صندوق النقد الدولي.. والفقر المزمن في مصر
“الفقراء يعانون بشدة. لقد أخطأنا في سياساتنا، والجنيه تدهور بشكل لم نكن نتوقعه”، كلمات قليلة العدد، عميقة المضمون، قالها كريس جارفيس، رئيس بعثة صندوق النقد الدولي إلى مصر، والتي تشمل صلاحياتها إجراء مراجعات لضمان تنفيذ الحكومة لتعهداتها للصندوق، عقب اتفاق قرض بقيمة 12 مليار دولار إلى مصر.
بعثة الصندوق ستزور مصر، خلال الأيام القليلة المقبلة، لإجراء المراجعة الثالثة، لبرنامج ما يُقال إنه “إصلاح اقتصادي”، وصرف شريحة جديدة من القرض، طبقًا لمدى التزام النظام المصري بـ”روشتة الصندوق”.
الإجراءات الجديدة هي الأعنف في مسيرة الاتفاق، الذي تم في الغرف المغلقة بواشنطن، بين نظام أدمن التبعية والتفريط في مصالح الوطن، وبين مؤسسة مالية تمثل قمة هرم السيطرة الغربية على اقتصادات الدول الواقعة في شباكه، ولا يعاني من خطأ السياسات إلا المواطن البسيط، على مدى سنوات ثلاث، ألقت بملايين المصريين إلى أسفل خط الفقر، بدون سابق إنذار.
جذر الأزمة في تعامل النظام المصري مع الصندوق، هو البحث عن مسكن لمرض مزمن، وليس السعي إلى حل شامل، لم ترغب الدولة في أي وقت أن تتورط في مشروع تنموي حقيقي، يضمن المستقبل في مقابل التضحية الوقتية، لذا بحثت عن صندوق النقد وليس البنك الدولي، الذي يختص بتمويل المشروعات، التي يراها ذات جدوى لاقتصاديات الدولة.
أما صندوق النقد فانه يمول علاجاً لمشكلات ميزان المدفوعات، عن طريق حزمة من السياسات، تفضي إلى إعادة بناء الاحتياطي النقدي، وتثبيت سعر العملة، والاستمرار في تغطية مدفوعات الاستيراد، والتي تنشأ من تقييم غير مرن لسعر العملة، أو أسباب هيكلية أو دورية أو طارئة.
يقترح الصندوق غالبًا خطة، أو روشتة، واحدة على الدول التي يضعها الحظ العاثر مقرونًا بحكومات لا تملك من الرؤية ما يمكنها من النظر للمستقبل، والخطة التي طرحت على مصر تشمل 4 بنود، هي: رفع الدعم عن طريق زيادة أسعار الطاقة، وتكاليف الخدمات العامة، وتطبيق إصلاح ضريبي يشمل تطبيق ضريبة القيمة المضافة، والبند الثاني تقليص أعداد موظفي القطاع العام، وتقليل الرواتب الحكومية كنسبة مئوية من ميزانية البلاد، والثالث هو تطبيق نظام سعر الصرف المرن ليعكس القيمة الحقيقة للجنيه، والرابع هو خصخصة الشركات والبنوك المملوكة للدولة، لرفع يد الدولة تمامًا عن التدخل في السوق المحلية.
العناصر الأربعة لخطة الصندوق، في الحالة المصرية، التي نضجت كفاية للحكم عليها، قوضت الدور الرئيس للدولة كما نعرفها، فباتت تحت حكم طبقة من رجال أعمال المرتبطين والمرتهنين لمصلحة أرباحهم وارتباطاتهم بالسوق العالمية، وهي طبقة بدأت التغلغل في مصر، منذ الدخول الأخطر للصندوق، في عهد السادات، ودمغت بالفساد والتحايل لمراكمة أرباح، بفعل تحالفات السلطة والمال، واستمرت في انتزاع السيطرة من الدولة على القطاعات كافة، من الأغذية إلى الإعلام، ومن المقاولات إلى الصحة والتعليم.
الحكومة التي لا ترغب ولا تدرك أن حل أزماتها يتحلق حول كلمة واحدة، هي “الإنتاج”، تبحث عن تغطية العجز، كحل مؤقت في مواجهة أزمة هيكلية، أثبتت أن الإصلاح بهكذا شكل هو سقوط في فخ الاحتلال الناعم، وليس له أي توصيف آخر.
الاقتصاد المصري فقد كل وسائل دفاعه ومصادر قوته، بعد أن تفننت أنظمة التبعية، أو ما بعد كامب ديفيد، في نزع الأسلحة والدروع، فتقلصت المساحات المزروعة عامًا بعد آخر، وخُربت الوحدات الإنتاجية تباعًا، وبيعت المصانع بأبخس الأثمان، في صفقات فساد قذرة، فلم يعد من المجدي اقتصاديًا –من وجهة نظر خبراء الصندوق- أن تستمر الحكومة في التدخل، حتى ولو كمدافع عن مواطنيها، أمام تغول طبقة رجال الأعمال.
الحقيقة الأكثر وضوحًا في قصة صندوق النقد الدولي، أنه لم ينجح على الإطلاق في إنقاذ أي دولة استعانت بخبرائه، روسيا –مثال- في التسعينات، حين جربت وصفة الصندوق، باعت أملاكها العامة المقدرة بأكثر من 200 مليار دولار مقابل 7 مليارات دولار فقط، وتراجعت قدراتها الإنتاجية نحو 27%، وأدت سياسة تحرير سعر صرف العملة خلال عقد التسعينات إلى تراجع قيمة العملة الوطنية بصورة حادة ومستمرة من 170 روبلا مقابل الدولار عام 1991، لتصل إلى نحو 6000 روبل مقابل الدولار أوائل عام 1998 وتم إصدار روبل جديد يساوي ألف روبل قديم فأصبحت قيمة الدولار قرابة 6 روبلات أوائل عام 1998, ويهبط سعر صرف العملة الروسية إلى 29 روبلا مقابل الدولار أوائل مايو 2000.
النجاح الكبير للصندوق كشفته أرقام الإنتاج الروسي في التسعينيات أيضًا، تحت حكم بوريس يلتسن، غربي الهوى، حيث نجح الصندوق في تحويل الاقتصاد الروسي إلى اقتصاد سوق، خلال سنوات قليلة، وأصبح أكثر من 50 % من الناتج القومي الإجمالي ينتج بالفعل خارج نطاق قطاع الدولة بحلول ربيع عام 1994، كما أصبح نحو 60% من العاملين يعملون خارج المؤسسات الحكومية بحلول نهاية 1993، ولكن الثمن الفادح لهذه السياسة كان انهيار الإنتاج، فتراجع الناتج القومي الإجمالي إلى أقل من النصف خلال السنوات من 1991 إلى 1994 فقط، وكانت النتيجة المنطقة لاستمرار هذه السياسات هي استمرار انهيار الإنتاج وتدهور الاقتصاد طوال التسعينيات.
وكما في حالة مصر، فإن هناك طبقة جديدة من الروس، استفادوا من الفساد المستشري، وتمكنوا من التحول لمليونيرات ومليارديرات، في ظرف سنوات فقط، بينما ظلت الأغلبية تكافح الإفقار وتراجع دور الدولة، حتى غيّر فلاديمير بوتين المعادلة، وأعاد روسيا إلى طريق التخلص من كابوس الصندوق، وإن كان علاج الآثار التدميرية للقواعد الإنتاجية الضخمة سيستغرق وقتًا أطول.
الكارثة الحقيقية هي أن مصر تواجه تحدي وجود، وهو ما عبّر عنه الرئيس المصري بنفسه، في احتفالية عيد العمال، هذا الأسبوع، ومع استمرار السير وراء تعليمات الصندوق، فأن التهديد هو أن الأزمة الاقتصادية وما تستبعه من موجة تضخمية، تؤسس لفرض علاقة «قهر» على طبقات بعينها، وإخراجها تمامًا من تحت مظلة رعاية الوطن، وبالتالي الطبقات الأوسع لن يصبح لها مصلحة في البلد، وهذا هو مكمن الخطر الحقيقي، أن تتحول الدولة إلى خصم للغالبية الساحقة من شعبها.