آيات قرآنية نزلت في يوم الغدير الأغر
بسـم الله الرحمن الرحيم
قال الله تعالى: ﴿ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِيناً ﴾ . ( سورة المائدة :3 ) .
على مدى قرون ، وعلماء المسلمين يكتبون في تفسير آية إكمال الدين ، وفي صاحب هذه الآية ((عليه السلام)) ، وأحداث ذلك اليوم.
اليومَ.. تبدأ الآية بكلمة اليوم محلاةً بالألف واللام ، لتشير الى أهمية ذلك اليوم وعظمته ، فما هو سر ذلك اليوم ؟
ذلك اليوم الذي روى فيه أبو هريرة عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) أن صيامه يعدل عند الله عبادة ستين سنة ! (1)
اليوم.. الذي قال فيه النبي (صلى الله عليه وآله) للمسلمين: «ألستُ أولى بالمؤمنين من أنفسهم؟ قالوا: بلى. فقال: من كنتُ مولاه فعليٌّ مولاه ، فنهض عمر بن الخطاب وقال: بخٍ بخٍ لك يا أبا الحسن أصبحت مولايَ ومولى كل مسلم ومسلمة». ( النهاية لابن كثير:7 /386 ).
إن أهمية ذلك اليوم بأهمية صاحبه ، صاحبه الذي سُئل عنه الخليل بن أحمد فقال: (ماذا أقول في رجل أخفى أعداؤه فضائله حسداً ، وأخفاها محبوه خوفاً ، وظهر من بين ذين وذين ما ملأ الخافقين! ).
والذي قال فيه أحمد بن حنبل: (ما جاء في أحد من الصحابة من الفضائل ما جاء في علي بن أبي طالب ) ! (2)
ما الذي حدث في ذلك اليوم؟
حدث أولاً ، أن الله أكمل لنا ديننا .
وحدث ثانياً، أنه أتم علينا نعمته . وحدث ثالثاً ، أنه رضي لنا الإسلام ديناً !
فما معنى الإكمال والإتمام والرضا؟
إن هذه المفاهيم القرآنية قضايا كبيرة تبين معنى الدين الإلهي وتاريخ تنزله، وفيها بحوث كثيرة ، قد يستغرق الحديث فيها سنة من الزمان ، وإنما نتكلم حولها بكلمات مختصرة !
ولكي نعرف ما هو الدين ، وما هو الإسلام ، الذي رضيه الله لنا ديناً في هذا اليوم ، ينبغي أن ننظر في الآيات التي تحدثت عن الدين والإسلام ، من أول آية الى آخر آية .
ينبغي أن نعرف أن الإسلام الذي قال الله تعالى عنه: ﴿ إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الإِسْلامُ … وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ ﴾. (سورة آل عمران: 85).هو الإسلام الذي صار الجانب التنفيذي منه ركناً في بنائه ، من يوم جدد إبراهيم (عليه السلام) بناء البيت ودعا ربه كما أمره ، أن يكون نبي الأمة المسلمة خاتمة الأمم ، وأئمتها ، من ذريته: ﴿ وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ﴾( سورة البقرة: 127)
فبعد أن أتم ابراهيم بناء قِبْلَةَ الحق للعالم ، طلب من ربه ما وعده به ، فقال إلهي أنا معمار بيتك وهذا ابني العامل معي في بناء بيتك.. فاجعل أجر بنائنا ما وعدتنا: ﴿ رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ﴾. ( سورة البقرة: 128 ) .
هذا الإسلام الذي أسس قبلته وأساسه إبراهيم (عليه السلام) ، ثم بعث الله به سيد المرسلين من ولد إبراهيم صلى الله عليه وآله فأشاد صرحه، وبنى أمته، بجهاد وجهود مباركة مقدسة طيلة ثلاثٍ وعشرين سنة، وكان عامل البناء معه بدل إسماعيل: علي بن أبي طالب (عليه السلام) !
هذا الإسلام الذي أنزله الله تعالى، بقي الى أواخر عمر النبي صلى الله عليه وآله ناقصاً ، وبالذات الى اليوم الثامن عشر من ذي الحجة ، فأعلن الله إكماله !!
يا لله ، ما هو قدر ذلك اليوم ، الذي ظل الإسلام يفتقد كماله حتى وجده؟! هنا ليس موضع الكلام لأمثالي ، بل موضع الإستغفار من الكلام ! فأي قضية قيلت للبشر في هذا اليوم فلم يفهموها ، والى يومك هذا ؟!
أي يوم كنت يا يوم الغدير ، حتى جاء الخطاب الرباني فيك لرسول الله صلى الله عليه وآله بهذا الحسم غير المعهود في خطابه له: ﴿ يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ، وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ، إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ ﴾ . (سورة المائدة: 67) .
فنحن نعرف أن خطاب الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وآله أرقُّ خطاب وأحناه:﴿ مَاأَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى ﴾. ( سورة طـه: 2 ) ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ ﴾( سورة الأنبياء: 107 )، ﴿ بل نراه أقسم بعمر نبيه الحبيب: لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ ﴾. ( سورة الحجر: 72 ) ، لكنه في هذا اليوم خاطبه بحسم خاص فقال: بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ !
يقول له بذلك إن هذا اليوم مركزي في تبليغ الرسالة ، والعمل الذي ستقوم به ، به يكمل الدين ، وبدونه يبقى ناقصاً وتضيع فائدة جهودك في تبليغه !!
نعم ، إن الرحمة التي تنزلت يوم الغدير أكبر من أن يتعقلها بشر ! والسبب أن الله تعالى إنما خلق هذا العالم ، لأنه أراد أن يوجد موجوداً ويودع فيه جوهرين نادرين هما: العقل والنفس ، ولابد لهذين الجوهرين أن يصلا الى مرحلة الإثمار .
إن مشروع بعثة الأنبياء عليهم السلام إنما كان من أجل إيصال جوهر العقل الى درجة الكمال النظري،وجوهر الإرادة الى درجة الكمال العملي،وكانت بعثتهم مقدمات لكي تبلغ هدفها وأوجها ببعثة نبينا صلى الله عليه وآله : ﴿ لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ ﴾. ( سورة آل عمران: 164 ) إن قوله تعالى: لَقَدْ مَنَّ اللهُ رمزٌ لقوله: وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي. فبعثة خاتم الأنبياء صلى الله عليه وآله لا تتم بتعليم الكتاب والحكمة فقط ، بل لابد من يوم الغدير!.
ذلك أن تعليم الكتاب هو الجانب العلمي وبناء الوعي البشري ، وتعليم الحكمة هو الجانب العملي وبناء الإرادة البشرية ، وتكميل هذين الجانبين يحتاج الى مفسر رباني وحكيم رباني ، يواصل المهمة بعد النبي صلى الله عليه وآله .
مفسرٌ رباني ، يستطيع تفسير الكتاب الإلهي الذي قال فيه منزله عز وجل: ﴿ الر. كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ ﴾. ( سورة ابراهيم: 1 ) ، وقال فيه:﴿ وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيداً عَلَى هَؤُلاءِ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ ﴾. ( سورة النحل: 89 )
وقال عن الذين يفهمونه ويفسرونه: ﴿ لا يَمَسُّهُ إِلا الْمُطَهَّرُونَ ﴾. ( سورة الواقعة:79 ) .
لقد تم تنزيل الكتاب الإلهي لكنه بدون مفسر رباني بعد النبي يبقى ناقصاً ، لأن مفسره المؤهل تأهيلاً ربانياً هو الوحيد الذي يستطيع أن يستخرج من خزائن العلم الإلهي فيه ، كل ما يحتاج اليه العقل البشري.
إن القرآن الكريم كان وما زال خزائن الله العظيمة ، التي يراها العلماء ولا يستطيعون وصفها ، ويحومون حول كنوزها ولا يستطيعون استخراجها ! كان وما زال بكراً على عقولهم، مهاباً في صدورهم ! ومع أنه غني في عطائه لهم ، فإن كل حصيلتهم من خزائنه الدنيا ، أما خزائنه العليا فهي أعلى منالاً من مستواهم ، لا يمسها إلا المطهرون ، الذين يملكون الوسائل العليا التي تمكنهم من استخراج ما يحتاجه البشر من القرآن الكريم !
هل يستطيع أحدٌ من العلماء في عصرنا أو غير عصرنا ، أن يدعي أنه يمكنه أن يستخرج كنوز القرآن؟! فليتفضل علماء الأزهر ، وكل علماء الحواضر الإسلامية من مذاهب السنة والشيعة ، هل يستطيع أحد منهم أن يفتح فمه بعلم فيخبرنا عن معنى: ألف.لام. ميم.؟
هل يستطيع أحد منهم أن يخبرنا عن المعنى المكنون في:ح. م. ع. س. ق.؟! هل يوجد منهم أحد يخبرنا عن رمز ق، وعن سر: أ. ل . ر. ؟!
إن هذا الكتاب العظيم ، كان وما زال بحاجة الى معلم رباني يعلمه للأمة وللبشرية ، ومعلم هذا الكتاب بعد النبي صلى الله عليه وآله ، هو فقط من يقول: سلوني قبل أن تفقدوني ، سلوني عما دون العرش !.
إن البشرية لم ترَ بعد النبي صلى الله عليه وآله من قال:سلوني ، ولم يعين حداً لما يسأل عنه في الأرض ولا في السماء ! فهذا الشخص فقط يستطيع أن يفسر كتاب الله الذي فيه تبيان كل شئ !.
اليوم أكملت لكم دينكم.. لأنا إن اكتفينا بتنزيل الكتاب عليكم ، ولم نجعل له مفسراً له بعد رسولنا، فقد جعلنا الكتاب خزائن مقفلة! ولكم مَنْ يستخرج منها ما تحتاجه عقول البشر في كل جيل، فالنعمة العلمية على البشر لاتتم إلا بمفسر للكتاب الإلهي.
وكذلك النعمة العملية في بناء الإرادة البشرية وتحقيق عدالة الكتاب الإلهي لا تتم إلا بمن يجسدها ويعلمها للناس.
قد نجدُ من يدعي أنه يستطيع تحقيق العدالة الإلهية التي نزل بها القرآن !
لكن الواقع أن تحقيق العدالة القرآنية النظرية والعملية ، الفردية والإجتماعية.. إنما يستطيع تطبيقها من وصل في تحقيق العدالة مع نفسه الى أن يقول: والله لو أعطيت الأقاليم السبعة بما تحت أفلاكها على أن أعصي الله في نملة أسلبها جلب شعير ما فعلت. ! فمثل هذه الإرادة ، هي التي تستطيع أن تحقق الحكمة العملية القرآنية ، وتعلمها للبشرية .
الذي يحق له أن يقول إنه يطبق العدالة القرآنية ، هو فقط الذي كان يملك بلاد كسرى وكثيراً من بلاد قيصر وخيراتها وكنوزها ، ومع ذلك كان طعامه خبز شعير وملح، وربما سمح لأولاده أن يضيفوا اليه شيئاً من لبن! فقد كان يقول: إن الله فرض على أئمة العدل أن يساووا أنفسهم بضعفة الناس… أوَ أرضى بأن يقال لي أمير المؤمنين ولا أشاركهم في مكاره الدهر ! أأبيتُ مبطاناً وحولي بطونٌ غرثى وأكبادٌ حرَّى ، ولعل بالحجاز أو اليمامة من لا طمع له بالقرص ، ولا عهد له بالشبع ؟! (3)
هذا عن طعام أمير المؤمنين (عليه السلام) ، أما عن ملبسه فكان يلبس الكرابيس، وهو نوع من الثياب العادية لعامة الناس! ولم يختلف ملبسه طوال عمره ، في فقر مرَّ عليه أو غنىً ، وحتى عندما كانت تحت يده خزائن الدولة الإسلامية المترامية الأطراف ، وكان قسم من الناس يعيشون السعة والثروة ، كان ملبسه نفس ملبس خادمه قنبر ! بل كان يخص قنبر بالقميص الأجود الذي سعره ضعف سعر قميصه ، يقول إنه شاب ينبغي أن يفرح .
اليوم أكملت لكم دينكم.. أكمله بهذا العالم الرباني الذي يستطيع أن يتناول من خزائن القرآن، وبهذا الإنسان الكامل الذي يستطيع أن يطبق عدالة القرآن الكريم. أما الآخرون ، فهم مساكين ، من أين لهم هذا العلم ، وهذه الإرادة ؟.
لقد تصور عمر بن الخطاب يوماً أن العدالة القرآنية في المهور أن تكون متساوية الى يوم القيامة ، فخطب على المنبر ناهياً المسلمين عن زيادة المهر على مهر نساء النبي صلى الله عليه وآله ،وحذر من يخالفه وهدد بالعقوبة.
فقامت اليه عجوز وقالت: بل قول الله أصدق من قولك يا عمر ، قال الله تعالى: ﴿ وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَاناً وَإِثْماً مُبِيناً ﴾ . ( سورة النساء: 20 ) فتعجب عمر من قولها ، وقال: كل الناس أفقه من عمر ، حتى المخدرات في الحجال.
فأيهما يجب أن يضم الى القرآن حتى يكمل الدين ؟
الذي يقول: كل الناس أفقه من عمر ؟!
أم الذي يقول فيه عمر: علي أعلم الأمة !
ويقول فيه رسول الله صلى الله عليه وآله : «أنا مدينة العلم وعلي بابها »؟!
إن ما ذكرناه عن أمير المؤمنين (عليه السلام) هو ألف باء صفاته ، وإلا فهو في مقام أعظم وأعظم ، صلوات الله عليه. قال الإمام الصادق (عليه السلام) لمحمد بن مسلم الثقفي: إذهب الى قبر أمير المؤمنين (عليه السلام) ، وقف مقابله ، وزره بهذه الزيارة.. الى أن يقول فيها: السلام على اسم الله.. لكن أي إسم ؟
السلام على اسم الله الرضي .
السلام على وجه الله المضي .
السلام على جنب الله القوي .
السلام على صراط الله السوي .
الى أن يقول: السلام على نور الله الأنور ، وضيائه الأزهر . (4)
والفرق بين النور والضياء كالفرق بين نور الشمس والقمر، فالشمس مضيئة والقمر منير ، لأنه يعكس نورها بنسبة بسيطة ، والشمس المضيئة هنا رسول الله صلى الله عليه وآله ونورها الجلي علي (عليه السلام) ! لكن ما معنى الأنور ؟ وما معنى الأزهر ؟
هنا يحق للملائكة أن تتعجب من مقامات علي (عليه السلام) ، وقد تعجبت !
ذاك هو علي بن أبي طالب (عليه السلام) ، الذي يحق له عندما سمع شخصاً تحت منبره يقول إني مظلوم ، أن يقول له: إنك ظلمت مرة ، لكني ظلمت عدد المدر والحصى !!
السلام عليك يا أول المظلومين . (5)
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) تورط علماء الجرح والتعديل في حديث أبي هريرة في آية إكمال الدين، وأنها نزلت في يوم غدير خم بعد خطبة النبي صلى الله عليه وآله ووصيته للأمة بالقرآن والعترة، وبعد أن أصعد علياً معه على المنبر ورفع يده وأعلنه خليفة من بعده . وقد روى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وآله أمرهم أن يصوموا ذلك اليوم شكراً لله تعالى ، وأن أجر من صامه كمن صام ستين سنة !
قال أبو هريرة: (من صام يوم ثماني عشرة من ذي الحجة كتب له صيام ستين شهراً ، وهو يوم غدير خم لما أخذ النبي (ص) بيد علي بن أبي طالب فقال: ألست ولي المؤمنين؟ قالوا: بلى يا رسول الله. قال: من كنت مولاه فعلي مولاه. فقال عمر بن الخطاب بخ بخ لك يا ابن أبي طالب ، أصبحت مولاي ومولى كل مسلم! فأنزل الله عز وجل: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الأِسْلامَ دِيناً) . انتهى. (تاريخ دمشق:42/233، وغيره).
وسبب تحيرهم أنهم لايمكنهم الطعن في سند الحديث ، لأن رجاله رجال الصحاح والطعن فيهم طعن في الصحاح كالبخاري ومسلم !
ولايمكنهم أيضاً قبول متن الحديث لأن عمر سئل عن الآية فأنكر أنها نزلت في يوم الغدير ، وقال إنها نزلت قبله بأيام في حجة الوداع !
وقبول حديث أبي هريرة يعني تكذيب عمر في سبب نزول الآية ، وأن ولاية علي وخلافته (عليه السلام) نزلت من الله تعالى وبلغها النبي صلى الله عليه وآله للمسلمين، وأن عمر هنأه وبخبخ له !
وعادة المتعصبين لعمر عندما يقعون في مثل هذا المأزق أن يخرجوا عن توازنهم ، ويردوا الحديث النبوي المعارض لقول عمر بأي وسيلة، فإن لم يجدوا وسيلة ردوه (دفعاً بالصدر) وهو مصطلح لمن رد الحديث بلا حجة ، تشبيهاً له بمن يدفع أحداً بصدره !
وفي هذ الحالة يصفون الحديث بأنه منكر أو مكذوب ، لأنه يخالف قول عمر !
قال السيد حامد النقوي في خلاصة عبقات الأنوار:7/246: (روى حديث صوم يوم الغدير بطريق صحيح رجاله كلهم ثقات ، فقد أخرج الحافظ الخطيب ، عن عبد الله بن علي بن محمد بن بشران ، عن علي بن عمر الدار قطني ، عن أبي نصر حبشون الخلال ، عن علي بن سعيد الرملي، عن ضمرة بن ربيعة ، عن عبدالله بن شوذب، عن مطر الوراق، عن شهر بن حوشب عن أبي هريرة قال: من صام يوم ثمان عشر من ذي الحجة كتب له صيام ستين شهراً ، وهو يوم غدير خم … الخ.).
وقال الراضي في سبيل النجاة ص192: (فضل صوم عيد الغدير: عن أبي هريرة…. هذا يوجد في ترجمة الإمام علي بن أبي طالب من تاريخ دمشق لابن عساكر:2/75 ح575 و 576 و 577 ، شواهد التنزيل للحسكاني: 1/158 ح210 و213 ، الغدير:1/402 ، تاريخ بغداد:8 /290 وفي بعض الروايات بدل ستين شهراً ستين سنة ، كما في فرائد السمطين للحمويني: 1/77 ب 13 ، المناقب للخوارزمي) .
وعدَّد الأميني رحمه الله في الغدير:1/236، ستة عشر من علماء السنة رووا هذا الحديث: فقال: (15- جلال الدين السيوطي الشافعي المتوفى911 ، رواه في الدر المنثور:2/259 من طريق ابن مردويه والخطيب وابن عساكر بلفظ مر في رواية ابن مردويه، وقال في الإتقان:1/31 في عد الآيات السفرية: ( منها اليوم أكملت لكم دينكم: في الصحيح عن عمر أنها نزلت عشية عرفة يوم الجمعة عام حجة الوداع ، له طرق كثيرة. لكن أخرج ابن مردويه عن أبي سعيد الخدري أنها نزلت يوم غدير خم ، وأخرج مثله من حديث أبي هريرة وفيه:إنه اليوم الثامن عشر من ذي الحجة مرجعه من حجة الوداع. وكلاهما لايصح.) ا ه .
وقال الأميني: قلنا إن كان مراده من عدم الصحة غميزة في الإسناد ففيه أن رواية أبي هريرة صحيحة الإسناد عند أساتذة الفن، منصوص على رجالها بالتوثيق، وسنفصل ذلك عند ذكر صوم الغدير، وحديث أبي سعيد له طرق كثيرة كمامر في كلام الحمويني في فرائده.
على أن الرواية لم تختص بأبي سعيد وأبي هريرة فقد عرفت أنها رواها جابر بن عبد الله، والمفسر التابعي مجاهد المكي، والإمامان الباقر والصادق صلوات الله عليهما، وأسند إليهم العلماء مخبتين إليها.
كما إنها لم تختص روايتها من العلماء وحفاظ الحديث بابن مردويه وقد سمعت عن السيوطي نفسه في دره المنثور رواية الخطيب وابن عساكر ، وعرفت أن هناك جمعا آخرين أخرجوها بأسانيدهم وفيها مثل الحاكم النيسابوري ، والحافظ البيهقي، والحافظ ابن أبي شيبة ، والحافظ الدارقطني ، والحافظ الديلمي ، والحافظ الحداد وغيرهم. كل ذلك من دون غمز فيها عن أي منهم .
وإن كان يريد عدم الصحة من ناحية معارضتها لما روي من نزول الآية يوم عرفة ، فهو مجازف في الحكم بات بالبطلان على أحد الجانبين ، وهب أنه ترجح في نظره الجانب الآخر لكنه لا يستدعي الحكم القطعي ببطلان هذا الجانب ، كما هو الشأن عند تعارض الحديثين ، لا سيما مع إمكان الجمع بنزول الآية مرتين كما احتمله سبط ابن الجوزي في تذكرته ص18 كغير واحدة من الآيات الكريمة النازلة غير مرة واحدة ، ومنها البسملة النازلة في مكة مرة ، وفي المدينة أخرى ، وغيرها مما يأتي.
على أن حديث نزولها يوم الغدير معتضد بما قدمناه عن الرازي وأبي السعود وغيرهما من أن النبي صلى الله عليه وآله لم يعمر بعد نزولها إلا أحداً أو اثنين وثمانين يوماً . فراجع ص230.
والسيوطي في تحكمه هذا، قلد ابن كثير فإنه قال في تفسيره:2/14 بعد ذكر الحديث بطريقيه: لايصلح لاهذا ولاهذا . فالبادي أظلم !) . انتهى كلام الأميني رحمه الله .
ولا يتسع المجال لنقل كلام ابن كثير وشيخه الذهبي ومناقشته ، وقد كان العجلوني أقل تزويراً وتحريفاً من بقيتهم ، فقد نقل تكذيب الذهبي للحديث بدليل واه ، ولم يردَّه ، ولا ذكر أسانيد الحديث الصحيحة التي لايمكن دفعها !
قال في كشف الخفاء:2/258: (من صام يوم ثمانية عشر من ذي الحجة كتب الله له صيام ستين شهراً . هذا الحديث ذكره الحلبي في سيرته في أواخرها قبل باب ذكر عمره(ص)من غير عزو لأحد ، ثم نقل عن الحافظ الذهبي أنه ( حديث منكر جداً بل كذب فقد ثبت في الصحيح أن صيام شهر رمضان بعشرة أشهر فكيف يكون صيام يوم واحد يعدل ستين شهراً ؟ هذا باطل فليتأمل . انتهى ما في السيرة . وذكر فيها قبيل ذكره أن الرافضة اتخذوه عيداً لهم لأمر ذكره فيها ، فليراجع ) . انتهى.
أما من طرقنا فرواه الصدوق رحمه الله في الأمالي ص50: (حدثنا الحسن بن محمد بن الحسن بن إسماعيل السكوني في منزله بالكوفة قال: حدثني إبراهيم بن محمد بن يحيى النيسابوري قال: حدثنا أبو جعفر ابن السري وأبو نصر بن موسى بن أيوب الخلال قال: حدثنا علي بن سعيد قال: حدثنا ضمرة بن شوذب ، عن مطر ، عن شهر بن حوشب ، عن أبي هريرة، قال: من صام يوم ثمانية عشر من ذي الحجة ، كتب الله له صيام ستين شهراً، وهو يوم غدير خم ، لما أخذ رسول الله صلى الله عليه وآله بيد علي بن أبي طالب وقال:
يا أيها الناس، ألست أولى بالمؤمنين؟ قالوا: نعم يا رسول الله، قال: من كنت مولاه فعلي مولاه ، فقال له عمر: بخ بخ يا بن أبي طالب ، أصبحت مولاي ومولى كل مسلم ، فأنزل الله عز وجل: ( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ ) .
وفي الكافي:4/148: (علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن القاسم بن يحيى، عن جده الحسن بن راشد ، عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: قلت: جعلت فداك للمسلمين عيد غير العيدين ؟ قال: نعم يا حسن أعظمهما وأشرفهما ، قلت وأي يوم هو ؟ قال هو يوم نصب أمير المؤمنين صلوات الله وسلامه عليه فيه علما للناس، قلت: جعلت فداك وما ينبغي لنا أن نصنع فيه؟ قال: تصومه يا حسن وتكثر الصلاة على محمدوآله وتبرأ إلى الله ممن ظلمهم فإن الأنبياء صلوات الله عليهم كانت تأمر الأوصياء باليوم الذي كان يقام فيه الوصي أن يتخذ عيداً .
قال قلت: فما لمن صامه؟ قال: صيام ستين شهراً ، ولا تدع صيام يوم سبع و عشرين من رجب فإنه هو اليوم الذي نزلت فيه النبوة على محمد صلى الله عليه وآله وثوابه مثل ستين شهراً لكم). انتهى. ونحوه في الفقيه:2/90، وتهذيب الأحكام:4/305 ، وثواب الأعمال ص74.
(2) قال المناوي في فيض القدير:4/468: (قال الإمام أحمد: ما جاء في أحد من الفضائل ما جاء في علي . وقال النيسابوري: لم يرد في حق أحد من الصحابة بالأحاديث الحسان ما ورد في حق علي رضي الله عنه ).
(3) قال الأحنف بن قيس وهو رئيس قبيلة تميم المشهورة: ( دخلت على معاوية فقدم إلي من الحلو والحامض ماكثر تعجبي منه ، ثم قدم لونا ما أدري ما هو فقلت: ما هذا ؟ قال: مصارين البط محشوة بالمخ ، قد قُلي بدهن الفستق ، وذُرَّ عليه الطبرزد . فبكيت فقال: ما يبكيك؟ قلت: ذكرت علياً، بينا أنا عنده فحضر وقت إفطاره فسألني المقام ، إذ دعا بجراب مختوم . قلت: ما في الجراب؟ قال: سويق شعير .
قلت: خفت عليه أن يؤخذ أو بخلت به ؟
قال: لا ، ولا أحدهما ، ولكني خفتُ أن يلِتَّهُ الحسن والحسين بسمنٍ أو زيت .
قلت: محرمٌ هو يا أمير المؤمنين ؟
قال: لا ولكن يجب على أئمة الحق أن يعتدُّوا أنفسهم من ضَعَفَة الناس لئلا يطغي الفقيرَ فقرُه ! قال معاوية: ذكرت من لا ينكر فضله !) انتهى.
(شرح إحقاق الحق للسيد المرعشي:23/261: عن كتاب التذكرة الحمدونية لمحمد بن حمدون ، ص69 طبعة بيروت ـ وذكره في مواقف الشيعة سعيد منصور بن الحسين الآبى المتوفى سنة 422 ه . والكتاب مخطوط بدار الكتب المصرية رقم 2604 ) .
(4) في كتاب المزار لابن المشهدي رحمه الله ص205 ، من زيارة لأمير المؤمنين (عليه السلام) :
(السلام على اسم الله الرضي ، ووجهه المضئ ، وجنبه القوي ، وصراطه السوي ، السلام على الإمام التقي المخلص الصفي ……
ومنها: السلام على النبأ العظيم ، الذي هم فيه مختلفون ، وعليه يعرضون ، وعنه يسألون . السلام على نور الله الأنور ، وضيائه الأزهر ورحمة الله وبركاته ).
وفي إقبال الأعمال لابن طاووس:3/133 من زيارة لأمير المؤمنين (عليه السلام) :
(السلام على اسم الله الرضي ووجهه المضئ وجنبه القوي وصراطه السوي) .
(5) في المناقب لابن شهرآشوب:1/382: (روى ابراهيم بإسناده عن المسيب بن نجية قال: بينما علي يخطب وأعرابي يقول وا مظلمتاه، فقال (عليه السلام) : أدْنُ ، فدنا ، فقال: لقد ظُلِمْتُ عددَ المدر والمطر والوبر ) !
المصدر: وكالة إكنا
الموقع الرسمي للعتبة الحسينية المقدسة
اقرأ أيضا :
ما هي قصة يوم الغدير العظيم ..؟!!
“فاعلموا معاشر الناس، أن الله قد نصبه لكم ولياً وإماماً مفترضاً طاعته على المهاجرين والأنصار، وعلى التابعين لهم بإحسان، وعلى البادي والحاضر وعلى الأعجمي والعربي، والحر والمملوك، وعلى كل موحّد”
يصادف يوم غد 18 ذو الحجة، عيد الغدير الأغر، نتقّدم من إمام العصر والزمان (عج) وهو حفيد الرسالة وإلى ولي أمر المسلمين الإمام الخامئني وإلى جميع القراء الكرام بأحر التهاني والتبريكات وندعو الله سبحانه أن لا نحيد عن ولاية علي بن أبي طالب (ع) إلى يوم الدين.
يوم الغدير من أشهر الأيام في حياة رسول الإسلام (ص) ولقد وثّقته كل الكتب التاريخية على اختلاف مذاهبها وذكرت العديد من تفاصيل هذا اليوم العظيم.. فما هي قصته ؟.!
جبرائيل يبلّغ الرسول (ص) :
لما انصرف رسول الله (صلى الله عليه وآله) من حجة الوداع والمسلمون معه وهم على بعض الروايات زهاء مائتي ألف نسمة، سار (صلى الله عليه وآله) نحو المدينة، حتى إذا كان اليوم الثامن عشر من ذي الحجة وصل ـ رسول الله (صلى الله عليه وآله) ومن معه من المسلمون ـ إلى غدير خم من الجحفة التي تتشعّب فيها طرق المدنيين عن غيرهم، ولم يكن هذا المكان بموضع إذ ذاك يصلح للنزول، لعدم وجود الماء فيه والمرعى، فنزل عليه الأمين جبرئيل (عليه السلام) عن الله بقوله تعالى: ((يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ))[2].
وكان نزوله هذا بهذا الشأن هو للمرة الثالثة، فقد نزل (عليه السلام) عليه (صلى الله عليه وآله) قبلها مرّتين ـ وذلك للتأكيد ـ: مرة عند وقوفه بالموقف، وأخرى عند كونه في مسجد الخيف، وفي كل منهما يأمره بأن يستخلف عليّ بن أبي طالب (عليه السلام)، وأن يسلّم إليه ما عنده من العلم وميراث علوم الأنبياء (عليهم السلام) وجميع ما لديه من آياتهم، وأن يقيمه علماً للناس، ويبلّغهم ما نزل فيه من الولاية، وفرض الطاعة على كل أحد، ويأخذ منهم البيعة له على ذلك، والسلام عليه بإمرة المؤمنين، ورسول الله (صلى الله عليه وآله) يسأل جبرئيل أن يأتيه من الله تعالى بالعصمة، وفي هذه المرة نزل عليه بهذه الآية الكريمة التي فيها: ((وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ)).
الرسول يقوم بالمهمة :
فأمر رسول الله (صلى الله عليه وآله) بالتوقّف عن المسير وأن يردّ من تقدّم من القوم ويحبس من تأخّر منهم في ذلك المكان، فنزل (صلى الله عليه وآله) ونزل المسلمون حوله، وكان يوماً قايظاً شديد الحرّ، فأمر بدوحات هناك فقمّ ما تحتها وأمر بجمع الرحال فيه، ووضع بعضها فوق بعض.
ثم أمر (صلى الله عليه وآله) مناديه فنادى في الناس: الصلاة جامعة، فاجتمعوا إليه وإن الرجل منهم ليضع بعض ردائه على رأسه وبعضه تحت قدميه من شدّة الحرّ، فلما اجتمعوا صعد (صلى الله عليه وآله) على تلك الرحال حتى صار في ذروتها، ودعا علياً (عليه السلام) فرقى معه حتى قام عن يمينه ثم خطب (صلى الله عليه وآله) الناس خطبة بليغة لم يسمع الناس بمثلها فحمد الله وأثنى عليه، ووعظ فأبلغ الموعظة، ونعى إلى الاُمّة نفسه، وأشار إلى أمر الإستخلاف فنصب علياً (عليه السلام) بأمر من الله تعالى خليفة عليهم بعده (صلى الله عليه وآله)، ومما قال (صلى الله عليه وآله) فيها ما يلي:
«معاشر الناس، ان الله أوحى إليّ يقول: ((يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ))[3]. وأنا مبيّن لكم سبب نزول هذه الآية: إنّ جبرئيل هبط عليّ مراراً ثلاثاً يأمرني عن ربّي جلّ جلاله أن أقوم في هذا المشهد، فاُعلم كل أبيض وأسود، أنّ علي بن أبي طالب أخي ووصيّي وخليفتي على اُمّتي، والإمام من بعدي، وقد ضمن لي تبارك وتعالى العصمة من الناس وهو الله الكافي الكريم.
فاعلموا معاشر الناس، أن الله قد نصبه لكم ولياً وإماماً مفترضاً طاعته على المهاجرين والأنصار، وعلى التابعين لهم بإحسان، وعلى البادي والحاضر وعلى الأعجمي والعربي، والحر والمملوك، وعلى كل موحّد. معاشر الناس، إنه آخر مقام أقومه في هذا المشهد، فاسمعوا وأطيعوا، وانقادوا لأمر ربّكم، فإنّ الله هو مولاكم وإلهكم، ثم من بعده رسوله محمّد وليّكم القائم المخاطب لكم، ثم من بعدي علي وليّكم وإمامكم بأمر ربّكم، ثم الإمامة في ذرّيتي من ولده إلى يوم تلقون الله ورسوله، لا حلال إلاّ ما أحلّه الله، ولا حرام إلاّ ما حرّمه الله، عرّفني الله الحلال والحرام وأنا أفضيت لما علّمني ربّي من كتابه وحلاله وحرامه إليه ـ إلى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) ـ.
وظل رسول الله يقول معاشر الناس، حتى وصل إلى قوله :
معاشر الناس، فما تقولون؟ قولوا الّذي قلت، وسلّموا على عليٍّ بإمرة المؤمنين، وقولوا: سمعنا وأطعنا، وقولوا: الحمد لله الّذي هدانا لهذا وما كنّا لنهتدي لولا أن هدانا الله .. معاشر الناس، إنّ فضائل عليّ عند الله عزّوجل الذي قد أنزلها في القرآن أكثر من أن اُحصيها في مكان واحد، فمن أنبأكم بها فصدِّقوه.
معاشر الناس، من يطع الله ورسوله وعلياً أمير المؤمنين والأئمّة من ولده فقد فاز فوزاً عظيماً».
فناداه القوم: سمعنا وأطعنا أمر الله وأمر رسوله بقلوبنا وألسنتنا وأيدينا.
ثم إنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) نادى بأعلى صوته ويده في يد علي (عليه السلام) وقال: «يا أيّها الناس، ألست أولى بكم من أنفسكم؟ ».
قالوا بأجمعهم: بلى يا رسول الله.
فرفع رسول الله (صلى الله عليه وآله) بضبع علي (عليه السلام) حتى رأى الناس بياض ابطيهما، وقال على النسق من غير فصل: «فمن كنت مولاه فهذا عليّ مولاه، اللهمّ والِ من والاه، وعادِ من عاداه، وانصر من نصره، واخذل من خذله، والعن من خالفه، وأدر الحقّ معه حيثما دار، ألا فليبلّغ ذلك منكم الشاهد الغائب، والوالد الولد».
الصحابة يبايعون عليّاً (عليه السلام) :
ثم نزل رسول الله (صلى الله عليه وآله) وكان وقت الظهيرة فصلّى ركعتين ثمّ زالت الشمس، فأذّن مؤذّنه لصلاة الظهر، فلما صلّى بهم جلس في خيمته وأمر عليّاً (عليه السلام) أن يجلس في خيمة له بازائه، ثم أمر (صلى الله عليه وآله) المسلمين أن يدخلوا عليه فوجاً فوجاً فيهنّؤوه (عليه السلام) بالولاية، ويسلّموا عليه بإمرة المؤمنين، ويبايعوه على ذلك.
ففعل الناس ذلك كلّهم يقولون له: بخّ بخّ لك يابن أبي طالب أصبحت مولاي ومولى كلّ مؤمن ومؤمنة[6]. ثم أمر رسول الله (صلى الله عليه وآله) أزواجه وسائر نساء المؤمنين معه أن يدخلن على علي (عليه السلام) ويسلّمن عليه بإمرة المؤمنين، ويبايعنه على ذلك، ففعلن وسلّمن عليه (عليه السلام) وبايعنه بإدخال أيديهنّ في طشت فيه ماء كان قد أدخل علي (عليه السلام) يده فيه قبل ذلك.
القرآن يبارك خلافة علي (عليه السلام) :
وعن ابن عباس، وحذيفة، وأبي ذر وغيرهم، انهم قالوا: والله ما برحنا من مكاننا ذلك حتى نزل جبرئيل بهذه الآية عن الله تعالى: ((الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِيناً))[7].
فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): الله أكبر على إكمال الدين، وإتمام النعمة، ورضا الربّ سبحانه وتعالى برسالتي إليكم، والولاية لعليّ بن أبي طالب بعدي.
يوم الغدير شعرا :
كان شاعر الرسول (ص) حسّان بن ثابت موجودا فقال: يا رسول الله أتأذن لي أن أقول في هذا المقام ما يرضاه الله؟
فقال له (صلى الله عليه وآله): قل يا حسّان على اسم الله.
فوقف على نشز من الأرض وتطاول الناس لسماع كلامه، فأنشأ يقول:
الغدير برواية الشعر :
يناديهم يوم الغدير نبيّهم***بخمّ واسمع بالرسول منادياً
فقال: فمن مولاكمُ ونبّيكم؟ ***فقالوا ولم يبدوا هناك التعاميا
إلهك مولانا وأنت نبيّنا***ولم تلق منّا في الولاية عاصيا
فقال له: قم يا علي فإنّني***رضيتك من بعدي إماماً وهادياً
فمن كنتُ مولاه فهذا وليّه***فكونوا له أتباع صدق موالياً
هناك دعا اللهمّ وال وليّه***وكن للذي عادى علياً معاديا
فقال له رسول الله (صلى الله عليه وآله): لا تزال يا حسّان مؤيّداً بروح القدس ما نصرتنا بلسانك[8]. ثم قام من بعده جماعة من الشعراء وألقوا على مسامع القوم أبياتاً في مدح علي (عليه السلام) وتبجيل هذه المناسبة العظيمة كقيس بن سعد بن عبادة الخزرجي وغيره.
1] أخذنا هذه الخاتمة من كتاب (ولأول مرة في تاريخ العالم) ج2 الفصل الأخير وما قبله، للإمام الشيرازي (رحمه الله).
[2] سورة المائدة: 67.
[3] سورة المائدة: 67.
[4] سورة الإنسان: 1.
[5] سورة الفتح: 10.
[6] أنظر بحار الأنوار: ج21 ص388 ب36 ح10.
[7] سورة المائدة: 3.