معتز ممدوح :
المكون المغاربي وموقعه في البنية الاجتماعية للريف والمدينة المصرية، سردية تاريخية تستحق أن تروى لفاعل اجتماعي ظل مجهولًا لوقت طويل في مصر.
رغم جهل الكثيرين بوجود المغاربة في المكون الاجتماعي المصري، فإن هذه الأقلية الاجتماعية لعبت دورًا كبيرًا في الحياة الاقتصادية والثقافية والاجتماعية المصرية، ولاسيما في القرن الثامن عشر إبان الحكم العثماني في البلادالجذور والامتدادات ومظاهر التأثير المغاربي الحاضرة حتى الآن في أسماء الشوارع والأحياء والمساجد وأضرحة الصوفية في القاهرة والإسكندرية والوجه البحري، شواهد لا تزال قائمة حتى الآن على هذا الوجود الفاعل والمؤثر الذي نسعى هنا لتلمس بعض أبرز ملامحه وقسماته.
هجرة المغاربة إلى مصر
تمتع المغرب العربي خلال العصر الإسلامي الوسيط بنهضة حضارية عمرانية واقتصادية كبيرة، حتى بداية التفكك، الذي بدأ في تقويض وحدته السياسية التي صنعتها دولة «الموحدون»، حيث أدى افتقاده لسلطة مركزية منذ أواخر القرن الثاني عشر الميلادي إلى جعله مسرحًا لفوضى القبائل الغازية والمحلية على حد سواء.[1]
أدي عدم الاستقرار الناجم عن التفسخ السياسي في بلاد المغرب آنذاك إلى انتشار الخراب في مدنه وحواضره وتلف زراعاته، وأدى كذلك إلى كساد التجارة وتوقف الصناعات والحرف، وبذلك توفرت عدة عوامل طاردة دفعت بالكثير من أبناء المغرب، لاسيما من فئة التجار والحرفيين إلى الهجرة لبلدان المشرق العربي والاستقرار فيها، خاصة مصر.
العديد من الدراسات الاجتماعية والتاريخية سلطت الضوء في هذا الإطار على الوجود المغربي في مصر خلال العهد العثماني، ولكن تشير المصادر التاريخية إلى أن استقرار ورسوخ الجالية المغربية في مصر هو أقدم بكثير من ذلك.
حيث يروي لنا على سبيل المثال المؤرخ المصري ابن إياس الحنفي في كتابه الشهير «بدائع الزهور في وقائع الدهور» حادثة تاريخية تسجل لنا واقع استقرار جالية مغربية ليست بالقليلة في مصر خلال أواخر العصر المملوكي في مطلع القرن السادس عشر ميلاديًا، قبيل موقعة الريدانية بين السلطان العثماني سليم الأول والسلطان المملوكي طومان باي، حيث يقول:
في يوم الاثنين تاسع عشرة، جلس السلطان على التكة بالحوش، وطلع الجم الغفير من المغاربة، فلما طلعوا إلى القلعة لم يجتمع عليهم السلطان وأرسل إليهم الأمير شاد بك الأعور، فقال لهم:
السلطان يقول لكم عينوا منكم ألف إنسان من شجعانكم حتى يخرجوا مع التجريدة. فأرسلوا يقولون للسلطان:
نحن مالنا عادة نخرج مع العسكر ونحن ما نقاتل إلا الإفرنج ما نقاتل مسلمين. وأظهروا التعصب لابن عثمان.
فلما عاد الجواب على السلطان بما قالوه المغاربة، عز على السلطان ذلك، وأرسل يقول لهم، إن لم تخرجوا وتقاتلوا ابن عثمان وإلا المماليك الجلبان يقتلوا كل مغربي في مصر حتى ما يخلوا بها مغربي يلوح. فنزلوا القلعة على غير رضا من السلطان.[2]
الوجود المغربي في الريف والمدينة المصريين
على إثر العوامل الطاردة التي أشرنا إليها وغيرها، جاءت بعض القبائل المغربية سواء كانت من أصول أمازيغية أو عربية إلى مصر في فترات مختلفة سابقة للعصر العثماني ولاحقة أيضًا، حيث استقرت بعض تلك القبائل في الريف المصري، بينما آثر البعض الآخر حياة التجوال والترحال على أطراف المدن والقرى.[3]
جدير بالذكر أن تلك القبائل صارت في العصر العثماني قوة يخشاها الولاة في القاهرة، وتعمل لها حسابًا بعد ازدياد نفوذها كثيرًا في الريف والبوادي، ومن هذه القبائل على سبيل المثال أولاد علي، وبنو هلال، والهوارة، ومحارب، وكرايم وغيرهم .
فرضت القبائل المغربية حمايتهم على المناطق التي استقروافيها، سواء في ظل نظام الأمانات أو المقاطعات الذي أديرت به الأراضي الزراعية منذ بداية العصر العثماني، أو في ظل نظام الالتزام الذي تم إتباعه لإدارة الأراضي الزراعية المصرية منذ منتصف القرن السابع عشر، وقد كانت نسبة العربان بين فئات الملتزمين آنذاك ليست بالقليلة.
عمل الملتزمون على حماية الفلاحين في مناطق الصعيد الأعلى والأوسط حتى المنيا، من هجمات القبائل العربية الأخرى، والحد من أعمالهم الضارة بالفلاحين، وتثبت العديد من النصوص والوثائق التاريخية المحفوظة من تلك الفترة تمتع فلاحي المناطق التي كانت واقعة في حماية الهوارة بالأمن والأمان، وخاصة في عهد الشيخ همام الذي امتد نفوذه من المنيا في شمال الصعيد إلى أسوان جنوبًا.
الأعداد الإجمالية للمغاربة في مصر سواء في الريف أو في الحضر لا تتوافر عنها بيانات دقيقة خلال العصر العثماني، ولكن قدر علماء الحملة الفرنسية أعداد المغاربة في القاهرة بحوالي 10 آلاف نسمة، وهو عدد كبير بالنسبة لعدد سكان القاهرة في ذلك الوقت، وفي دراسة لأحمد باشا الجزار عن أوضاع مصر في عام 1785، قدر الأخير عدد التجار المغاربة ما بين 40 ألفًا إلى 50 ألف تاجر مغربي الأصل.[4]
وكما نلاحظ فدراسة أحمد الجزار لا توضح لنا سوى عدد التجار المغاربة، ولا توضح لنا المغاربة الآخرين كطلاب الأزهر الذي كان أكبر أروقته حجمًا هو رواق المغاربة، ولكن يبدو مما شك فيه أن المغاربة كانوا هم أكبر الطوائف الإسلامية الوافدة على البلاد في ذلك الوقت.
وقد انتشر التجار المغاربة في كافة المدن المصرية خلال العصر العثماني، وكانوا أكثر تركزًا وحضورًا في المدن المصرية الكبرى آنذاك كالقاهرة والإسكندرية والفيوم وأسيوط وغيرها من المدن المصرية، وتركز المغاربة بوجه خاص في منطقة حي طولون بمصر القديمة حول مسجد ابن طولون الذي تم اتخاذه كنقطة لتجمع الحجاج أثناء سفرهم إلى مكة وكمقر للإقامة أيضًا في بعض الأحيان.
المغاربة في الحياة الثقافية والاجتماعية المصرية
نشأت القاهرة نشأة مغربية بأمر من المعز لدين الله الفاطمي، وغداة دخول الفاطميين إليها أقيم بها مسجد جامع كما جرت العادة من قبل في عواصم مصر الإسلامية السابقة كالفسطاط والعسكر والقطائع، وكما هو معروف كان هذا المسجد هو الجامع الأزهر.
بعد سقوط الدولة الفاطمية شيعية المذهب، تحول الأزهر إلى مدرسة حرة لتدريس فقه المذاهب السنية الأربعة : الشافعية، والمالكية، والحنبلية والحنفية، وتغيرت نوعية الوافدين إليه، حيث عوضًا عن طلاب العلم الشيعة، صار الأزهر قبلة لطلاب وعلماء المذهب المالكي السائد في المغرب العربي.
وقد قام بالتدريس في الأزهر عدد من العلماء المغاربة الكبار من أبرزهم : العلامة عبد الرحمن ابن خلدون، وابن حجر، والقلقشندي، والمقريزي، ومحمد تقي الدين الفاسي، وبازدياد عدد الطلاب المغاربة الذين أتوا على مصر للدراسة في الأزهر، بدأ السلاطين اللماليك بالتفكير في إنشاء رباع لسكن هؤلاء الطلاب، ورصد أوقاف خيرية للإنفاق من ريعها عليهم، ومن هنا كانت نشأة الأروقة الشهيرة في الجامع الأزهر، التي كان أهمها و أقدمها رواق المغاربة.
وقد تم التزاوج بين كثير من طلبة العلم والعلماء المغاربة والمصريات، حيث تسجل سجلات المحاكم الشرعية العديد من هذه الحالات التي وثقت الروابط بين المغاربة والمجتمع المصري عن طريق عملية الزواج والمصاهرة.
وقد أدى اشتغال أبناء الجالية المغربية بالحرف المهنية التي تمس حياة المجتمع اليومية كالطحانة والقصابة «الجزارة» والسمسرة والصيرفة وعصر الزيوت وصناعة المنسوجات، إلى توطيد علاقتهم بقوة بالمجتمع المصري فأثروا فيه كثيرًا وتأثروا به أيضًا، وانتشرت العادات والتقاليد المغربية والزي المغربي انتشارًا واسعًا جراء هذا الاختلاط.
وجدير بالذكر أن أشهر الأضرحة الصوفية في مصر تعود لمتصوفة مغاربة، ومن أبرزهم: أحمد بن علي إبراهيم البدوي «السيد أحمد البدوي»، وشهاب الدين أبو العباس أحمد بن حسن بن علي الخزرجي الأنصاري المرسي «سيدي المرسي أبو العباس»، وتقي الدين علي بن عبد الله بن عبد الجبار المغربي «الشيخ الشاذلي» مؤسس الطريقة الشاذلية.
اضاءات