من الغرابة بمكان أن نجد أعلاما كبارا، وبعضهم محدثون، يتفقون على كتمان كل ما ورد في كتب الحديث من المصادر السنية حول الفرس وإيمانهم وعلمهم ودورهم العظيم في حركة التاريخ الإسلامي، وينادون صباح مساء على القنوات الإعلامية المختلفة: (الإمبراطورية الفارسية) و(الفرس المجوس) و(الخطرالفارسي) و(جاء دور المجوس)، وغيرها، وهي من الكثرة بحيث لا تحتاج أي توثيق، وكأن رسول الله – صلى الله عليه وآله وسلم – الذي شهد للفرس بالإيمان، بل بقمة الإيمان كان مخطئا في شهادته.
فقد وردت الكثير من الأحاديث في فضل فارس وعمق إيمانها ودورها في الإسلام، نقتصر منها على حديث ورد بروايات متعددة، وأهميته تكمن في كون رسول الله – صلى الله عليه وآله وسلم – يبين فيه مصداق آيتين قرآنتين كريمتين تخبران عن واقع سيحدث في المستقبل، ورسول الله – صلى الله عليه وآله وسلم – كما ورد في القرآن الكريم موكل ببيان مصاديق ما ينزل عليه، كما قال تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [النحل: 44]
أما الآية الأولى، فقوله {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ}([1])، وقد ورد في تفسيرها في مصادر السنة من كتب الحديث والتفسير أن المراد منها قوم سلمان الفارسي رض، فقد روى أبو هريرة قال : تلا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هذه الآية : {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ}([2]) قالوا : ومن يستبدل بنا ؟ قال: فضرب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على منكب سلمان – أي سلمان الفارسي ثم قال: (هذا وقومه)([3])
والآية واضحة في تهديد الله سبحانه وتعالى للعرب الذين نزل القرآن الكريم بين ظهرانيهم أنهم في حال توليهم وتخليهم عن الدور المناط بهم، أنه سيتولى ذلك قوم آخرون، وأنهم سيؤدون الأمانة بصدق وإخلاص، وأنهم لن يكون أمثال القوم الأولين الذين شوهوا الرسالة.. وقد وضح رسول الله – صلى الله عليه وآله وسلم – في الحديث أن هؤلاء البدائل هم سلمان وقومه.
وللأسف فإن هؤلاء يغضون الطرف عن هذه الحقيقة العظيمة التي تسجل أحداثا تاريخية في غاية الأهمية في نفس الوقت الذي نجدهم يقبلون أحاديث ضعيفة في فضل فلان وفلان، مع أنها لا تكتسي من الأهمية ما يكتسي الموضوع الخطير الذي يخبر فيه رسول الله – صلى الله عليه وآله وسلم – عن حال أمته من بعده([4]).
أما الآية الثانية، فقوله تعالى: { وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [الجمعة: 3]، فقد أخبر رسول الله – صلى الله عليه وآله وسلم – أن مصداق هذه الآية منطبق على فارس، قال ابن كثير، وهو حافط ومفسر من أكثر المدارس الحديثية تشددا مدرسة ابن تيمية: وقوله: {وآخرين منهم لما يلحقوا بهم وهو العزيز الحكيم} قال الإمام أبو عبد الله البخاري رحمه الله. حدثنا عبد العزيز بن عبد الله، حدثنا سليمان بن بلال، عن ثور، عن أبي الغيث، عن أبي هريرة، رضي الله عنه، قال: كنا جلوسا عند النبي صلى الله عليه وسلم فأنزلت عليه سورة الجمعة: {وآخرين منهم لما يلحقوا بهم} قالوا: من هم يا رسول الله؟ فلم يراجعهم حتى سئل ثلاثا، وفينا سلمان الفارسي، فوضع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده على سلمان ثم قال: (لو كان الإيمان عند الثريا لناله رجال -أو: رجل-من هؤلاء)، ورواه مسلم، والترمذي، والنسائي، وابن أبي حاتم، وابن جرير، من طرق عن ثور بن زيد الديلي عن سالم أبي الغيث، عن أبي هريرة، به)([5])
فهذا الحديث المتفق على صحته جمع فيه – صلى الله عليه وآله وسلم – بين دور الفرس في حركة التاريخ والشهادة لهم بالإيمان، بل بقمة الإيمان، والتاريخ يدل على ذلك، فكبار العارفين المحققين كانوا من تلك المنطقة، بينما نجد المجسمة والمشبهة ظهرت في البلاد العربية، ولا تزال الدولة لها.
بعد هذه الصراحة والصحة التي تنطق بها هذه الأحاديث وكونها على المنهج الذي يعتمدونه نجدهم كل حين ينادون بضرورة قيام العرب بشن قادسية جديدة على الفرس المجوس متناسين كل القيم التي ينادون بها، والتي تنص على أنه لا فضل لعربي على عجمي إلا بالتقوى، ومتناسين ما ورد في النصوص التي تحذر من نجد، والتي هي مركز الدعوة الوهابية التي تأثرت بها الحركات الإسلامية، بل اعتبرتها حركة تجديدية، مع أن الأحاديث الكثيرة وردت في بيان أنها أصل الفتنة ومركزها([6]).
وهؤلاء للأسف كما اتفقوا على كتمان ما ورد في حق إيران من فضل، اتفقوا كذلك على ما ورد في التحذير من نجد واعتبارها قرن الشيطان، فلذلك نراهم يحقرون ما عظمه رسول الله – صلى الله عليه وآله وسلم – ، ويحقرون ما عظمه، وكل ذلك بسبب الكبر والحسد والذي غيب عنهم كل منطق علمي أو حجة عقلية أو نقلية.
———————–
([1]) سورة محمد: 38.
([2]) سورة محمد: 38.
([3]) الجامع الصحيح سنن الترمذي، محمد بن عيسى الترمذي السلمي، مراجعة : أحمد محمد شاكر وآخرون، دار إحياء التراث العربي، بيروت: كتاب تفسير القرآن عن رسول الله صلى الله عليه وسلم باب ومن سورة محمد صلى الله عليه وسلم ح(3260) قال الشيخ الألباني: صحيح.
([4]) وكمثال على ذلك مبالغتهم في بيان أن الصاحب الذي كان مع رسول الله – صلى الله عليه وآله وسلم – في الغار هو أبو بكر، ويجعلونه مصداقا لقوله تعالى: {إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا } [التوبة: 40] مع أنه لا أهمية كبيرة لهذا الأمر حتى لو ثبت.
([5]) تفسير القرآن العظيم، أبو الفداء إسماعيل بن عمر بن كثير، المحقق: سامي بن محمد سلامة، دار طيبة للنشر والتوزيع، الطبعة: الثانية 1420هـ – 1999 م (8/ 116).
([6]) حيث ورد في نجد قوله – صلى الله عليه وآله وسلم – : (هناك الزلازل والفتن وبها يطلع قرن الشيطان)) (الجامع الصحيح المختصر، محمد بن إسماعيل البخاري الجعفي، مراجعة : د. مصطفى ديب البغا، دار ابن كثير , اليمامة، بيروت: 1987م-1407هـ.كتاب الاستسقاء باب ما قيل في الزلازل والآيات ح(990)