(زمان التركية)-شكل عام 2017 عاماً للخسائر وللإنتكاسات الكبرى لتنظيم داعش، فالتنظيم الذي كان يسيطر على مساحات شاسعة من الأراضي العراقية والسورية خسر جزء ليس بالقليل من هذة الرقعة، بسبب إرتداد المعارك العكسية على الجبهة العراقية والسورية في آن واحد والتي شنتها قوات الجيش والحشد الشعبي العراقي وتصاعد وتيرة الغارات التي شنتها قوات التحالف الدولي مع دخول قوى دولية أخرى في الحرب على التنظيم الإرهابي مثل روسيا والتي نجحت من خلال التنسيق مع ايران وتركيا في محاصرة معاقل التنظيم وتضييق الخناق على مليشياته في الأراضي السورية، مما شكل ضغطًا مزدوجًا على مقاتليه وأصبح عليهم القتال على جبهتين وبالطبع لم يتحمل التنظيم كل هذا الضغط العسكري فأنهار سريعاً، وترتب على ذلك إنحساره وتقهقره للخلف، بعد أن خسر أهم معاقله والمدن الكبرى التي كان يُسيطر عليها خاصة خسارته لمدينة الرقة السورية العاصمة المزعومة للتنظيم، ونجاح الدولة العراقية في هزيمته وطرد الفلول الباقية من مليشياته إلى خارج الحدود العراقية.
فوضع التنظيم الأن على الأرض أصبح في أسوء حالاته منذ إعلان نشأته في 2013، فالتنظيم يواجه خسائر متتابعة في أكثر من دولة كان ينشط فيها ، ومن المتوقع أن يكون عام 2018 عاماً للحسم وأن يعلن المجتمع الدولي نجاحه في هزيمة التنظيم الإرهابي وفق المؤشرات وتطورات خسائره حتى الأن، فالتنظيم خسر كامل الأراضي التي كان يسيطر عليها في العراق وبدأ يترنح في سيناء بعد بدء الجيش المصري عملية عسكرية موسعة وحصار أوكاره التي تنطلق منها عملياته في شبه الجزيرة، وعلى الجبهة السورية بدأ الخناق يضيق عليه أكثر في أكثر خاصة أنه يقاتل أطراف عدة في الداخل السوري، فالمعارضة السورية المسلحة وقوات التحالف الدولي من جهة والأكراد من جهة أخرى وفي بعض الأحيان القوات الحكومية السورية، حتى وإن كان التقدم على هذة الجبهة أبطئ، بسبب تركيز القوات الحكومية السورية بمساعدة حلفائها الروس والإيرانيين في القضاء على المقاومة التي يشكلها المتمردون السوريون المناهضون للأسد وإخماد الإنتفاضة السورية التي دخلت عامها الثامن، بينما محاربة تنظيم داعش لا يشكل أولوية أولى بالنسبة للحكومة السورية، بالإضافة الصراع المستمر بين القوات التركية وقوات الفصائل الكردية السورية، فكل هذة العوامل أدت إلى تعقيد الهجوم البري ضد التنظيم على الجانب السوري.
ولكن تتجلى في أفق هذة الأجواء الإنهزامية للتنظيم عدة تساولات هامة عن السيناريوهات المستقبلية للتنظيم، فماذا بعد سقوط داعش عسكرياً؟ وما مصير المتبقي من مقاتليه خاصة الأجانب منهم؟
فأقرب السيناريوهات المتوقعة للحقيقة بعد هزيمة تنظيم داعش وفقدان سيطرته على دولته المزعومة، أن يستمر عناصره في الوجود كمجموعات إرهابية عنقودية مشتتة ولن تختفي التنظيمات الإرهابية في الشرق الأوسط بين ليلة وضحها، خاصة في ظل سيطرة إيران ومليشياتها الطائفية في العراق وسوريا على المناطق التي ينسحب منها التنظيم مما يساعد على تأجيج مشاعر الجماعات الجهادية السنية خاصة أن المليشيات الشيعية التي كانت تحارب داعش تمارس إنتهاكات عشوائية ضد المدنيين في المدن المحررة كنوع من العقاب على قبولهم التعايش في دولة التنظيم، لذا من المتوقع أن الجماعات الجهادية ستحاول تجميع شتاتها لكي تعود لتنتقم من جديد من كل من ساهم في هزيمة دولتهم وتشتيت مقاتليهم وعلى رأس أهدافهم مصالح الدول الغربية التي شكلت رأس الحربة في التحالف الدولي الذي قضى على طموحات الدولة التنظيم في التمدد.
وكل هذا سيؤدي إلى نتيجة غير مرغوب فيها، فهزيمة تنظيم داعش لن ينهي صراعات الشرق الأوسط، وقد تؤدي في الواقع إلى زيادتها في المستقبل ما دامت إيران تحاول ملئ الفراغ الناتج عن تراجع قوة التنظيم، ومحاولة وروسيا تعظيم تواجدها الإستراتيجي في الشرق الأوسط، فقوات التحالف الدولي المتمركزة على الأرض ستبقى لمدة حتى تستقر الأوضاع الأمنية في هذه المناطق ولصد أي رغبات روسية للتدخل في رسم المستقبل السياسي لدول الشرق الأوسط المتعافية من الخطر الداعشي، بالإضافة إلى الحفاظ أيضاً على أمن الحلفاء كالأردن وإسرائيل.
وأحد السيناريوهات المطروحة بقوة، هو إحتمالية إنضمام وإنخراط معظم عناصر التنظيم الناجية في تنظيمات الجهاد الكلاسيكي الأخرى ومن أهمها تنظيم القاعدة على الرغم من العداوة المتبادلة بين تنظيم داعش والقاعدة، حيث يصف الموالون في القاعدة تنظيم “الدولة الإسلامية” بأنهم “متطرفون” و “خوارج” و “تكفيريين”. فإن فتاوى شيوخ داعش، بدورها، وصفت أنصار القاعدة بأنهم “يهود الجهاد” و”مهرطقين”، إلا أن هذا الانقسام في جوهره إنقسام ظاهري وصراع سياسي على زعامة التيارات الجهادية في العالم، لكن في حقيقة الأمر تتشابه الأراء الفقهية لشيوخ هذة التنظيمات وتنطلق من قواعد فقهية واحدة، غير أن معظم المنتسبين لتنظيم الدولة كانوا من أنصار تنظيم القاعدة قبل ظهور داعش، فالتيارات الجهادية تتمركز في مدينة الموصل منذ عام 2004، وهذا يفسر سقوط المدينة بسهولة في قبضة تنظيم داعش، فكثير من الجهاديون العراقيون وجدوا ضالتهم في الإنتساب إلى تنظيم داعش أملاً في إعادة إحياء المبادئ الجهادية خاصة أن داعش أعتمد على إستخدام تكتيكات عصرية وخطط عسكرية متطورة عن الأساليب التي كان يستخدمها تنظيم القاعدة.
وقد يلجأ بعض مقاتلي التنظيم مستقبلاً إلى الإعتماد على شبكات الأنترنت بشكل مكثف لإعادة جمع شتات مقاتليه الناجون والهاربون من القتال، فسوف يعتمد التنظيم على تعظيم تواجده على الفضاء الألكتروني لكي يعوض خسارته الأراضي وسوف يظل يقاوم لفترة حتى في ظل فقدانه للموارد المالية التي كان قد أكتسبها من خلال إستغلال الموارد الإقتصادية في المناطق التي سيطر عليها.
فأعضاء التنظيم يرون أن الخسائر العسكرية التي حدثت لدولتهم ما هي إلا محنة صعبة ولكن يمكن التعامل معها عن طريق إطالة أمد المعارك على الأرض لكي يكسب التنظيم الوقت حتى يستطيع أن يعيد النظر في خططه العسكرية وتمركزاته المناطقية أو لكي يوفر فرار آمن لمقاتليه لخارج مناطق الحرب في أسوء السيناريوهات.
لذلك فمن المرجح أن داعش لن يُهزم نهائياً في الأشهر والسنوات المقبلة حتى في حالة القضاء على تواجده وإزاحته من الأراضي التي يسيطرعليها، وسوف ينقل التنظيم تعاملاته وتواصله مع أعضاءه السابقين من خلال التواصل عبر شبكات التواصل الإجتماعي، خاصة أن لازال البعض من السكان السنة المحليين يواصلون التعاطف مع فكرة دولة الخلافة الإسلامية نجدة لهم من الطائفية وممارسات بعض التيارات الإقصائية والتي كانت سبب من أهم أسباب لجوء البعض إلى الإلتحاق بصفوف التنظيم، فلازال البعض منهم يرون أن العيش تحت سيطرة دولة داعش أفضل لهم من العيش في كنف الحكومة العراقية والسورية الظالمة والمجحفة لحقوقهم على حد قولهم.
فداعش تنتقل إلى المرحلة التالية من دورة حياتها، وتتحرك تحت الأرض وعلى شبكة الإنترنت وسيضاعف التنظيم بلا شك جهوده وتواجده في الفضاء السيبراني، في المكان الذي يتمتع فيه منذ سنوات بملاذ نسبي وهو العالم الذي أستطاع من خلاله جذب وتجنيد الآلاف من الأعضاء الجدد من جميع أنحاء العالم.
ومن خلال أستخدام وسائل الإتصال التكنولوجية سيتمكن داعش من دعم مناصريه في دول مختلفة وإعطاءهم التعليمات والتوجيهات اللازمة بشن هجمات في المناطق الواقعة خارج سيطرته وللتنظيم تاريخ حافل من استخدام الفضاء الإلكتروني والتكنولوجيا على نطاق واسع بطرق مبتكرة.
فداعش سيحاول تطوير هياكله الإعلامية لمساعدة أعضائه على تجنب الملاحقة الأمنية لدى عودتهم للدول التي قدموا منها في مطلع الحرب كما سيستخدم هذة المنابر في إيصال تعليمات التنظيم لهؤلاء العناصر والمعلومات التي تساعدهم على التخفي والإختباء النسبي وكيفية التخطيط والإعداد لتنفيذ عمليات إرهابية عنقودية في مجتمعاتهم.
فجميع أجهزة الإستخبارات الكبرى أجمعت على أن القضاء على دولة داعش لن ينهي الإرهاب بشكل جذري، فالتنظيم هو أحد الحركات الجهادية الدولية الذي يمتلك تنظيمات فرعية وجمعات تدين له بالولاء، في حوالي 50 دولة بما في ذلك الولايات المتحدة، خاصة أن كثير من هذة الجماعات الموالية تنتشر في مساحات جغرافية متباعدة في مختلف قارات العالم وتنشط هذة الجماعات وتتحرك على الأرض وتنفذ عمليات إرهابية من قبل ظهور التنظيم وإعلان نشأته بشكل رسمي، فكثير من هذة الجماعات لا ترتبط بداعش عضوياً وتعتمد على إستراتيجية الذئاب المنفردة في تنفيذ عملياتهم ولم يأخذوا تعليماتهم من الموصل أو الرقة بشكل مباشر، ويقتصر إرتباطهم بداعش على الإرتباط الإيديولوجي والقليل من الدعم المالي واللوجيستي والذي قد يتم تحجيمه بعد إستعادة الأراضي التي يسيطر عليها التنظيم وليس إنقطاعه.
فإنهيار داعش سيكون له تأثير نفسي عميق على الجهاديون، لكنه لن يلغي وجودهم وبدلا من ذلك سيواصل تنظيم داعش إظهار قدرته على التكيف والتعديل والتحول إلى واقعه الجديد. ومن المرجح أن يؤدي فقدان أراضيه السورية والعراقية إلى زيادة نشاط المتطرفين في تلك البلدان وزيادة الهجمات الإرهابية التي يشنها تنظيم داعش في جميع أنحاء العالم وليس اقليم الشرق الأوسط فقط، وسيغلق الفصل الأول للدولة الإسلامية قريبًا.