لم يكن “كارل ماركس” الوحيدًا حينما آمن أن “الدين هو أفيون الشعوب”، بعدما ظن أن الدين والإله من صُنع الشعوب، هدفها الأساسي حماية الحكام والطبقة الغنية لأنفسهم من ثورة الفقراء عليهم، ووسيلة تساعدهم على إجبار الفقراء على تحمل أوضاعهم من أجل ألا ينتهي المطاف بهم في حالة مساوية للأغنياء، ولهذا وجد “ماركس” أن الحل للتخلص من قمع الرأسمالية هو التخلص من الدين من أجل المساواة بين الأغنياء والفقراء الذي أنتج في النهاية مفهوم الدولة الملحدة.

الدولة الملحدة ببساطة هي التي تتمركز حول التخلص من العبادات، والسيطرة على كل المؤسسات الدينية واستخدامها في نشر تعاليم تنافي الدين وتُنكر وجوده من الأساس، وهو ما دفع كل من كان جزءًا من تلك الدولة إلى التخلص من الملايين من المسيحيين بوسائل مختلفة من بينها القتل والنفي والاعتقال، أو القضاء على كل المؤسسات الدينية وهدمها أو تحويلها إلى منشآت تخدم غرض الإلحاد، كان أشهر الأمثلة على الدول الملحدة هو الاتحاد السوفيتي.

ولكن يُعد أقرب الأمثلة الحديثة للدولة الملحدة في عالمنا المعاصر الآن، هي دولة الصين، التي بدأت تتخللها الشيوعية منذ الستينات من القرن الماضي حينما بدأوا في حرق دور العبادة وإيذاء المؤمنين والتخلص من كل شيء له علاقة بالدين، لتكون الصين بذلك هي أكثر دولة في العالم تحتوي على ملحدين، حيث وصلت نسبتهم إلى حوالي 67٪ من سكان الصين، وهو ما يُقارب مليار شخص.

من بين كل عشرة أشخاص في الصين هناك 7 أشخاص ملحدين

امرأة صينية تركع أمام ضابط عسكري

تحتوي الصين على ضعف عدد الملحدين الموجودين في أي دولة في العالم، حيث يُصنف فيها 67٪ من المواطنين على أنهم ملحدين و 29٪ منهم يؤمنون بوجود إله ولا يؤمنون بالأديان السماوية، وبهذا يكون في الصين فقط حوالي 9٪ من المؤمنين بدين سماوي سواء كان الإسلام أو المسيحية بالإضافة إلى المؤمنين بالبوذية.

هناك أكثر من 21 مليون مسلم في الصين، وعلى الرغم من أن العدد يبدو ضخمًا بالنسبة لدولة ملحدة إلا أنه لا يُمثل سوى 1.6٪ من نسبة السكان في الصين، حيث يشكلون أقليات عرقية وسط شعب الهان. الأغلبية الصينية، من بينها أقلية الأويغور، والكازاك و أقليات عرقية أصولها من قرغستان والتي يسكن أغلبهم شمال غرب الصين في حين أنهم يعتبرون أنفسهم ينتمون أكثر من حيث الثقافة والعادات واللغة إلى شعوب أواسط آسيا أو إلى تركيا.

لم تترك الصين الأقليات المسلمة تمارس عبادتها في إطار ضمان الحرية الدينية، واستغلت كل الوسائل الممكنة لمحاربة الهوية الإسلامية التي تحاول تلك الأقليات العرقية التمسك بها، من أجل إعلاء الهوية الصينية على حساب أي هوية دينية طبقًا لمبادئ الحزب الأحمر، أو الحزب الشيوعي الحاكم في الصين، الذي يرفض الانتماء إلى أي دين سماوي أو الإيمان بإله، ويُعد كل من يؤمن بذلك في حاجة ماسة من قبل الحزب الحاكم أن يُعيد “تعليمه وتهذيبه” من خلال “معسكرات التهذيب” التي تستغلها الصين لغسيل أدمغة المؤمنين، وخاصة المسلمين.

الصين تجبر المسلمين على ما ليس لهم طاقة به

صورة لإحدى مسلمات الأويغور في الصين

ما الممكن أن تفعله دولة ملحدة بأقلية مسلمة؟، يُهدد وجود المسلمين ما تحاول أن تبنيه الصين منذ الستينات من القرن الماضي، وهو نموذج دولة الإله، الدولة الملحدة التي تحاول أن تُمحي فكرة الدين من مواطنيها وتضع نفسها محل الإله، ليترسخ في فكر المواطنين أن الدولة وحدها فقط القادرة على منح الثواب وفرض العقاب وأنها القادرة على مراقبة سلوك المواطنين وتقييمه بواسطة نموذج للتقييم الاجتماعي الذي ستفرضه الصين في عام 2020.

ولأجل هذا، قررت الصين أن تُجبر الأقلية المسلمة في شمال غرب الدولة على كل ما ليس لهم طاقة به، مثل بيع الكحوليات ولحم الخنزير، وتغيير أسماء أولادهم من الأسماء الإسلامية إلى الأسماء الصينية، ومنع ظهور كلمة “حلال” على مطاعمهم ومحلاتهم، ومحاولة قمعهم للحد من امتلاك أي شيء له علاقة بالدين، مثل إجبارهم على تسليم مصاحف القرآن الكريم التي يمتلكونها في بيوتهم، أو أية كتب دينية، وتنظيمهم لحملات تداهم البيوت في أوقات الإفطار أو السحور في شهر رمضان للتأكد من صيامهم من عدمه، إلا أن آخر ما أجبر عليه الأقليات المسلمة في الصين هو الزواج.

يوجد في الصين أكبر معتقل للمسلمين في العالم، جاء من هنا وصف الصين بـ “سجن المسلمين الأكبر”، وهو معتقل تصفه الصين بمعسكرات إعادة التعلم أو معسكرات التهذيب، تهدف فيه إلى اعتقال المسلمين، الأغلبية من الرجال، وتعذيبهم جسديًا ونفسيًا في سبيل اندماجهم مع مبادئ الشعب الصيني الشيوعية من أجل ترك الإيمان بالدين الإسلامي في سبيل الإيمان بالدولة الصينية.

من الصعب تخيل مقدار الضغط النفسي في المعتقل، حيث يُجبرونك على انتقاد نفسك ودينك وانتمائك العرقي

علي بيكالي، أحد المعتقلين في حديثه في تقرير “بيزنس إنسايدر

زواج في الصين بقرار حكومي

فيديو تداولته مواقع التواصل الاجتماعي لإجبار فتاة مسلمة من أقلية الأويغور في الصين للزواج من رجل صيني من شعب الهان

تعتقل الدولة الصينية الرجال في محاولة أخيرة لإجبارهم على ترك الدين الإسلامي، بينما تُجبر الفتيات المسلمات من الأقلية الإثنية الأويغور خارج المعتقل على الزواج من رجال من شعب “الهان”، الأغلبية من الشعب الصيني، من خلال عرض مكافآت مالية على الأهل لقبول عرض الزواج أو بواسطة تهديدهم بالاعتقال في حالة رفض عرض الزواج.

أعلنت الحكومة المحلية في إحدى بلدات إقليم شينجيانغ ذي الأغلبية الإيغورية المسلمة عن مكافأة قدرها عشرة آلاف يوان (1630 دولارا) سنويا، إضافة لامتيازات معيشية للمتزوجين الجدد، على أن يكون الزوج من شعب الهان وتكون زوجته من الأقليات الموجودة في شمال غرب الصين، وتحديدًا من الأقلية المسلمة الأويغور.

تعرض الحكومة الصينية ضمانات اجتماعية ومبالغ نقدية لكل من يقبل بتزويج ابنته المسلمة من أقلية الأويغور إلى رجل ملحد

وعلى الرغم من أن الصين تتخذ ستار “التهذيب والتعليم” خلف معتقلات المسلمين، وستار “وحدة الأقليات” وراء الزواج القسري للفتيات المسلمات إلا أن السبب الحقيقي وراء ذلك هو التخلص بشكل كامل من وجود المسلمين في نموذج دولة الإله في الصين.

انتشرت على مواقع التواصل الاجتماعي المختلفة العالمية منها والصينية موجة غضب كبيرة إثر نشر مقاطع مصورة من حفل زواج قسري لفتاة مسلمة من رجل صيني ملحد بعد تعرض أهلها للإغراءات المادية التي تضمن تكفل احتياجات الحياة من تأمين صحي وفرصة للحصول على منزل ووظيفة والإعفاء من الرسوم الدراسية حتى المرحلة الجامعية مقابل زواج ابنتهم قسريًا، واعتبر أغلب مستخدمي تلك المواقع أن ما يحدث في الصين حاليًا بمثابة تدخل الدولة في الشؤون الخاصة للمواطنين بالإجبار.

كان من النادر أن يحدث زواج بين شعب الهان وأقليات الأويغور، حيث تعيش الأقليات منذ القدم في الصين في محافظات وأقاليم خاصة بها يتحدثون لغات قريبة من لغات شعوب وسط آسيا ولهم عاداتهم وتقاليدهم الخاصة التي تختلف كثيرًا عن الأغلبية الصينية من شعب الهان، هذا النوع من الاختلاط القسري المفروض من قبل الحكومة جديد من نوعه على الجانبين ولا يبدو أنه سيهدف فقط إلى الوحدة بينهم كما تزعم الحكومة الصينية وإنما سيهدف إلى القضاء على واحدة من بينهم، ولا يبدو أنها ستكون أغلبية شعب الهان على الإطلاق.