إقالة تيليرسون وصراع الأجنحة الأمريكي: القصة الكاملة!

العهد :

 محمد علي جعفر

(باحث في إدارة المنظومات والشؤون الإستراتيجية)

توقف العالم بالأمس أمام خبر إقالة الرئيس الأمريكي لوزير خارجيته ريكس تيليرسون. قد لا يكون مُستغرباً سلوك ترامب، بمستوى استغراب قراره، فيما يحاول المراقبون استشراف توجهات السياسة الدولية الأمريكية الجديدة والتي يُعبِّر عنها عادة شخصية وزير الخارجية. في حين آن الأوان للتطرق لصراع الأجنحة الأمريكي المُحتدم والذي أفرز اصطفافاتٍ جديدة (منذ العام 2015) تختلف عن الاصطفاف الأمريكي التقليدي المعروف (جمهوري / ديمقراطي). حيث أن فهم هذه الاصطفافات يُوضح الكثير من ملابسات السياسة الأمريكية، وأسباب التخبُّط فيها منذ ثلاث سنوات وصولاً الى إقالة تيليرسون. فما هي القصة الحقيقية لصراع الأجنحة الأمريكي؟ وماذا في إقالة تيليرسون؟

الخلافات الأمريكية الداخلية: القصة الحقيقية

قصة الخلاف الأمريكي الداخلي أكبر من وزير الخارجية والرئيس الأمريكي. هي في الحقيقة نتيجة للإصطفافات الداخلية الجديدة في أمريكا، والتي تنعكس على ما يُسمى بالإمبراطورية الأمريكية في العالم. هو خلافٌ مُحتدم بين الأجنحة الأمريكية بات مُغايراً لصراع الديمقراطيين والجمهوريين. ولعل الإشارة للإصطفافات الجديدة بشكلٍ مُختصر، تكفي لإيضاح ما يحدث داخل الدولة التي بات يجري التساؤل حول هيبتها على كافة الأصعدة.
الاصطفافات الأمريكية الجديدة بدأت كنتيجة لتراكم فشل السياسات الأمريكية خصوصاً تجاه الشرق الأوسط وحصول تناقض في المصالح المُعقَّدة بين أطراف كبيرة تتحكم بالقرار الأمريكي ولها امتدادات خارجية. ظهرت هذه الاصطفافات للعلن بعد وصول دونالد ترامب للرئاسة وهي تتشكَّل من جماعة العولمة (يتغلب عليها الطابع الديمقراطي ويتحكمون بالإعلام والدولار)، مقابل جماعة أمريكا أولاً (ذات الطابع الجمهوري).
بعد وصول ترامب، انقسمت جماعة أمريكا أولاً الى القوميين المتشددين (يتمتعون بتأثيرٍ داخلي كبير) وجماعة الشركات والجيش (باستثناء وكالة الإستخبارات). ليُصبح الخلاف الأمريكي المحلي بين هذه الجماعات الثلاث شرساً، ويمتد الى حلفائهم وعلاقاتهم الدولية التي تُشكِّل معهم، الإمبراطورية الأمريكية العالمية. ظهر الصراع بين هذه الأجنحة في الشرخ الكبير في العلاقات الأمريكية الأوروبية لا سيما فيما يخص مقاربة المصالح المشتركة، والخلافات الأمريكية مع الحلفاء في الشرق الأوسط كتركيا مثلاً، بالإضافة الى خلافات الحلفاء فيما بينهم (السعودية والإمارات وقطر). هذه النتائج بالإضافة الى غيرها، لم تكشفها فقط الخلافات بين حلفاء السياسة الأمريكية في العالم، بل كشفتها أيضاً حالة التخبُّط الأمريكي الداخلي بين أجهزة الحكم والبيت الأبيض والخلاف حول ملفات المنطقة كالأزمة السورية. (الخلاف الذي حصل بين وزارة الدفاع والخارجية حين قصفت الطائرات الأمريكية موقعا للجيش السوري في دير الزور في ايلول 2016).
يُعتبر غياب الرؤية الواضحة للسياسة الخارجية لواشنطن، التخبُط في السياسة الدفاعية بين وزارة الدفاع والبيت الأبيض، بالإضافة الى مشكلات أخرى بدأت تظهر منذ العام 2015، كلها مؤشرات عكست خلافاتٍ جذرية يعيشها الداخل الأمريكي قادت الى صراع أجنحةٍ محلي، بات يؤثر على الأطراف العالمية المرتبطة بالسياسة الأمريكية وعلى السياسة نفسها. وهو ما يعود لخلافٍ في المصالح، باتت أولوياته بحسب ما يبدو، أكبر من أولوية الحفاظ على هيبة الدولة الأمريكية، والذي امتد ليصل اليوم الى إقالة وزير الخارجية الشخصية التي تُعبّر عن خيارات واشنطن الخارجية. فما هي قصة تيليرسون ممثل الشركات الأمريكية في البيت الأبيض؟
آخر نتائج صراع الأجنحة: إقالة تيليرسون
من المعلوم أن التوتر والشرخ في العلاقة بين ترامب وتيليرسون وصل الى حد تبادل الإهانات حيث وصف تيليرسون ترامب بالمعتوه. في حين طغى خلاف جوهري فيما يخص السياسة الخارجية بين الرجلين ما زاد في عمق الشرخ. وهنا نُشير الى المشكلات الأبرز والتي تتعلق بموضوع الملف الخليجي والإتفاق النووي.

باتت أمريكا بعظمتها عُرضة للخطر المُتمثِّل بمصالح الأجنحة الداخلية

أولاً: فيما يخص الخلافات الخليجية يميل ترامب بسياسته، للسعودية، متبنياً اتهام قطر بالإرهاب وأيديولوجية التطرف. خلال الأزمة رفض تيليرسون مساعي المقاطعة الخليجية لقطر وحاول ايجاد أُطر للحل. لكن ذلك الخلاف كان جوهرياً بحسب لعبة المصالح التي تقودها الأجنحة الأمريكية المختلفة. وهو ما ظهر من خلال ما نشرته الصحف الأمريكية خلال شهر تشرين الأول المنصرم، حول طلب “اليوت برايدي” رجل الأعمال الأمريكي ومُمول حملة دونالد ترامب وصاحب العلاقات التجارية الأمريكية الأهم مع الإمارات، إقالة تيليرسون من منصبه!
ثانياً: فيما يخص الإتفاق النووي الإيراني، رفض ترامب الإعتراف بالتزام ايران بالإتفاق النووي واتخذ منحىً شكَّل أزمة في السياسة الدولية حينها، لا سيما بين أمريكا وأوروبا. تخطى ترامب اللياقات الدبلوماسية بتعبيره عن استعداده لتمزيق الإتفاق، في حين أخذ تيليرسون خيار ايجاد صيغة تشريعية تُمكِّن واشنطن من البقاء في الإتفاق النووي. وهو ما يشرح خروج مساعد وزير الخارجية الإيرانية للشؤون السياسية عباس عراقتشي ليُصرِّح بالأمس، بأن اقالة تيليرسون تعني نية واشنطن الخروج من الإتفاق النووي.
إذاً، لم يعد النقاش في المظهر الذي تبدو عليه السياسة الأمريكية مُبهماً. خصوصاً بعد فهم الخلفيات والاصطفافات الداخلية للأجنحة الأمريكية. تحوَّلت الأمور اليوم من تيليرسون ممثل الشركات الأمريكية الى مايك بومبيو ممثل اليمين المتطرف ومدير وكالة الإستخبارات الأسبق والعضو في حزب الشاي. وانتقلت الأمور من رجلٍ كان يوصف بصوت العقل في البيت الأبيض، الى شخصية طالما اتصفت بالتطرف والكره تجاه إيران والعرب والمسلمين ويؤمن بدبلوماسية الحرب ويتقن حياكة المؤامرات خلف الظل. كل ذلك يدل على أن الزمن الذي كانت فيه واشنطن قادرة على تأمين وسيلة لإخراج سياساتها بالمنطق والعقل قد انتهى. باتت أمريكا بعظمتها عُرضة للخطر المُتمثِّل بمصالح الأجنحة الداخلية التي تعاظم دورها خلال سنوات سياسة القطب الواحد، وعادت لتتناقض في ظل واقعٍ سياسي وعسكري واقتصادي دوليٍ مُعقدٍ تعيش فيه أغلب الأطراف صراع وجود. هكذا انتهى زمن الهيبة الأمريكية، وعلى أعتاب ذلك تقف الإمبراطورية الأمريكية!؟

  • مركز القلم للأبحاث والدراسات

    يهتم مركز القلم بمستقبل العالم الإسلامي و عرض (تفسير البينة) كأول تفسير للقرآن الكريم على الكلمة وتفاصيل مواردها ومراد الله تعالى منها في كل موضع بكتاب الله في أول عمل فريد لن يتكرر مرة أخرى .

    Related Posts

    ثلث الألمان يقاطعون المنتجات الأميركية بسبب سياسات ترامب .. و استطلاع : أكثر من نصف الألمان يرغبون بالهجرة

    شفقنا : ثلث الألمان يقاطعون المنتجات الأميركية بسبب سياسات ترامب كشف استطلاع للرأي أن ثلث المستهلكين في ألمانيا يتجنبون بشكل متزايد المنتجات والخدمات الأميركية بسبب سياسات الرئيس الأميركي دونالد ترامب. وبحسب الاستطلاع الذي أجراه معهد “إنوفاكت” بتكليف من بوابة المقارنات “فيريفوكس”، فإن 34.3% من المشاركين أشاروا إلى أنهم صاروا يقبلون بصورة أقل على السلع والخدمات الأميركية، بينما أعرب 17% عن نيتهم تقليص استهلاكهم لهذه المنتجات مستقبلاً، بحسب وكالة “أسوشييتد برس”. أوضحت نتائج الاستطلاع، الذي أُجري عبر الإنترنت بين 30 إبريل/نيسان و2 مايو/أيار 2025، وشمل 1015 شخصاً تتراوح أعمارهم بين 18 و79 عاماً، أن القلق يتركز بالخصوص حول الهواتف الذكية الأميركية، إذ ذكر ثلث المشاركين أنهم راجعوا بالفعل سلوكهم الشرائي أو يعتزمون القيام بذلك، كما أعرب نحو 30% عن عدم رغبتهم في استخدام أجهزة الكمبيوتر الأميركية أو منصات التواصل الاجتماعي مثل “إنستغرام” و”إكس”، فيما أبدى 17% فقط استعدادهم للتخلي عن تطبيق “واتساب”. في المقابل، شكك نحو 30% من المشاركين في فعالية مقاطعة البضائع الأميركية، معتبرين أنها غير مجدية في ظل تشابك الأسواق، بينما رأى 36.3% أن الخدمات الأميركية أصبحت مهيمنة إلى درجة تحول دون الاستغناء عنها، مثل “أمازون” و”واتساب”. تأتي هذه المؤشرات في وقت يواجه فيه الاقتصاد الألماني ضغوطاً متزايدة نتيجة النزاع الجمركي مع الولايات المتحدة. فقد توقع معهد “آي دبليو” الألماني للبحوث الاقتصادية أن ينكمش الناتج المحلي الإجمالي لألمانيا بنسبة 0.2%…

    واشنطن تدرس تصنيف طالبان “منظمة إرهابية أجنبية”

    شفقنا : قال وزير الخارجية الأمريكي ماركو روبيو الأربعاء، أمام لجنة الشؤون الخارجية في مجلس النواب، إن الولايات المتحدة تدرس تصنيف حركة طالبان “منظمة إرهابية أجنبية”. فعندما سأله النائب الجمهوري من ولاية تنيسي تيم بورشيت عما إذا كانت الولايات المتحدة ستصنف حركة طالبان “منظمة إرهابية أجنبية”، قال روبيو “أعتقد أن هذا التصنيف قيد المراجعة الآن مرة أخرى”. وسيطرت طالبان على الحكم في أفغانستان بعد سحب أمريكا كامل قواتها في أغسطس (آب) 2021، وساءت العلاقات بين البلدين منذ ذلك الحين. وبعد الانسحاب، رفضت أمريكا الاعتراف بحكومة طالبان، لكن هناك تواصل غير مباشر حول قضايا إنسانية وأمنية مثل مكافحة تنظيم داعش الإرهابي. وتستقبل أفغانستان مساعدات أمريكية إنسانية فقط تُقدَّم للشعب الأفغاني عبر منظمات دولية، مع محاولة تجنّب دعم النظام بشكل مباشر. وتزايد التوتر بين طالبان والولايات المتحدة بسبب عدة قضايا خلافية، أبرزها، “حقوق الإنسان، خصوصاً حقوق المرأة، ورفض طالبان الانخراط في نظام حكم شامل”.

    You Missed

    ثلث الألمان يقاطعون المنتجات الأميركية بسبب سياسات ترامب .. و استطلاع : أكثر من نصف الألمان يرغبون بالهجرة

    ثلث الألمان يقاطعون المنتجات الأميركية بسبب سياسات ترامب .. و استطلاع : أكثر من نصف الألمان يرغبون بالهجرة

    الإخوان المسلمون في مرمى ماكرون.. تقرير أمني صادم يشعل جدلا واسعا بباريس

    الإخوان المسلمون في مرمى ماكرون.. تقرير أمني صادم يشعل جدلا واسعا بباريس

    سويسرا : رفض قبور المسلمين في فاينفيلدن يثير تساؤلات حول مستقبل التعددية الدينية في سويسرا

    سويسرا : رفض قبور المسلمين في فاينفيلدن يثير تساؤلات حول مستقبل التعددية الدينية في سويسرا

    واشنطن تدرس تصنيف طالبان “منظمة إرهابية أجنبية”

    واشنطن تدرس تصنيف طالبان “منظمة إرهابية أجنبية”

    إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ

    إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ

    العراق : وفد مصري بعد زيارة كربلاء: ما رأيناه هنا يعكس صورة مغايرة تماما لما يتداوله الاعلام

    العراق : وفد مصري بعد زيارة كربلاء: ما رأيناه هنا يعكس صورة مغايرة تماما لما يتداوله الاعلام