لماذا اعتزل واصل بن عطاء أستاذَه الحسن البصري؟ ما هي الأصول الخمسة لمنهج أهل العدل والتوحيد؟ هل للخلاف بين مدرستَي النقل والعقل أبعاد اجتماعية وسياسية؟ ما الدور الذي لعبه المُعتزِلة في عهد المأمون وكيف عاملهم المتوكّل؟ هل بقي لفكر المُعتزِلة تأثير في العصر الحديث؟
سنحاول في هذا المقال أن نجيب باختصار على الأسئلة أعلاه، وموجب تناول جماعة المعتزلة هو التأكيد على أن التاريخ الإسلامي لم يخلُ يوماً من الجدال الفقهي حول الخروج على الحاكم الظالم أو مهادنته أو حتى طاعته، وكذلك حول كل ما يتصل بحياة الناس الاجتماعية والسياسية التي كانت ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالدين في ظل وجود خليفة للمسلمين. هذا الخلاف شهدناه مؤخراً بين الدعاة ورجال الدين المسلمين وصولاً إلى مختلف الشرائح الاجتماعية، عند مقاربة ظاهرة التيارات الإسلامية التي تقدّس النقل وتغيّب العقل.
حدث في مسجد البصرة
كانت مدينة البصرة في العهد الأُمَويّ قد تحوّلت من معسكرٍ للجيوش الإسلامية إلى الحاضرةِ الثقافيةِ للدولةِ العربيةِ الاَخذةِ في الاتّساع، وأصبح مسجدها أول جامعة إسلامية يتخرّج فيها طلاب الفقه والنظر في العقائد وعلوم اللغة والأدب والشعر وسائر أبواب المعرفة المُتاحة في ذلك العصر.
في تلك الجامعة كان يشغل منصب الأستاذ الأكبر إمام وعالِم جليل هو الحسن البصري، وكان مجلسه يستقطب طلاب العِلم القادمين من مختلف البلدان، وكان من بينهم طالب نبيه وخطيب مُفوَّه أدهشَ القوم ببلاغته حين استغنى، وهو الألثغ الذي لا يُحسِن النُطق بحرف الراء، استغنى عن هذا الحرف في كلامه كله مؤدّياً المعنى نفسه للكلمات التي تتضمّن هذا الحرف باستخدام كلمات مُرادفة ليس فيها الراء.
هذا الألثغ الفصيح كان واصل بن عطاء، الذي جاء من المدينة المنوّرة إلى البصرة لكي يندمج في جوّها الفكري والثقافي ويطلّع على أفكار أصحاب المِلل غير الإسلامية وعلى معتقداتهم، ولاسيما الثنوية منهم والمسيحيين الذين اطّلع منهم على أفكار يوحنا الدمشقي الذي دخل في سِجالات وكتبَ ومؤلّفات تُدافع عن عقيدته المسيحية.
كما أن هذا الراهِب الذي نشأ في عائلةٍ عربيةٍ مسيحيةٍ تولّت مناصبَ مهمّة في البلاط الأموي، كان يقول بمبدأ الاختيار، أي إن الإنسان مُخيَّر في أفعاله وليس مسيّراً. وقد ظهر أثر هذا الاحتكاك مع هؤلاء عبر التركيز على توحيد الذات الإلهية في الأصول الخمسة التي قام عليها منهج أهل العدل والتوحيد الذين عُرِفوا باسم المُعتزِلة.
“لقد اعتزلنا واصل”
وكان واصل، الطالب، شديد الإعجاب بذكاء أستاذه وسِعة معرفته وأحاطته بالقضايا الفقهية التي دفعت الخليفة عمر بن الخطاب إلى توليته قضاء البصرة. غير أن الخلاف ما لبث أن وقع بين التلميذ وأستاذه في مسألة كانت موضوع جدلٍ واسعٍ في الأوساط الدينية وهي مسألة مُرتكب الكبيرة. والمقصود بذلك مَن يتعمّد ارتكاب الذنب الذي جاء فيه حدٌّ في الدنيا أو وعيد في الآخرة، كالشرك بالله تعالى مثلاً، أو قتل النفس ظلماً أو ترك الصلاة وغير ذلك من عِظم الذنوب.
بدأ الخلاف عندما سُئل الحسن البصري عن مُرتكب الكبيرة هل هو مؤمن أو كافر؟ فأجاب أنه مؤمن عاصٍ. فاعترض عليه واصل بأن مرتكب الكبيرة في منزلةٍ بين منزلة بين منزلتين، أي بين الكفر والإيمان، وأنه ليس مؤمن ولا عاصٍ. ثم اعتزل مجلسَ الحسن البصري. فقال الحسن: “لقد اعتزلنا واصل” فسُمّي هو وأتباعه بالمُعتزِلة، أما المُعتزِلة فقد سمّوا أنفسهم” أصحاب العدل والتوحيد”.
واتّخذ واصل بن عطاء لنفسه مجلساً مستقلاً في المسجد أخذ يدرّس فيه منهجه الفكري القائم أساساً على تقديم العقل على النقل في المسائل الدينية، فيما كان رأي الحسن والجمهور تقديم النقل على العقل.
وهكذا كانت بداية أول مدرسة عقلانية إسلامية ما لبثت أن لعبت دوراً خطيراً في الحياة الفكرية والعقائدية في المجتمع الإسلامي. وكانت وراء ما سُمّي بمحنةِ خَلْق القرآن التي بدأت في عهد المأمون. وذلك أن المُعتزِلة يرون أن القرآن كلام الله وهو مخلوق الله تعالى، أي أنه مُحدَث وليس جزءاً من ذاته قديماً بقدمه، كما تقول المُشبِّهة. بينما ينظر الأشاعرة وغيرهم إلى كلام الله على أنه صفة ذات لله. في حين ينظر المُعتزِلة إلى كلام الله على أنه صفةُ فعلٍ لله، أي أن الله خلق كلاماً أي أحدثه.
ويُقال إن يوحنا الدمشقي ألزم الأشاعرة بقِدم المسيح وأزليّته بما أنه كلمة الله ألقاها إلى مريم، والكلمة قديمة في رأي المُعتزِلة.
هل يجوز الخروج على الحاكم؟
لم تكن قضية مُرتكِب الكبيرة سوى منطلق لنشر منهج التفكير العقلاني في القضايا الدينية وما يترتّب على ذلك من نتائج اجتماعية وسياسية. وذلك أن التعارُض الناشىء بين أصحاب المنهج العقلي وبين المحافظين القائلين بتغليب النقل على العقل، ينطوي على أبعادٍ اجتماعيةٍ وسياسيةٍ محورها الموقف من الحاكم الجائر هل يجب القيام عليه أو السكوت عنه والخضوع له.
وكان رأي واصل ومَن جاء بعده من رؤساء المُعتزِلة هو القيام على الحاكم الظالم والمقصود يومها الحُكم الأموي. وأما رأي الحسن البصري فهو السّمع والطاعة للحاكم مهما بلغ من الجور أو الخروج على الشريعة درءاً للفتنة. مع العِلم أن الحسن البصري كان يرى أن حُكم بني أميّة فيه ظلم وجور لكنهم أقوياء وليس بإمكان المعارضة أن تقف في وجههم ما يترتّب عليه سفك الدماء.
تيّار عقلاني؟
قام منهج الاعتزال على خمسة أصول اتفقوا عليها على الرغم من الانشقاقات التي تعرّض لها هذا التيار العقلاني، حتى أصبح فِرقاً مُتعدّدة نسبت كل واحدة منها إلى مؤسّسها. وأشهر أعلامهم: الكندي، أبو علي الجُبائي وابنه إبراهيم، بشر بن معتمر، القاضي عبد الجبار، الزمخشري، العلّاف، النظّام، الجاحِظ.
أما الأصول الخمسة لمذهبهم فهي:
التوحيد: إثبات وحدانية الله ونفي المِثل عنه، وتنزيهه عن الجسمية والجوهرية والعرضية.
العدل: يعنون به قياس أحكام الله على ما يقتضيه العقل والحكمة، وأن الإنسان حرّ في أفعاله. وبناء على ذلك نفوا أموراً وأوجبوا أموراً. فنفوا أن يكون الله خالقاً لأفعال عباده وقالوا إن العباد هم الخالقون لأفعالهم بأنفسهم إن خيراً وإن شراً. وذلك خلافاً للجبرية الذين يعتقدون أن الأفعال من خلق الله والإنسان مجبور عليها. والجبر هنا ينطوي من قِبَل القائلين به على بُعدٍ اجتماعي وسياسي لكونه نوعاً من الدعوة إلى السكوت على الحاكم الظالم بحجّة أن جوره مكتوب عليه، وأن ليس في اليد حيلة أمام ما يقدّره الله تعالى.
المنزلة بين المنزلتين: وهم يرون أن الفاسِق في الدنيا لا يُسمّى كافراً ولا يُسمّى مؤمناً بوجهٍ من الوجوه، بل هو في منزلةٍ بين هاتين المنزلتين، فإن تابَ رجع إلى إيمانه وإن مات مُصرّاً على فسقه كان من المُخلّدين في النار.
الوعد والوعيد: المقصود به إنفاذ الوعيد في الآخرة على أصحاب الكبائر، وأن الله لا يقبل لهم شفاعة ولا يُخرج أحداً منهم من النار. على أن المؤمن إذا خرج من الدنيا على طاعةٍ وتوبةٍ استحقّ الثواب والعوض. وإذا خرج على غير توبة عن كبيرةٍ ارتكبها استحق الخلود في النار لكن عِقابه يكون أخفّ من عِقاب الكفّار. وسمّوا هذا النمط وعداً ووعيداً.
الأمر بالمعروف والنهي عن المُنكر: هذا الأصل يوضّح موقف المُعتزِلة من أصحاب الكبائر سواء كانوا حُكّاماً أو محكومين. وقد أوجبوا الأمر بالمعروف والنهي عن المُنكر مع الإمكان والقدرة باللسان واليد والسيف كيف قدروا على ذلك. فهم يرون قتال أئمة الجور لمجرّد فسقهم، ووجوب الخروج عليهم عند القدرة على ذلك وغَلَبة الظن بحصول الغَلَبة وإزالة المُنكر.
الأشعري … إرتداد عن المعتزلة
أشرنا في ما تقدّم إلى تفرّق المُعتزِلة فِرَقاً لا تكاد تتّفق في ما بينها إلا على هذه الأصول الخمسة. لكن ثمة مَن ارتدّ عن منهجِ المُعتزِلة وخرج منهم وناصَبهم العداء وانضمّ إلى أهل السنّة والجماعة مع شيءٍ من التمايز. وأشهر هؤلاء أبو الحسن الأشعري الذي يُنسَب إليه الأشاعرة.
كان الأشعري من تلاميذ إبي علي الجُبائي شيخ المُعتزِلة في زمانه (235- 303 للهجرة). وكان الأشعري مُتكلّماً يتمتّع بذكاءٍ حادٍ، وقد ردّ على مقولات المُعتزِلة رداً لقيَ صدىً واسعاً لدى الجمهور، وأصبح من شيوخ أهل السنّة والجماعة المُعتَبرين.
المُعتزِلة … هل انحسر تيارهم الفكري؟
أيّدّ المُعتزِلة بني العباس لمّا آلت الخلافة إليهم بعد بني أميّة. وعلا شأنهم في عهد المأمون حين أخذت مسألة خلق القرآن طابعاً سياسياً، فقد أوعز إثنان من شيوخ المُعتزِلة إلى الخليفةِ المأمون بأن يجعلَ القول بخلق القرآن عقيدةً رسميةَ للدولة، وأن يتتبّع كل مُعارِض لها بالقتل والحبس والجلْد وقطع الأرزاق.
وقد اتّبع المأمون هذا السبيل في ما عُرِف بمحنة خلق القرآن.
وكان أبرز مَن تعرّض للاضطهاد والحبس لرفضه هذه المقولة هو الإمام أحمد بن حنبل. واستمرت هذه المحنة في أيام المعتصم والواثق، ثم انقلب عليهم المتوكّل ووضعَ حداً لنفوذهم.
ومنذ ذلك الحين أخذ تيارهم الفكري ينحسر حتى كاد يتلاشى، إلى أن عاد للظهور على نحوٍ متواضعٍ في العصرِ الحديث. ومن أشهر المُفكّرين الذين يمكن القول بأنهم تأثّروا إلى هذا الحد أو ذاك بفكر المُعتزِلة القدماء: رفاعة الطهطاوي، جمال الدين الأفغاني، محمّد عبده، محمّد رشيد رضا، عبد الرحمن الكواكبي، أحمد أمين وغيرهم.