القاهرة، التي شهدت إبان المجد الناصري، صعود كل حركات المقاومة، عربية وإفريقية، وكانت المنطلق لثورات ملهمة، بحجم الثورة الجزائرية، وميلاد منظمة فتح، تسقط الآن في فخ الاستسلام للصهيونية، وتجري على ضفاف نيلها – المهدد بالجفاف – احتفالية بذكرى النكبة، أعلنت سفارة العدو الصهيوني، لدى نظام كامب ديفيد الحاكم إقامتها، في أكبر بلد عربي، وفي قلبها تمامًا، كرسالة يتفنن الصهاينة في تمريرها.
الصورة أوقح من كل كلمات الوصف، عصية على التطويع في جمل مفيدة، لا تتسق مع ماضي بهي، حملت مصر فيه شعلة المقاومة، وكانت الواحة وارفة الظلال لكل ثائر، مهما كانت جنسيته، وكلها جرت في مرحلة سابقة، ربما لم تمر إلا لكي يكون السقوط بكل هذا العنف، والمفارقات بكل هذه المأساوية.
في ميدان التحرير، حيث ولدت الثورة المصرية، في يناير 2011، وعلى مقربة من تمثال الشهيد المصري الأعظم، الفريق عبد المنعم رياض، بطل العسكرية المصرية، الذي خلط الواجب بالشهادة، والعمل بالفداء، ليستحق مكانه في صفحات الوطن، والمشهد كله يطل على النيل، وفي فندق “حكومي”، افتتحه الزعيم الراحل جمال عبد الناصر، وشهد آخر اجتماعات القمة العربية في عهده، لوقف مذابح أيلول الأسود، وتديره الآن شركة أمريكية، وبالقرب من المتحف المصري، حيث ترقد مومياوات الملوك العظام، اختار الكيان الصهيوني أن يحتفل في مكان حافل بالدلالات، وكأن لسان حالهم يقول: “انتصرنا عليكم”.
الميدان الذي يحتضن مكان الاحتفالية المزعومة، يصفع في عنف، كل آمال التحول التي رفعتها ثورة يناير، وفي مقدمتها مخاصمة التبعية للولايات المتحدة والكيان الصهيوني، وأعلنت عن نفسها بجلاء في مشهد اقتحام سفارة العدو الصهيوني، وإلقاء ممتلكاتها في الشارع، خلال أحداث جمعة تصحيح المسار، في سبتمبر 2011، الرد الأوفى من الثوار على منهج المجلس العسكري -الحاكم وقتها- والانتهازية المقيتة للأحزاب المرتهنة للخارج.
الصفعة الصهيونية موجهة لجيل كامل، جيل شاب ولد في ماضِ مجمد، بحث عن أبعد ما تراه العيون، أراد تحويل أحلامه -بقدرة الفعل- إلى واقع معاش، متكئًا على إرادته وفكره ورؤيته، مستعينًا بأيدي أبناء جيله، في يد واحدة ترتقي بالأمّة، يواجه اليوم أقسى هزائمه، على يد النظام الذي قامت عليه الثورة.
النظام سيمرر الفضيحة، وسيتناساها من يتناساها، لكن الشرخ أعمق من المداواة هذه المرة، فالنكبة ليست محلًا لخلاف، والعداء مع الصهاينة لن يكون في يوم مجالًا للمناقشة، فالشعب المصري، بلا مواربة، أعلنها سابقًا مرات ومرات، العدو الدائم هو الكيان، وكل من يواليه عدو.
حقق الكيان الصهيوني نصره الحقيقي يوم أن سلخ السادات مصر من الجسد العربي، ففقد العرب القلب، وفقدت مصر الهواء، ومرت بحالة اختناق، معزولة وراء صحارى شاسعة، تفصلها عن التفاعلات العربية، وتلقي بها وحيدة أمام ضباع يتحينون الفرص للانفراد بالدول العربية، واحدة وراء الأخرى.
ومنذ خطوات السادات إلى القدس، رفعت أنظمة كامب ديفيد، شعار التبعية للعدو الأول، من أول موقع المعاهدة، مرورًا بمبارك، وحتى السيسي، المعجب المخلص لمنهج أستاذه السادات، السائر على خطواته حرفيًا، الطامع لتطوير السلام البارد إلى دافئ، مع العدو الصهيوني، في نسق فاجر لتحديه الأماني الشعبية، والوجدان المصري المحمل بالمذابح والدم والآلم.
مصطفى الفقي، سكرتير مبارك السابق، والمعين حديثًا كرئيس لمجلس أمناء مكتبة الإسكندرية، أعلن في نهايات عصر مبارك، خلال مقال شهير، أن الرئيس القادم لمصر لا بد ويحظى بموافقة أمريكية – صهيونية، ما دفع العديد من القامات الوطنية، وعلى رأسهم الأستاذ الراحل محمد حسنين هيكل، إلى الرد على الهوان الذي دعا له “الفقي”، لكن يبدو أنه كان الأكثر علمًا ومعرفة بما يدور في الكواليس، فشهدنا من يخاصم الشعور المصري لصالح الرضا الصهيوني، ويعطي العدو أكثر ما حلم به في يوم.
مصر مقبلة على صيف ساخن، كل التطورات، سواء اقتصاديًا أو سياسيًا، تدفع باتجاه الانفجار، وهو انفجار واقع حتمًا، لن تنفع معه هذه المرة التخويفات على مؤسسات الدولة، التي سقطت هي الأخرى كلها من الوجدان، بفعل تآمر جرى على الوطن وأهله، وصفقات حرام لبيع الأرض المصرية، تمت أمام عيونهم.