القاهرة – تُثير الفتاوى ذات التوجهات الجنسية التي تنطلق كل فترة في المجتمعات العربية، حالة من الجدل، ما يعطي أصحابها مسوغات عدم التوقف عنها. فقد تحقق شهرة لمن يقدمون عليها، وتمنح البعض هالة تضفي عليهم حضورا مجتمعيا قد لا يتحقق بالفتاوى التقليدية.
هناك من يرى في تلك الفتاوى دليل انحراف في الخطاب الديني وتسطيحه وانشغاله بهوامش أو توافه الأمور، بينما يرى آخرون أنها نتاج طبيعي لشمولية الفكر الديني وهيمنته على الكثير من جوانب الحياة، وتغلغله في قاع المجتمع بصورة مثيرة، دون أن يجد الوعي الكافي لردعه.
أطلق دعاة في مصر مؤخرا، فتوى حول شرعية ممارسة الجنس مع الروبوت الجديد (صوفيا)، وانشغل الناس بها دون مناقشتها بالمنطق. وهي علامة من علامات فتاوى الجنس الدالة على عقول لا تُفكر سوى في إشباع شهواتها، ولا تنشغل إلا بالنصف السُفلي من المرأة. وبمجرد إطلاق هذه الفتوى وجدت تفاعلا من قبل البعض ليرددوها دون تفكير.
لا يتوقف رجال دين عن إثارة الجدل من حين إلى آخر عبر إطلاق فتاوى شاذة، تحمل احتقارا للمرأة، وتركيزا على الجنس، تجذب إليها شرائح مختلفة من المواطنين يتفاعلون معها، ما أساء لصورة الدين الإسلامي في ذهنية غير المسلمين، فإذا كان “شيوخ” المجتمعات التي تتبع هذا الدين هذا مستوى انشغالها وتفكيرها، فما بالنا بالفئات المهمشة أو البسيطة؟
وأصدر الشيخ حذيفة المسير، أحد علماء الأزهر في مصر، فتواه وذاعت على مواقع التواصل الاجتماعي، مؤكدا أن ممارسة الجنس مع الروبوت صوفيا “ليس زنى لأنه آلة حديدية”.
لم يمض وقت على نشر الفتوى، حتى ردت فرق أخرى من العلماء، بعضها رافض، والبعض الآخر مستخف بالحديث في هذا الشأن. وقامت اللجنة الدينية في البرلمان المصري بالتوصية بمنع إطلاق أي فتوى بعيدا عن معهد البحوث الإسلامية بالأزهر أو دار الإفتاء.
سطحية الخطاب
استخدم باحثون وعلماء اجتماع هذه الفتوى، كعلامة على انحطاط مستوى رؤى عدد من رجال الدين وانخفاض مستوى أفكارهم وانشغالهم بالصغائر والشهوات، وأرجعوا فتاوى الجنس إلى اتساع قواعد الفكر السلفي وسيطرته على قواعد عديدة في المجتمع.
تساءل هؤلاء عن السبب الذي يدفع الكثير من المجتمعات العربية إلى تجاهل بحث أسباب اختراع روبوتات عربية والتفكير في حكم الدين في ممارسة الجنس مع “صوفيا”.
يوحي الأمر بفجوة كبيرة بين ثقافتين. إحداهما تنتصر للعلم وتحتفي برجاله وإبداعاتهم. والأخرى ثقافة استهلاكية لا تلتفت إلى المنجزات الحديثة وتدور في فلك المُتع الحسية.
ويرى خبراء اجتماع أن طغيان الفكر المرتكز على تصورات بدائية، يقود إلى شيوع التعامل مع المرأة باعتبارها وسيلة للمتعة، دون اعتبار كبير لآدميتها وقدرتها على تحقيق منجزات تفوق الكثير من الرجال، ومن الواجب تجاوز التسطيح والعمل على بناء مجتمع يتجاوز سيطرة الشيوخ على عقول أبنائه.
ويرجع جانب من المشكلة إلى الصخب الإعلامي السائد الذي يتتبع أخبار الإثارة ويُغذيها بحثاً عن مشاهدات أكبر وضجيج مفتعل، ما يوحي بالأهمية والقداسة التي تغلف بها هذه النوعية من الفتاوى.
يؤكد محمد عبدالمُعطي، الباحث بالمركز القومي للبحوث الاجتماعية في القاهرة، أن هناك ازدواجية واضحة في المجتمعات العربية، تتمثل في التظاهر بالتدين الشديد، في الوقت الذي تنشغل فيه الأدمغة بقضايا الجنس بشكل مُتسع. ويقول لـ”العرب”، “اعتاد الناس تحويل الكثير من الأمور لخدمة الجنس، ذلك التابوه الموصد، لذا فإن هناك من يستغل فكرة الفتاوى، أي سؤال علماء الدين، لفتح محاورات حول الجنس بمختلف صوره، فقد يكون المدخل ساذجا، لكنه يقود في النهاية لمناقشة أمور مثيرة”.والمشكلة ليست في تصورات السائلين وطلاب الفتاوى، بقدر ما هي في عقليات رجال الدين المسؤولين عن الإجابة، ويجد بعضهم متعة في التطرق لمثل هذه القضايا.
ويرد البعض، بأن الإسلام دين شمولي يدخل في جميع مناحي الحياة، ورجل الدين متى سئل عليه الإجابة، بغض النظر عن نوعية السؤال، غير أن عبدالمعطي يؤكد “رجال الدين منوط بهم مواجهة الهوس الجنسي في المجتمع لا دعمه”.
ويشير إلى أنه ينبغي على جهات الإفتاء في العالم العربي ألا تخوض في مستنقع هذا الهوى بذريعة أن مهمتها الإجابة عن أسئلة الناس، مهما كانت.
ويعتقد أن السؤال والجواب لا يُمكن أن يمثلا منفعة لأحد، بل هما كلام في معظمه شاذ وغريب وجارح للذوق العام ويثير استهجانا لدى فئات أخرى في المجتمع.
لم تكن فتوى ممارسة الجنس مع الروبوت الوحيدة محل لغط وجدل مُجتمعي، فالساحة الدينية في الدول العربية تشهد منذ أعوام عدة أزمات شبيهة نتيجة فتاوى غريبة وشاذة، قد تصيب المجتمع بالحيرة وربما فقدان الاتزان.
في المغرب مثلا، أصدر عبدالله الزمزمي رئيس الجمعية المغربية للدراسات والبحوث فتوى تُجيز ممارسة الزوج للجنس مع زوجته فور وفاتها بما يعرف بمضاجعة الوداع.
وانتقلت الفتوى إلى ساحات مواقع التواصل الاجتماعي بعد سؤال وجهه أحد الإعلاميين إلى الدكتور صبري عبدالرؤوف، أستاذ الفقه المقارن بكلية الدراسات الإسلامية بجامعة الأزهر عن رأيه في ذلك، فأجاب بأن ذلك حلال، غير أن النفس البشرية تعافه.
كما أطلت سعاد صالح، أستاذة الفقه بجامعة الأزهر، عبر إحدى الفضائيات لترُد على فتوى مضاجعة الوداع، مؤكدة حرمة ذلك استناداً إلى أن علاقة الزواج تنتهي تماما بمجرد الوفاة، غير أنها زادت “الطين بلة”، عندما أكدت “بعض الفقهاء أجازوا للإنسان معاشرة البهيمة باعتبار أنه لا تكليف عليها”.
وحاول الأزهر التبرؤ من الاثنين (صبري عبدالرؤوف وسعاد صالح) بإحالتهما إلى التحقيق ومنعهما من الإفتاء والظهور في الفضائيات، غير أنهما لم يلبثا أن عادا مرة أخرى بعد حفظ التحقيق، ما يشي بعدم الجدية أو الاقتناع بفكرة معاقبة هؤلاء، وأن الخوض في هذه القضايا لن يجد حظرا قطعيا من قبل من بيدهم الأمر والنهي الديني، بالتالي فالمجتمع سوف يظل يتلقى فتاوى شاذة لأجل غير مسمى.
وقد استحوذ ياسر بُرهامي، نائب رئيس الدعوة السلفية في مصر، على جانب كبير من الفتاوى الشاذة، فله مثلا فتوى تمنح الرجل حق تأديب زوجته إن تدخلت في قيامه بتناول الفياغرا أو غيرها من المنشطات ليصبح قادرا على الممارسة الجنسية، وله فتوى أخرى تؤكد أنه ليس من حق الزوجة الامتناع عن فراش زوجها لأن حالتها المزاجية لا تسمح بذلك، وقال يجوز للرجل أن يترك زوجته تُغتصب حال تعرضهما لهجوم مسلح في إطار اختياره لأقل الضررين.
ازدواجية هدامة
يثير طغيان الجنس على أدمغة علماء الدين، الضحك والبكاء في وقت واحد في رأي الأديب والباحث مصطفي بيومي، الذي يؤكد أنه يعبر عن ازدواجية سائدة في المجتمعات العربية مُنذ القدم، تتمثل في ادعاء التدين والانشغال بالجنس.
ويوضح بيومي، لـ”العرب”، أن ثورة الاتصالات وتطور التكنولوجيا وميلاد العوالم الافتراضية من العوامل التي ساهمت في خروج تلك الازدواجية إلى العلن، لافتا إلى أن قراءة الواقع الاجتماعي العربي من خلال روايات بعض الأدباء العرب تؤكد هذه الازدواجية وتعتبرها قرينة بالعقل العربي.
في رأي مصطفي بيومي، ظهور الفضائيات واهتمامها بالإثارة واحتساب أرباحها بناء على عدد المشاهدات أدى إلى ظهور فئة جديدة من الدُعاة ورجال الدين الباحثين عن الأضواء الذين يركزون على جذب الناس والجمهور بأي شكل حتى لو كان شاذا.
ونستمع كل يوم لفتاوى تتمحور جميعاً حول الجنس ولا نستمع لفتاوى تحض المجتمع على احترام العمل والنظام والتفوق وأداء الأمانات وكفالة اليتيم ومساعدة الفقراء ونصرة المظلوم.
ما يقوله بيومي يمكن مراجعته باستعراض أسماء علماء الدين الأكثر ظهوراً عبر الفضائيات لنكتشف بالفعل أن هناك مجموعة محددة من الشيوخ تحتكر الإطلال الإعلامي، وهي الأكثر إثارة للفتاوى الجنسية الشاذة. ويُمكن التأريخ لانتشار الفتاوى الشاذة والغريبة بالفعل استنادا إلى ميلاد الفضائيات العربية وتوسعها بعد بداية الألفية الثالثة. ففي تلك الأثناء سمع العامة لأول مرة فتوى إرضاع الكبير حين أفتى الشيخ عزت عطية رئيس قسم الحديث في كلية أصول الدين بجامعة الأزهر، بأنه “يجوز للمرأة إرضاع زميلها الرجل في مكان العمل”، لمنع أن تقع خلوتهم بالعمل في إثم، على أن توثق رسمياً أسماء من أرضعتهم من ثدييها. وقال إن بعض السلف الصالح كان يقوم بذلك.
ويرفض إعلاميون تحميلهم مسؤولية نشر وذيوع الفتاوى الجنسية المثيرة. ويقول أيسر الحامدي، إعلامي مصري، لـ”العرب”، “رد الأمر كله إلى الإعلام فيه غبن شديد، حتى لو كان البحث عن الإثارة سمة غالبة، فهناك بالفعل قضية والانحطاط حقيقي وواضح في عموم الخطاب الديني”.
ويشير إلى أن بعض رجال الدين، يطلقون كلامهم عبر دروس دينية يحتشد فيها الناس، ويُمكن نشر كلامهم عبر مواقع التواصل الاجتماعي، سواء أذيع ذلك في الإعلام أم لا.
ويرى الحامدي، الذي يُعد ويقدم برنامجا أسبوعيا على قناة الحدث، أن تبني الكثير من الدول العربية والإسلامية مبادرات عديدة لتجديد وتصحيح الخطاب الديني، يؤكد أن الأزمة في الخطاب الديني نفسه وتقبل المجتمع له وليس في الإعلام.
ويقول هاني صبري، أستاذ علم الاجتماع بجامعة قناة السويس (شرق القاهرة)، المجتمع الشرقي بشكل عام يعاني من أزمة حقيقية في الثقافة الجنسية، ومن الضروري التعامل معها بحسبانها مثل جزء أساسي في حياة الناس، ويجب التعريف بها مجتمعيا منذ الصغر، لأن الجهل يقود إلى هذا الخلط، وسرعة تقبل الكثيرين لهذه الفتاوى على أنها مقدسة.
ويؤكد لـ”العرب”، أن عدم وجود قواعد واضحة لنشر الثقافة الجنسية السليمة في المجتمع أدى إلى تحول الجنس إلى هاجس دائم، فاعتبره البعض محركا لكل فعل، وصيغت عنه أفكار عديدة ومغلوطة”.
وقدّم هاني صبري عدة دراسات إلى هيئات ومراكز أبحاث حول أزمة الثقافة الجنسية في المجتمعات العربية، توضح الكثير من جوانب الخلل المجتمعي وطرق العلاج.
ويلفت الانتباه إلى أن هناك هوسا جنسيا واضحا، وليس أدلّ على ذلك من انتشار ظاهرة التحرش الجنسي واتساع متابعة المواقع الإباحية، فضلا عن حدوث جرائم جنسية لم تكن معتادة في بلادنا العربية، مضيفا “نشر الثقافة الجنسية بشكل علمي كفيل بعلاج ذلك الخلل، لأن المجتمعات تحتاج إلى وعي جمعي يُعيد تقدير الجنس كجانب حياتي طبيعي.
ويشير إلى ضرورة أن يتم ذلك وفق منظومة متكاملة تدعو إلى احترام المرأة والتعامل معها باعتبارها نصف المجتمع وربما أساسه وإعادة الاعتبار لدورها في الحياة.