"يابنى كونا للظالم خصما و للمظلوم عونا"..الإمام علي (عليه السلام)

لا يجتمع في جزيرة العرب دينان..وإشكالية الفهم

عبد الحكيم الصادق الفيتوري  

لقد بدأت سلسلة مراجعة إشكاليات الفهم والدعوة إلى إعادة عمليات الفرز والتصنيف مما يحسب أنه من المسلمات ،وكان بداية ذلك بمقال تناولت فيه ضرورة التمييز بين(إسلام النص وإسلام التاريخ)،وفك الاشتباك بين حدود اللازم والمباح،وفك الارتباط بين(الشكل والمضمون)،ثم أردفت ذلك بمقالات حول السنة النبوية وإشكالية الفهم،حيث قسمت فيها السنة إلى سنة(تشريعية) و(قيادية)و(جبلية) وأشرت إلى ضوابط كل قسم،ثم نوهت إلى أثر بعدي الزمان والمكان على السنة (القيادية والجبلية)دون التشريعية،وضربت لذلك مثالا بحديث(أنا برئ من كل مسلم يقيم بين ظهراني المشركين)وحديث(من بدل دينه فاقتلوه)وبينت أن حد الردة تعزيري وليس حدي.

وفي هذا المقال نأخذ نموذجا آخرا وهو قوله صلى الله عليه وسلم:(أخرجوا المشركين من جزيرة العرب).(متفق عليه)

وقد جاء هذا الحديث بصياغات كثيرة منها(لا يترك بجزيرة العرب دينان).(أحمد)(لا يجتمع دينان في جزيزة العرب)(مالك)،حيث أدرج هذا الحديث في التاريخ ضمن دائرة اللازم من الشرع (أي السنة التشريعية) ثم بنى عليه من القواعد والفتاوى التي تفيد وجوب إخراج غير المسلمين من جزيرة العرب،وحرمة سكناها والتملك فيها !! واحسب أن عملية تمييز هذا الحديث وأضرابه وإعادة تصنيفه من خلال دائرة اللازم والمباح ،ودائرة السنة بأقسامها ؛التشريعية والقيادية والجبلية ،وفق رؤية قرآنية مقاصدية أمر ليس بالهين ،ولكن وفاء للحبيب –فداه ابي وأمي- وخدمة لسنته،وتكملة لجهود الأولين. 

ولعل من المناسب أن نتناول محاولة فهم هذا الحديث من خلال نقاط رئيسة ،منها :ترسيم حدود الجزيرة العربية(البعد المكاني)،ومتى قال ذلك صلى الله عليه وسلم (البعد الزماني)،وعلاقة نص الحديث بالرؤية المقاصدية  القرآنية ،وموقعه من أقسام السنة(التشريعية،القيادية،الجبلية). 

النقطة الأولى: حدود الجزيرة العربية:

لا يخفى أن حدود جزيرة العرب كانت معروفة عند العرب قديما ،لذلك لم يأت ذكر حدودها في ألفاط الحديث ،إلا أن العلماء بعد ذلك رسموا معالمها وحددوا حدودها ،كما قال الأصمعي:

( جزيرة العرب من أقصى عدن أبين إلى ريف العراق في الطول ، وأما العرض فمن جده وما والاها من ساحل البحر إلى أطراف الشام).

وقال الخليل :(إنما قيل لها جزيرة ؛لآن بحر الحبش وبحر فارس والفرات قد أحاطت بها،ونسبت إلى العرب ،لأنها أرضها ومسكنها ومعدنها).وعرفها ابن تيمية :(جزيرة العرب التي هي من بحر القلزم إلى بحر البصرة، ومن أقصى اليمامة إلى أوائل الشام بحيث كانت تدخل اليمن في دارهم ولا تدخل فيها الشام ، وفي هذه الأرض كانت العرب حين البعث وقبله ). 

النقطة الثانية: متى قال ذلك ؟

يعتبر هذا الحديث من أخر ما تكلم به رسول الله في حياته،حيث أنه قال ذلك وهو في حالة مرضه الآخير –فداه أبي وأمي- كما قال البخاري عن ابن عباس أنه قال:(اشتد برسول الله صلى الله عليه وسلم وجعه يوم الخميس فقال:ائتوني بكتاب أكتب لكم كتابا لن تضلوا بعده أبدا. فتنازعوا ، ولا ينبغي عند نبي تنازع. فقالوا: هجر رسول الله صلى الله عليه وسلم .قال:دعوني ،فالذي أنا فيه خير مما تدعوني إليه قال.وأوصى عند موته بثلاث:أخرجوا المشركين من جزيرة العرب ، وأجيروا الوفد بنحو ما كنت أجيزهم ، ونسيت الثالثة).(البخاري) 

وثمة إشكال في متن هذا الحديث،مفاده:أنه صلى الله عليه وسلم قال(ائتوني بكتاب أكتب لكم كتابا لن تضلوا بعده أبدا)أي طلب أن يوصى لهم بشيء،ثم تنازع القوم بحضرته،ولا ينبغي لهم ذلك ،فقال لهم(دعوني فالذي أنا فيه خير مما تدعوني إليه)أي فامتنع عن الوصية قولا واحدا ،ولكن جاء في عجز الحديث أنه أوصى(وأوصى عند موته بثلاث:أخرجوا المشركين من جزيرة العرب،وأجيروا الوفد بنحو ما كنت أجيزهم ، ونسيت الثالثة)!!  

النقطة الثالثة: علاقة النص بالرؤية القرآنية المقاصدية:

نزل القرآن الكريم  للناس كافة ،حيث أمر رسول الله بإبلاغه كما أنزل (بلغ ما أنزل إليك من ربك)،فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر ،ولا إكراه في الدين ،ثم كانت آية الجزية التي تعطي الحق للذين لا يؤمنوا بالإسلام البقاء على دينيهم ، وفي أرضهم ، ودورهم ، أما المناويئن للإسلام فقد كان بينهم وبين القوى المسلمة حروب متنوعة أسفرت على إبرام معاهدات وتوقيع اتفاقات صلح حتى صارت سمة الوفاء في ذلك من علامات التقوى(فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم،إن الله يحب المتقين) ،أما الذين نكثوا العهود ، وألبوا الخصوم فقد أوذنوا بكل ما يقيم أيمان العباد ووحدة البلاد(وإن نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم وطعنوا في دينكم فقاتلوا أئمة الكفر إنهم لا أيمان لهم لعلهم ينتهون )!!  

وبهذه الرؤية القرآنية المقاصدية والأهداف السماوية الخاتمة التي لم تفرق بين الناس ،ولم تأمر بأخراجهم من ديارهم ما لم ينكثوا عهدا ،أو يمارسوا مكرا معنويا أو حسيا كـ(الذين عاهدت منهم ثم ينقضون عهدهم في كل مرة وهم لا يتقون).والتي فتحت مجالات التعايش والمخالطة تمهيدا لمراحل الحوار والتفاهم بالتي هي أحسن ؛كإباحة أكل طعام الذين أوتوا الكتاب،وحل مصاهرتهم(اليوم أحل لكم الطيبات،وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم،وطعامكم حل لهم،والمحصنات من المؤمنات،والمحصنات من الين أوتوا الكتاب من قبلكم)(ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن..)(قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ..)(لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم ، إن الله يجب المقسطين)وغير ذلك من الكليات القرآنية الاستقرائية الحاثة على الدعوة والحوار والمخالطة والبر والقسط والتي تنافي في مجلمها ما ورد في متن حديث الباب الآمر بالتهجير والإخراج من الأوطان !! 

النقطة الرابعة: سيرة النبي مع كفار الجزيرة :

لا يخفى على أحد أنه صلى الله عليه وسلم قد وقّع حال وصوله إلى المدينة المنورة عاصمة الدولة الإسلامية الأولى ميثاقا بينه وبين يهود المدينة ، ينص على ضرورة التعايش والتفاهم ،ويحدد المهام والحقوق والواجبات في حالات السلم والحرب.ثم كان من بعض يهود المدينة الخيانة والغدر ونقض العهد والميثاق ، فأجلى منهم بني النضير وأقر قريظة ومّن عليهم حتى حاربت وخانت العهد فأجلاهم كذلك. ويوم خيبر سأله يهود خيبر أن يقرهم بها على أن يكفوا العمل ولهم نصف الثمر، فقال(أقركم على ذلك ما شئنا).وبقوا على أرضهم حتى انتقل صلى الله عليه وسلم–فداه أبي وأمي-إلى الرفيق الأعلى. ومن الطريف أنه مات صلى الله عليه وسلم ودرعه مرهونة عند يهودي من يهود خيبر على ثلاثين وسقا من شعير ابتاعها لأهله !! 

وهكذا استمر حال يهود خيبر، ونصارى نجران،ومجوس الاحساء وهجر،ويهود اليمن وغيرهم إلى عهد خلافة الصديق رضي الله عنه على الرغم من انتظام جيوشه وآمن دولته ، حيث أنه قد أرسل جيشه إلى وسط الجزيرة للقضاء على فتنة الردة والممتنعين،وأرسله كذلك إلى الشام والروم وفارس ،وقد مات وجيوشه تقارع قوات الروم وفارس تثبيتا لدعائم الاسلام والسلطان . 

كذلك استمر وضع هؤلاء إلى أواخر عهد الفاروق رضي الله عنه على الرغم من استقرار دولته في الداخل وتوسع نفوذه في الخارج حيث كانت جيوشه تصول وتجول في قارات ثلاثة (أسيا،وأوروبا،وأفريقيا)،فقد تم في عهده فتح الشام ،وفارس ،ومصر، وقبرص ،وأفريقية وغيرها.ومع هذا الاستقرار والقوة والانتشار لم يخرج يهود خيبر إلا لما نقضوا عهدهم وتعدوا على بعض المسلمين منهم ابنه عبد الله فزحزحهم إلى تيماء-علما بأن تيماء داخل جزيرة العرب-،وقد ترك يهود اليمن في اليمن وهم باقون إلى يومنا هذا،ومجوس الأحساء حتى اسلموا !! 

ومن المفارقات العجيبة أن تكون هنالك مساجلة علمية اشبه بالمناظرة بين عمر وابن عباس وهما راويا حديث(أخرجوا المشركين من جزيرة العرب)وكانت هذه المساجلة بعد العملية التي طعن فيها عمر بخنجر مجوسي ،فقد روى البخاري في صحيحه هذه المساجلة المطولة  حيث جاء فيها:أنه لما قُتل أمر ابن عباس أن ينظر من الذي قتله، فلما أخبره أنه أبو لؤلؤة .قال عمر:قد كنت أنت وأبوك تحبان أن تكثر العلوج بالمدينة،وكان العباس أكثرهم رقيقاً ..).وفي ذلك أشارة واضحة بأن ورود هذا الحديث كان من باب السنة(القيادية)التي لها حق إبرام العقود وفسخها، ومراعاة مصالح البلاد والعباد،وكل ذلك كما لا يخفى يدور في فلك المباح وليس اللازم !! .

 رابط :

http://www.civicegypt.org/?p=29849