العرب اللندنية :
مسجد عمرو بن العاص في القاهرة.. جامع لأطياف إسلامية متصارعة
قيمة مسجد عمرو بن العاص، أقدم مساجد القاهرة، لم تعد تكمن في كونه ملاذا يسعى إليه عشرات الآلاف كل ليلة في رمضان لأداء صلوات العشاء والتراويح، لكنه تحول إلى مركز يجمع كل الأطياف الإسلامية، التي يتصارع كل منها على فرض سيطرته على المسجد والعاملين فيه، مما يؤكد على أن هذا المعلم الديني ليس مجرد مكان للعبادة بل يمكن القول بأنه، وبالإضافة إلى قيمته التاريخية، فضاء سياسي تتصارع فيه حساسيات إسلامية بمنطق التعبئة والاستقطاب.
القاهرة – طالب سلفيون في مصر منذ أيام قليلة، بمنع الشيخ عبدالله عزب، أحد علماء الأزهر، ودائم الإمامة في صلاة التراويح بمسجد عمرو بن العاص بالقاهرة، من إلقاء الدروس والتخلي عن إمامة المسجد في رمضان لإمامته المصلين من قبل في مسجد السيدة زينب، الأمر الذي انتهى باعتذار عزب عن إمامة مسجد عمرو.
ويزعم السلفيون أن الصلاة في مساجد تضم أضرحة لأولياء صالحين شرك بالله، ولا تجوز الصلاة فيه، ويقولون إن ذلك يساهم في نشر البدع والضلالات.
وعبّر رواد على مواقع التواصل عن غضبهم وحنقهم على الشيخ عزب، من خلال صفحة المسجد على فيسبوك، ووصل الأمر إلى مطالبة البعض له بالتوبة وإنكار الشرك المتمثل في الصلاة في مسجد يضم قبرا يتبرك الناس بصاحبته.
في الوقت ذاته دعا بعض رواد المسجد إلى إنهاء هيمنة السلفيين على المسجد ووقف تدخلهم في أي أمور تتعلق بكيفية إدارته.
وكشفت الأزمة الأخيرة عن صراع خفي بين أطياف مختلفة تسعى للسيطرة على المسجد العريق وفرض أفكارها على مريديه. السلفيون يسعون دائما لفرض سطوتهم المتشددة على المسجد. والمتصوفون يرون في المسجد بركة ربانية. وقبلهما كانت جماعة الإخوان التي اجتاحت المساجد الكبرى بحثا عن استقطاب المصلين والترويج لنفسها سياسيا.
وقال محمد أرنب، عضو مجلس إدارة المسجد لـ”العرب” إن المسجد “من أحب المساجد إلى قلوب المصريين”، وهو الوحيد القادر على جمع أطياف المسلمين، وإدارته ترفض وصاية أي فئة أو تيار عليه.
ويشير عضو مجلس الإدارة، إلى أن المسجد كان ضمن المساجد التي أحكم الإخوان السيطرة عليها بعد ثورة 25 يناير عام 2011، غير أن قرارات الرقابة والضبط من جانب وزارة الأوقاف ساهمت في تفكيك تلك السيطرة بعد إسقاط نظام حكم محمد مرسي.
ويضيف، الناس لن تقبل سيطرة أي طرف آخر عليه، لأن المسجد يشهد حضورا لجميع فئات المجتمع، ويبدو التعدد والتنوع واضحين بين سلفيين وصوفيين ورجال شرطة وعامة.
من أبرز الصراعات على المسجد بين التيارات المختلفة، أزمة القارئ محمد جبريل، قبل ثلاث سنوات عندما دعا في صلاة الليل ضد ما أسماه “أعوان الظلمة” وهو وجه إخواني ضد السلطة الحاكمة. وخرجت وقتها دعوات بمنعه ومعاقبته. وشغلت القضية الرأي العام بين مؤيد ومعارض، وانتهي الأمر بمغادرة جبريل المسجد، بعد أن استمر نحو عشر سنوات إماما له.
تبدو سيطرة أي طيف ديني على المسجد مرفوضة بين المصلين الذين يعتبرونه مركزا لتعدد الرؤى والتيارات، بعد أن جمع بين الموقع الذي يتوسط قلب القاهرة والصفاء الروحي بحكم قيمته النابعة من صحابي شهير، والترتيل الحسن والبراءة من الشبهات بعدم وجود أضرحة داخله.
كانت البساطة والتيسير من العوامل الجاذبة للناس. ويقول محمد حمدالله، أحد المصلين لـ”العرب”، “هناك مساجد قليلة تزيد عدد ركعات صلاة التراويح فيها عن عشرين ركعة، وهو ما لا نتحمله، واختيار إدارة المسجد لأفضل قراء القرآن لإمامة المصلين في صلاة التراويح يمثل عنصر جذب، فضلا عن الاتساع الكبير للمسجد وحُسن تهويته”.
يجذب مسجد عمرو بن العاص عددا كبيرا من المُصلين في صلاة التراويح، والتي يعتبرها المصريون طقسا أساسيا من طقوس رمضان. ووقع اختيار المسلمين على مكان مسجد عمرو منذ المئات من السنين، بعد أن رأوا في المسجد روحانية تختلف عن جوامع أخرى.
وبات المسجد مع مرور الزمن ملاذا يجمع الناس، ويمتلئ صحنه والشوارع المحيطة به بآلاف المصلين. ويفسر العامة الزحام الشديد في رمضان باعتباره يحمل نفحة خاصة في قلوب مريديه، لا تمتلكها مساجد أخرى في القاهرة.
ويتسع المسجد لنحو خمسين ألف شخص، ويرتفع العدد إلى الضعف في الليالي العشر الأخيرة من شهر رمضان، غير أن البعض يشير إلى أن أعداد المصلين تصل إلى رُبع مليون مصل في ليلة السابع والعشرين من رمضان.
وينفرد مسجد عمرو، بعدة سمات تجعله الأكثر تميزا بين مساجد مصر. تقترب مساحته من 14 ألف متر. وهو من أكبر وأشهر مساجد القاهرة، مثله مثل جامع الأزهر (12 ألف متر) ومسجد الحسين (13 ألف متر) والسيدة زينب (7 آلاف متر).
والمسجد أقدم موضع لصلاة جامعة في القاهرة، ويعود تاريخ بنائه إلى 6 محرم سنة 21 هجرية، حين قام عمرو بن العاص بتأسيس مدينة الفسطاط، عقب الفتح الإسلامي لمصر.
لا تكمن قيمة المسجد في قلوب مريديه كونه أقدم المساجد فقط، لكن روحانيته شكلت باعثا كبيرا للمصليين الذين رأوا فيه بركة، باعتباره أول بقعة في مصر شهدت صلاة المسلمين فيها.
ويرى الأقباط أن المكان مقدس، لأنه يضم على بعد أقل من نصف كيلومتر أهم كنائس مصر. وهي الكنيسة المعلقة التي تعد أقدم كنائس القاهرة وبُنيت في مكان احتمت فيه السيدة مريم والمسيح خلال رحلتهما إلى مصر. ويخلو المسجد، على غير المعتاد في معظم مساجد القاهرة التاريخية، من وجود أضرحة لرجال أو نساء صالحين، ما جعله مكانا جاذبا للسلفيين ومعقلا لهم، خاصة في أوقات رمضان.
وتحدثت بعض كُتب التاريخ والسير عن تفوق علماء من خلال عملهم كأئمة لمسجد عمرو، مثل الليث بن سعد، والإمام الشافعي.
شيّد عمرو بن العاص مسجده على مساحة صغيرة لا تتجاوز سبعمئة متر، وأقام له ستة أبواب، منها بابان يطلان على دار الإمارة التي كان يقطنها. واستعان عمرو بالطوب اللبن لبناء الجدران، وسعف النخيل لسقفها، وحفر بئرا لتوفير الماء لوضوء المصلين.
وجرى أول هدم للمسجد في عهد مسلمة بن مخلد، والي مصر من قبل الخليفة معاوية بن أبي سفيان، وأعاد بناءه ليزيد مساحته ويُنشئ له أربع مآذن عالية.
وكتب الخليفة الأموي الوليد بن عبدالملك، إلى واليه على أهل مصر، قرة بن شريك العبسي، ليُعيد بناء مسجد عمرو مرة أخرى، فهدمه وأعاد البناء من جديد، وزوَّقه، وذهَّب رؤوس الأعمدة فيه.
وهُدم المسجد تماما خلال حريق الفسطاط الكبير سنة 564 هجرية، عندما قام الأمير شاور بإحراق الفسطاط خوفا من احتلال الصليبيين لها، وأعاد صلاح الدين الأيوبي بعد ذلك بناء المسجد قبل أن يتهدم مرة أخرى في زلزال وقع سنة 704 هجرية. وتعرضت بعض جدران المسجد للانهيار، بعد زلزال ضرب القاهرة سنة 1992 وتم إعادة بنائها بمعرفة هيئة الآثار.
يشير مختار الكسباني، أستاذ الآثار الإسلامية بجامعة القاهرة، إلى أن المسجد تعرض لعمليات ترميم وإعادة بناء عديدة، مع ذلك هناك قيمة أثرية في بعض الأجزاء التي تعود إلى عصر مراد بك، مثل المحراب الباقي. فضلا عن اكتشافات تم التوصل إليها من خلال عمليات حفر حول الشبابيك القديمة، تعود إلى العصر الفاطمي قبل أكثر من ألف عام.
ويوجد منبران خشبيان، أحدهما لا يستخدم حفاظا على تاريخه، والآخر تمت صناعته حديثا ويستخدم خلال صلاة الجمعة. وفي الرواق الأيمن يتفرد عمودان بكتابات ونقوش يتصور بعض المصلين أنها ترجع إلى زمن عمرو بن العاص، غير أن الثابت أنها ترجع إلى زمن ترميم مراد بك.
ويسود اعتقاد أن هذين العمودين كان يجلس بينهما عمرو بن العاص، والي مصر، للحكم بين المتنازعين، ويعمد البعض تقبيلهما، ما يثير حفيظة المصلين من السلفيين، ويؤدي إلى خلافات واضحة لا تُحل إلا بتدخل إمام المسجد.