وقال هيرست، في مقال بموقع “ميدل إيست آي” البريطاني، الجمعة 9 مارس/آذار 2018، طوال 3 أيامٍ محيرة، إن العاصمة البريطانية لندن كانت تتلقى لمحةً عما سيكون عليه حال البلاد بعد تقلُّص بريطانيا، أو خروجها من الاتحاد الأوروبي.
وأضاف: “في مشاهد مشابهة لما يحدث ببيونغ يانغ عاصمة كوريا الشمالية، أو بيشكيك عاصمة جمهورية قرغيزستان، ظهرت صورة القائد العظيم على لوحات الإعلانات في جميع أنحاء العاصمة، بينما هُيِّئ الليبراليون الجدد في وسائل الإعلام وأُعِدوا كما ينبغي للترحيب بوصوله”.
وتابع الكاتب البريطاني: “اجتمعت الوسائل الإعلامية، بدايةً من صحيفتي التايمز والديلي تليغراف البريطانيتين، إلى موقع وزارة الخارجية الإلكتروني على الرأي ذاته، كلها تهتف: يحيا الملك، الشاب المصلح الجريء، الدينامو البشري!.
ولا تقصد بهذا، بالطبع، قائدنا العظيم، فقد تخلينا منذ زمنٍ بعيد عن إيماننا بالقادة العظماء، وصارت فائدتهم الوحيدة تتلخص حالياً في إرشاد الأجانب عبر ذكريات الماضي العتيق إلى الأماكن الأثرية مثل غرف حرب تشرشل، التي كانت الوجهة التي انطلق منها القائد الحربي البريطاني حينئذٍ بقوات الإمبراطورية، وتحولت فيما بعد إلى متحف قائم أسفل طريق وايتهول”، كما قال هيرست.
صفقات طائرات التايفون
وتابع هيرست: “كل هذا الصخب ليس سوى احتفالٍ بمجيء محمد بن سلمان، ولي عهد المملكة السعودية، الذي تسعى شركة بريتش إيروسبيس البريطانية بطاقتها كاملةً إلى بيع الدفعة التالية من طائرات التايفون له. فمن دون هذه الاتفاقات مع القوات الملكية الجوية السعودية، كانت مصانع الشركة، التي تقع في مقاطعة لانكشاير البريطانية، أقفلت أبوابها منذ فترةٍ طويلة.
محمد بن سلمان، الذي يبلغ من العمر 32 عاماً، هو من سيقرر أي بورصة بالضبط ستقدّم لها أرامكو، أكبر شركة نفط في العالم، عروضها الأولية للأسهم. وإذا تمكنت أرامكو من تحقيق قيمتها المرجوة، المقدرة بـ2 تريليون دولار، فستصل قيمة بيع 5% من أسهمها إلى 100 مليار دولار، وهي جائزة كبيرة لبورصة لندن.
واستكمل الكاتب البريطاني: “لا أدري أيهما أسوأ: الحملات الميدانية المقامة احتفالاً بمحمد بن سلمان، أو مجموعة المنتهزين المصطفّين لاستغلال ما يمكن استغلاله.
وتُعَد حالة الذل الجماعي السائدة في لندن حالياً بعيدةً كل البعد عن العصر الإدواردي الذي كان أشبه بملحمة الفردوس المفقود الشعرية، وهو ما كان أنصار البريكست (أمثال بوريس جونسون وزير الخارجية البريطاني، ومايكل غوف وزير العدل البريطاني) يطمحون إلى الوصول إليه عندما حققوا هدفهم بفصل بريطانيا عن أوروبا”، بحسب هيرست.
في مطلع القرن العشرين، أرسلت بريطانيا مستكشفيها ورحّالتها لتقسيم فلول الإمبراطورية العثمانية المفككة واعتلائها وغزوها. واختارت غيرترود بيل، الباحثة والمستكشفة وعالمة الآثار البريطانية، الأمراء الذين تعاملت معهم بريطانيا، بينما أسهم أشخاص مثلها، ومثل توماس لورانس ضابط المخابرات البريطاني في إنشاء دولٍ مثل العراق.
لكنَّ غيرترود سرعان ما سئمت من مهمتها هذه. وقالت: يمكنك الاعتماد على شيءٍ واحد فقط. لن أشارك أبداً في إنشاء ملوكٍ مرة أخرى، فالأمر مجهد بشدة. يُذكَر أنَّ غيرترود عزَّزت نفوذ عبد العزيز آل سعود، الأمير الذي استولى على منطقة نجد وأصبح في نهاية المطاف مؤسس المملكة السعودية، بحسب هيرست.
واليوم، تتجه العلاقة بين المملكتين -في الأغلب- إلى الاتجاه المعاكس. وعند مجيء “ولي الأمر”، الذي يمتلك جميع أراضي المملكة العربية السعودية ونفطها وأصولها وشعبها، إلى لندن، سيكون ذلك بهدف تفقُّد أصوله، وإبرام العقود مع تجاره وباعته المتجولين، وهو ما صار البريطانيون عليه في الوقت الحالي.
“بين فكَّي تمساح”
وقال هيرست: “ربما يجفل هؤلاء حتى من الراتب الذي سيخصصه هذا الشاب لنفسه عندما يصبح ملكاً، إذا لم يكن قد فعل ذلك بالفعل”.
وأضاف: “أخبَرني مصدر مقرب من البلاط الملكي السعودي بأنَّ علاوة الملك الشهرية تبلغ حالياً 3 مليارات ريال، أي ما يعادل 800 مليون دولار. لا، أنت لم تخطئ قراءة المبلغ. 800 مليون دولار شهرياً!
بينما تتقاضى رئيسة وزراء المملكة المتحدة 150402 جنيه إسترليني (207554 دولاراً) في السنة، وذلك إذا استثنينا قيمة شقتها في داوننغ ستريت وغيرها من المساكن الرسمية، فيما يتقاضى رئيس الولايات المتحدة الأميركية 400 ألف دولار في السنة، بالإضافة إلى البدلات الأخرى. لكنَّ الملك السعودي يخصص لنفسه ما يصل إلى 2000 ضعف هذا المبلغ، وذلك في الشهر الواحد.
تمثل هذه الحقيقة الصغيرة مؤشراً واحداً فقط إلى المشكلة التي نُفاقمها بأنفسنا عندما نبني سياساتنا، وصناعاتنا الاستراتيجية، واستراتيجياتنا الإقليمية استناداً إلى العلاقات القائمة مع طغاةٍ مثل هؤلاء”، بحسب المقال.
إلا أنَّ هناك إشارات أخرى منذرة بالخطر؛ إذ يضع الأمير، الذي أُشيدَ بأنَّه “مصلح اقتصادي جريء”، الإصلاحيين الذين أثبتوا نجاحهم -مثل عمرو الدباغ- بالسجن، بتهم الفساد المزعومة، في محاولة لتعذيبهم حتى يسلّموا جميع أصولهم.
جديرٌ بالذكر أنَّ الدباغ -الذي كان رئيساً للهيئة العامة للاستثمار في المملكة العربية السعودية- نُسِب إليه الفضل في نقل المملكة من المرتبة الـ64 إلى المرتبة الـ11 في قائمة البنك الدولي الخاصة بالشركات المنافسة في عام 2010، كما ذكر المقال.
ولا توجد طريقة للتحقق من تهم الفساد الموجهة ضد الدباغ؛ لعدم اتخاذ إجراءات قانونية، وعدم وجود محامين أو محاكم أو جلسات استماع وعدم تقديم أية أدلة. حتى اللجنة التي شُكِّلت لقيادة حملة التطهير، أُنشِئَت خارج نطاق النظام القانوني السعودي، مثلها مثل الحملة نفسها.
هل كان الغرض من الكابوس الذي تعرّض له الدباغ، تشجيع المستثمرين الأجانب على وضع أنفسهم وأصولهم بين فكَّي تمساح يسمى محمد بن سلمان؟ لست متأكداً من أنَّهم سيفعلون ذلك، فربما يتغير مزاج ولي العهد في أي وقت، بحسب هيرست.
هروب رؤوس الأموال
واعتبر الكاتب البريطاني أن ما يفعله ولي العهد هو وصفة أكيدة لهروب رؤوس المال؛ إذ بدأ العمال الأجانب بالفعل مغادرة البلاد في جماعاتٍ حاشدة، تاركين الآلاف من الوظائف البسيطة شاغرة.
بينما أعدم الأمير، الذي يُشاد به باعتباره مصلحاً اجتماعياً، عدداً من السجناء يفوق أي وقتٍ مضى. ووفقاً لمجموعة ريبريف البريطانية لحقوق الإنسان، نُفِّذت 133 عملية إعدام منذ أن أصبح محمد بن سلمان ولياً للعهد، مقارنة بـ67 عملية إعدام في الأشهر الثمانية التي سبقت تنصيبه، بحسب المقال.
واستكمل هيرست: “مع ذلك، لم يلحظ علي الشهابي، رئيس مؤسسة العربية، الذي كُلِّف الدفاع عن النظام في برنامج Newshour الذي يُبث على قناة (بي بي سي)، وكنتُ مشاركاً فيه- أي مشكلة في هذا الأمر. وقال إنَّ الذين أُعدموا هم زعماء عصابة مخدرات، وزعم أنَّه لم يجرِ إعدام أي شخص بتهمٍ سياسية.
في يناير/كانون الثاني 2016، أُعدم 47 شخصاً في يومٍ واحد، وكان الكثيرون منهم ما زالوا في سن الشباب. أحدهم كان علي الربح، الذي أُدين بالمشاركة في تظاهرات مطالبة بالإصلاح السياسي، عندما كان عمره 17 سنة فقط.
وكما رأينا مراراً، فإنَّ بريطانيا لا تهتم بحقوق الإنسان إلا قليلاً، وذلك بحجة الحفاظ على الاستقرار الذي يُعيره نخبة السياسة الخارجية أكبر اهتمامهم.
ونجد هنا مرة أخرى، أنَّ الفجوة بين الصورة والواقع متسعة اتساعاً خطيراً، ولن أكتب هنا حتى عما يحدث في اليمن أو ما حدث لرئيس الوزراء اللبناني سعد الحريري”، بحسب المقال.
مظالم الأردن
واعتبر هيرست أن “هناك مكاناً أفضل لقياس عدم الاستقرار الإقليمي المُنبعِث من الرياض؛ ألا وهو الأردن، الذي يُعَد حليفاً عسكرياً آخر لبريطانيا منذ أمدٍ طويل.
لن يتحدث أحدٌ في الأردن علناً عن الضرر الذي يُحدِثه بن سلمان الآن لمملكتهم. لكنَّ الكثير من المصادر المُطَّلِعة في الدوائر الرسمية تتحدث سراً عن مباعث قلقهم الخطيرة.
قال لي أحدهم: لم يمنحنا السعوديون فِلساً منذ عامين. واعتاد الأردن الحصول على ما بين مليار ومليار ونصف دولار. لكن اليوم لا نحصل على سنت. وليس نحن فحسب. وحتى الأموال التي كانوا سيمنحونها لنا للاستثمار لم تأتِ، ولا مساعدات نفطية على الإطلاق.
وقال آخر: نحن الآن في المرتبة العاشرة ضمن لائحة أولويات الرياض.
وأضاف ثالث: العلاقة مع السعودية شهدت تغيُّرات كبيرة سياسياً ومالياً. ومن الناحية السياسية، لم يكن محمد بن سلمان ووالده قط قريبين من الهاشميين. فلا يتمتع الملك سلمان بأي ألفة مع الهاشميين ربما تمتع بها إخوته الآخرون. لذا في الناحية السياسية لا توجد ألفة ولا تعاطف”.
وتابع: “هناك شعور بأنَّ الأردن وآخرين، عليهم إمَّا أن يكونوا معهم وإما أن يكونوا ضدهم. لذلك لسنا معهم تماماً فيما يتعلَّق بإيران، وقطر، وسوريا. قمنا بما يمكننا القيام به، ولا نعتقد أنَّه كان يتعين علينا الذهاب أبعد من ذلك. لكن بالنسبة لهم لم يكن ذلك كافياً”.
ولدى الأردن مظالم أخرى مع الرياض بعيداً عن المال والسياسة الخارجية. فمن وجهة نظر الأسرة الملكية الهاشمية، تحاول أسرة آل سعود من جديد، تنحية دورهم كراعٍ للأماكن الإسلامية المقدسة في القدس؛ إذ أخذ آل سعود مكة والمدينة منهم مطلع القرن العشرين. والآن، يحاولون فعل الشيء نفسه مع القدس، بحسب المقال.
وفي بلدٍ يُشكِّل اللاجئون الفلسطينيون من الضفة الغربية فيه 60% من السكان، فإنَّ عرض بن سلمان لدونالد ترامب بإزاحة الحقوق الفلسطينية عن طاولة التفاوض يُمثِّل إهانة.
ولم تُستقبَل محاولات بن سلمان التنمُّر على الرئيس الفلسطيني محمود عباس لمبادلة القدس الشرقية كعاصمة لفلسطين بأبو ديس، وهي ضاحية من ضواحي المدينة، على نحوٍ جيد في العاصمة الأردنية عمَّان. فلا يُوجَد أي رئيس فلسطيني في العالم يمكنه قبول ذلك.
وقال مراقبٌ أردني آخر مُطَّلِع: “بالنسبة لنا، هذه المسائل ليست أوراقاً للمساومة. إنَّها مسائل أمن قومي”.
لكنَّ المملكة الهاشمية عالِقة. فلا يمكنها الإذعان والتحول إلى ما يُشبه بحرين جديدة في علاقتها مع الرياض. ولا يمكنها أيضاً أن تواجه جارتها الجنوبية غير المستقرة علانيةً؛ إذ يمر الأردن بأزمة مالية حقيقية. فهو يعتمد، على سبيل المثال، على تحويلات الـ500 ألف أردني العاملين في السعودية.
تتأجَّج المشاعر في عمَّان. وليس ذلك إلا لمحة من الفوضى التي يخلقها بن سلمان بين حلفاء بريطانيا العرب. وفي لقاءٍ حضره مع المقدمة التلفزيونية المصرية لميس الحديدي، وصف بن سلمان تركيا وإيران بأنَّهما يُشكِّلان جزءاً من “محور الشر”، كما قال هيرست.
لغة الحرب
وبحسب المقال، فإنه أيّاً كان ما تعتقده بشأن كلتا القوتين، فإنَّ تلك ليست لغة قائدٍ مستقبلي يمكنه الاضطلاع بدورٍ لإرساء الاستقرار إقليمياً. إنَّه يتحدَّى كلاً من الدول السُنِّية والشيعية بالمنطقة في الوقت نفسه. إنَّها لغة الحرب.
ولا يمكن وصف الأردن، الذي كانت قواته الخاصة موجودة على جبهة المعركة ضد تنظيم “الدولة الإسلامية” (داعش) في سوريا والعراق، كدولة تُروِّج أو تُموِّل الإرهاب، مثلما فعلت السعودية بالفعل؛ بل تحاول بانتظامٍ، تعطيل عمل أتباع الإسلام السياسي لديها أيضاً، أو سجنهم، بحسب هيرست.
لذا، عندما تنهض تيريزا ماي في مجلس العموم وتقول إنَّ العلاقة مع السعودية في مصلحة بريطانيا الوطنية، فكيف تُعرِّف تلك المصلحة؟
هل تعي حقاً ما يحدث على الأرض في السعودية؟ وهل تكترث بالأساس؟
وختم الكاتب مقاله بقوله: “في ظل تلك القيادة، تُشكِّل السعودية مصدراً لانعدام الاستقرار الإقليمي. وما لم تتغير، فإن المملكة يمكن أن تصبح -تحت قيادة ولي العهد، الذي صار ملكاً- بسهولة، هي الدولة المقبلة في الشرق الأوسط التي تتفكك.
هذه هي النار التي تلعب بريطانيا بها، بتأييدها هذا الرجل كلياً وعلى نحوٍ جبان.