؤية شاملة كلية للنصوص، لدفع شرور «الجاميين» الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا، وتسببوا في اعتقال العلماء والدعاة، هُم فعليا أقرب ما يكون إلى وصف «فقهاء الاستخبارات»، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
كاتبة أردنية