ساسة بوست :
بعد وفاة رئيس كوريا الشمالية الراحل كيم جونغ إيل عام 2011، صعد نجله كيم جونغ أون إلى السلطة، وباستراتيجية جديدة سعى من خلالها لإطاحة كل شخصيّات السلطة المحسوبة على حقبة والده بما فيهم أقاربه، وأحاط نفسه بدائرةٍ سريّة من الشخصيات، تكتّم على الإفصاح عنهم.
واحدة من أهم هذه الشخصيات هي شقيقته الصغرى كيم يو جونغ، التي تعدّ بمثابة المستشارة الأولى لأخيها، والتي لعبت دورًا كبيرًا في الدعاية لانتخاب أخيها رئيسًا للبلاد في الأيام الأخيرة من عمر والدهما كيم جونغ إيل، فضلًا عن دورها في تحقيق اللقاء التاريخي بين شقيقها ورئيس كوريا الجنوبية، بالإضافة إلى وقوفها خلف مهام عديدة داخل وخارج بلادها. يرسم التقرير التالي صورةً كاملةً عن المرأة الثلاثينية التي باتت الأكثر حظوة داخل دوائر السلطة في بلادها، ومهامها الواسعة التي جعلتها الآمرة الناهية، والسيدة الأكثر نفوذًا من بين نساء كوريا الشمالية.
«يثق فيها ثقة كاملة».. الناجية الوحيدة من قوائم الإعدام لعائلتها
في أعقاب وفاة الزعيم الكوري الشمالي الراحل كيم يونغ إيل، في ديسمبر (كانون الأول) عام 2011، ورث نجله كيم جونغ أون مقاليد الحُكم، وشرع في هندسة توازنات جديدة للسلطة داخل القصر الحاكم، عبر تصفية كُل العناصر المشكوك في ولائها، مدفوعًا بشعور الشكّ حيال كل المُحيطين به، سوى سيدة واحدة وضع فيها ثقته الكاملة، ومنحها صلاحياتٍ مفتوحة.
شقيقة حاكم كوريا الشمالية خلال زيارتها كوريا الجنوبيةكانت هذه السيدة شقيقته الصغرى، كيم يو جونغ، التي تصغره بأربع سنوات. توطّدت الثقة بينهما خلال مرحلة دراستهما المُشتركة في مدينة برن بسويسرا في الفترة بين عامي 1996 و2000؛ إذ اشتركا في اهتمامات واحدة ككرة السلة، وألعاب الفيديو، لتصير كيم الأخت الشقيقة له من زوجة والدهما الثالثة الراقصة السابقة كو يونغ هوي، الوحيدة التي يمنحها كُل شيء، وتنال الحظوة والنفوذ، وتخرج من قوائم الشخصيات التي أطاحها.
لم تُفضِّل كيم البقاء خارج بلادها؛ فالفتاة الشابة التي ولدت في 29 من سبتمبر (أيلول) عام 1987 استهواها بريق السلطة والنفوذ، حتى عادت إلى بلادها لاستكمال دراستها في علوم الحاسوب في جامعة كيم إيل سونغ.
سعى الحاكم الشاب لتصفية كل رؤوس السلطة، وإخلاء الساحة له ولشقيقته؛ إذ أصدر سلسلة قرارات بإعدام نحو 70 من كبار المسؤولين في كوريا الشمالية، بعد توليه منصبه في عام 2012، وارتفعت القائمة لتضمّ عمّه الذي أعدم في نهاية عام 2013، والتخلّص من كل القياديين الذين كانوا في دائرة المقربين من عمِّه الراحل، والذين يقدر عددهم بحوالي 200 شخص، بمن فيهم وزير الأمن العام «أو سانغ هون» الذي أعدم بقاذفة لهب، وأعدمت زوجة عمه «جانغ سونغ تيك» بتهمة الخيانة، وجرى تنفيذ الحكم على الفور.
لم تقف قوائم الإعدام عند هذه الدائرة المُقربة، بل شملت كذلك شقيقه الأكبر الذي هرب خارج البلاد، وذلك عبر ملاحقته بسيّدتين تبعتاه؛ إذ استغلّتا فرصة نومه في مطار كوالالمبور، ودسّتا سمًا في مشروبٍ يتناوله، وكذلك وزير الدفاع الكوري الشمالي «هيون يونغ تشول» الذي أعدم في أبريل (نيسان) عام 2015، بسبب اتهامات من بينها «الخيانة»، والفشل في تنفيذ أوامر الزعيم الكوري الشمالي، كيم جونغ أون، وذلك عبر إطلاق النار عليه من مدفع مضاد للطائرات في ساحةٍ عامة.
من بين كُل هذه القوائم من كبار المسئولين والأقرباء للحاكم الشاب، نجت شقيقته كيم يو جونغ، التي تتقن اللغتين الإنجليزية والفرنسية، لتترقّى داخل الحزب الحاكم، الذي شوهدت فيه للمرة الأولى عام 2010، حين حضرت اجتماعًا للحزب بجوار والدها، قبل أن تصبح وجهًا دائمًا في الاجتماعات، مدعومة من والدها الذي منحها صلاحيات واسعة داخل الحزب؛ لتصير في ولاية والدها نائب مدير قسم الدعاية والبروباجندا في الحزب الحاكم قبل أن يموت والدها، وتُشاهد في جنازته خلف شقيقها عبر شاشة التلفزيون الرسمي، وهي تبكي شاحبة الوجه.
بعد وفاة الوالد، وتصعيد شقيقها، ترقّت كيم يو جونغ داخل الحزب السياسي، لتخلف عمّتها في منصب رئاسة المكتب السياسي للحزب الحاكم، وعمرها وقتها 27 عامًا، متزامنًا ذلك مع تصعيد زوجها تشوي سونغ الذي أنجبت منه ولدًا، حتى وصل إلى منصب رئيس اللجنة العسكرية في الحزب الحاكم.
حظت كيم بنفوذ واسع داخل الحزب الحاكم حتى باتت الآمرة الناهية فيه؛ وباتت ظلّ شقيقها في كُل الوزارات وخطط البلاد الداخلية والخارجية؛ لتصبح السيدة الأكثر نفوذًا من بين نساء كوريا الشمالية، بمن فيهن زوجة شقيقها ري سول جو، التي حظيت بلقب السيدة الأولى دون أن تكون ذات نفوذ في قلب السلطة كحال كيم.
ليس أدلّ على هذا النفوذ الواسع سوى ما تحدثت عنه بعض وسائل الإعلام الغربية في خريف عام 2010، حين شاع أنها تسلمت إدارة البلاد أثناء مرض شقيقها، والذي اختفى على أثره مدة 40 يومًا خضع خلالها إلى جراحة في القدم. ويقوليانغ مو جين، البروفسور في جامعة دراسات كوريا الشمالية في سيول لإذاعة مونت كارلو الدوليّة: «إنها من القلائل الذين يمكنهم التحدث بحرية في أي موضوع مع الزعيم كيم جونغ أون». ويتابع البروفسور: «إن قدراتها تفوق أي مسؤول كوري شمالي عندما يتعلق الأمر باتخاذ القرار، وتنسيق السياسات مع الزعيم».
الوسيط الخفيّ في الهدنة التاريخية مع كوريا الجنوبية
في فبراير (شباط) من العام الجاري، أوفد رئيس كوريا الشمالية شقيقته الصغري على رأس وفد إلى كوريا الجنوبية لحضور افتتاح أولمبياد بيونغ تشانغ الشتوي؛ وهي الزيارة التي جعلتها أوّل عضو في الأسرة الحاكمة في كوريا الشمالية يزور الجارة الجنوبية منذ نهاية الحرب الكورية الأهلية في شبه الجزيرة الكورية بين عامي 1950- 1953.
كسرت كيم الصغرى، المرأة الثلاثينية بهذه الزيارة حظرًا وتوتُّرات دامت 65 عامًا؛ وتحقّق لها ما أرادت من تتويج لنفوذها بمكسب جديد يعزّز من حضورها الدوليّ ونفوذها الواسع داخل بلادها، الذي أخذ يتمدد بعد وفاة والدها. أخذت الزيارة طابعًا بروتوكوليًّا في وسائل الإعلام، وترويجًا لها كونها زيارة استثنائية تحمل دلالات أبعد من هدف الزيارة المُعلن؛ خصوصًا بعدما استقبلها رئيس كوريا الجنوبية، وتلقى منها دعوة رسمية لعقد اجتماع قمّة مع شقيقها في أقرب فرصة.
وقد سبق وصولها وصول وفد يُمهّد لها، والذي ضم 280 عضوًا، على رأسهم وزير الرياضة الكوري الشمالي كيم إيل-غوك، و229 مشجعًا، وأربعة مسؤولين من اللجنة الأولمبية الوطنية، و26 لاعب تايكوندو، و21 صحافيًّا. تقاطعتالتفسيرات حول مدلول الزيارة مع تصريحاتها التي أدلت بها خلال حفل العشاء الذي جمعها مع رئيس كوريا الجنوبية قبل مُغادرتها بيوم، وذلك حين قالت بابتسامتها المعهودة أمام الخبز المُحمص التي تُفضله: «بصراحة، لم أكن أعلم أنني سأتي هنا. كنت أتخيل أنني سأكون غريبة هنا. لكنني وجدت الكثير من الأشياء المُشتركة».
وكان قد سبق هذه الزيارة بشهر واحد قرار من كوريا الشمالية بإعادة فتح خط ساخن للتواصل مع جارتها الجنوبية، بعد عامين تقريبًا من تعطيله بناءً على أوامر من الزعيم كيم جونغ أون. رسمت هذه الزيارة ملمحًا من هيئة السيدة القابضة على مفاتيح السياسة الخارجية لبلادها، والقادرة على إحداث تحوُّل نوعيّ في العلاقة المأزومة مع الجارة الجنوبية، والتي أشارت إلى هذا التحول في تصريحات منسوبة لها: «نأمل أن نتمكن من رؤية أناس طيبين من كوريا الجنوبية مرة أخرى في عاصمتنا، ونكون قريبين في مناقشة خططنا للمستقبل».
ولم تترك الشقيقة الصغرى مزارًا سياحيًّا أو مقصدًا دبلوماسيًّا خلال هذا الزيارة إلا وتركت رسالة تدعو فيها إلى المصالحة؛ وكأنها لا ترغب في الرحيل قبل تصفية كُل التوترات القائمة بين البلدين، حتى يتسنى لها الترتيب لزيارة شقيقها في مشهد يليق بصانعة الأحداث من وراء الستار. وقد تأكدت أهداف هذه الزيارة بعد زيارة شقيقها التاريخية في 27 أبريل كوريا الجنوبية، والتي رافقته خلالها، وحضرت بجواره كُل الاجتماعات الثنائية التي جمعته مع وفد كوريا الجنوبية، حتى الاجتماع الثنائي مع رئيس كوريا الجنوبية مون جاي إن.
حسب كيم مان هيم، رئيس أكاديمية الشباب والعلوم السياسية في كوريا الشمالية لصحيفة الإندبندنت البريطانية: «فكوريا الشمالية استخدمت (القوة الناعمة) هذه المرة في التنسيق مع الجنوب، وقد يكون الدفع بامرأة في هذه التفاهمات مرتبطًا بنفوذها الواسع بجانب كونها امرأة، وهي المسألة التي قد تكون ساهمت في تذليل أي معوقات لعملية الحوار بينهما».
وفقًا لتحليل منشور في«رويترز» فنتائج الزيارة للشقيقة الصغرى تمثّلت في أكثر من جانب، كان أبرزها إرجاء كوريا الجنوبية للمناورات السنوية مع القوات الأمريكية، التي تجري عادة بين فبراير ومارس (آذار)، حتى انتهاء دورة الألعاب الأولمبية في بيونجتشانج، بغية تمهيد الطريق أمام مشاركة كوريا الشمالية فيها.
تفعل كُل شيء.. مهامها في تسويق شقيقها جعلتها على قوائم الترقب الأمريكية
لا تنحصر مهام كيم عند منصبها السياسي داخل الحزب الحاكم، أو رسم خطط بلادها في الخارج والداخل؛ بل يُشار لها دومًا بأنها من تُدير كل المناسبات العامة التي يظهر فيها كيم جونغ أون، والزيارات الرسمية، وترتيب الأمور اللوجستية، بالإضافة لعملها مستشارة سياسية له.
الزعيم الكوري (يسار) وشقيقته (أقصى اليسار) خلال زيارتهما الأخيرة كوريا الجنوبيةويتمثَّل هذا الدور في رسم الهيئة التي يظهر عليها شقيقها في المناسبات العامة، وتدريبه على كيفية التقرب من الناس، وتوجيهه إلى زيارة بعض الأماكن العامة في محاولة لتصويره شخصيّة شعبيّة قريبة من عموم المواطنين، فضلًا عن كونها عضوًا مؤثرًا في الآلة الإعلامية بكوريا الشمالية، لإنتاج مواد دعائية لشقيقها والحزب الحاكم. ويصفها مايكل مادن، خبير كوريا الشمالية، لبي بي سي بأنها «رقيقة وسهلة المراس، مع وجود لمحة من الصرامة في شخصيتها».
تتجلى هذه المهام لكيم في تصميم قيود واسعة على حرية الإنترنت؛ إذ لا تمتلك كوريا الشمالية غير 28 موقعًا إلكترونيًّا فقط، أبرزها الموقع الرسمي للحكومة، وموقع وكالة الأنباء الرسمية، وموقع لحجز تذاكر الطيران، فضلًا عن أن استخدام الإنترنت ليس مسموحًا به إلا لصفوة النظام الحاكم، والمقربين من الزعيم.
هذه الأدوار المتعددة والمهام المتنوعة جعلتها في مرمى العقوبات الأمريكية؛ لتفرض عليها واشنطن، في يناير 2017، عقوبات تجعلها غير مسموح لها بالتبادل المالي أو العقاري بينها وبين أي مواطن أمريكي، وذلك على خلفية تورطها في إدارة دعاية إلى انتهاكات لحقوق الإنسان في كوريا الشمالية، كما أدرجتها الخارجية الأمريكية على قائمة سوداء تضم سبعة مسؤولين كوريين شماليين.
الحضور الواسع لكيم، الذي يعززه نفوذها داخل بلادها، جعل الكثيرين يتهمون قناة «سي إن إن» الأمريكية بالدعاية لصالحها، بعدما كتب أحد محرريها تقريرًا عنها بعد زيارتها لحضور الأولمبياد الشتوية؛ ما جعل عددًا من المسئولين يتهمون وسيلة الإعلام الأمريكية بالترويج لها.