"يابنى كونا للظالم خصما و للمظلوم عونا"..الإمام علي (عليه السلام)

رومانسية سعودية.. الاختلاط يبدأ في المملكة من أجل العمل والحب والتغيير يتوقف على بوابة الجامعة

هاف بوست عربي 

كأنه مشهد من فيلم رومانسي، امتزجت الألوان السوداء مع البيضاء على ألحان عزف البيانو، بيد موسيقار عالمي.

هذا المشهد ليس في باريس أو فيينا، بل في وسط مدينة الرياض، حيث جلس رجال سعوديون يرتدون ملابسهم البيضاء التقليدية، إلى جانب زوجاتهم بعباءاتهن السوداء، مع عائلاتهم، يستمتعون بمقطوعات موسيقية لآلة البيانو تصدح في حفلة العازف العالمي اليوناني ياني.

الشابة السعودية مها الحسيني (24 عاماً)، التي تروي لـ”هاف بوست عربي” تفاصيل هذا المشهد، تقول إنها لن تنساه.

ولا تزال مها مأخوذة بالمشهد الذي كانت جزءاً منه، قائلة “الأجواء كانت جميلة ومليئة بالحب، رغم أنها لا تشبهنا كسعوديين”، حسب تعبيرها.

وحفلات العازف “ياني” هي من الحفلات “المختلطة” القليلة التي بدأت تقام مؤخراً على أرض المملكة مع تغيّر المشهد الاجتماعي بالسعودية.

وأحيا الفنان العالمي ياني عدة حفلات في السعودية، لاقت إقبالاً كبيراً، نظمتها هيئة الترفيه، بدأت بجدة وانتهت بالظهران، مروراً بالرياض، خلال شهري نوفمبر/تشرين الثاني، وديسمبر/كانون الأول 2017، بعد أن تم زيادة عدد الحفلات عن المقرر في البرنامج، تلبية لرغبة الجمهور.

وبعيد انتهاء حفلته في جدة، كتب ياني على حسابه على “تويتر”: “كانت ليلة لا تصدق”، وتابع قائلاً: “هناك دوماً مرة أولى واحدة، والليلة شهدنا الكثير من المرات الأولى بالنسبة للسعودية”.

وأضاف: “الجمهور سلب قلوبنا بحماسته وحبه وشغفه وتقبله وانفتاحه”.

وأشاد كثير من المغردين بالحفل، مطلقين هاشتاغ “ياني في السعودية”، موجهين الشكر لهيئة الترفيه. وقال أحد المغردين: “كانت ليلة جميلة!.. وأخيراً نقدر نحضر حفلات لايف بدون ما نسافر”.

ونشر مغرد فيديو لحفل ياني، الذي أقيم في الظهران بشرقي المملكة قائلاً:

في المقابل انتقد البعض الحفل، حيث أحدهم:

saudi life

مشهد الاختلاط هذا لم يعد مقتصراً على الحفلات، بل حتى في الحياة اليومية بالمملكة، التي “أصبحت ممتعة أكثر من ذي قبل” كما تصفها مها، حماستها وانفعالاتها كانت واضحة من طبقات صوتها، التي علت فجأة وهي تحدثنا عن تلك التفاصيل.

يمكنك سماع الموسيقى في العديد من المطاعم، وهو ما كان محظوراً إلى ما قبل سنتين، قبل قرار الحد من نفوذ هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، المعروفين باللحى الطويلة واللباس القصير.

وقلَّ أيضاً قلق الشباب من تعقُّبهم واعتقالهم من جانب أفراد الهيئة.

ففي ركن هادئ في مقهى بالرياض، بينما كانت ترتشف مها وصديقتها القهوة، عاشتا لحظة خارج سياق كل ما لم يكن مألوفاً من قبل “شاهدنا شاباً وفتاة من الواضح أنَّهما في موعد غرامي. هذا الاستنتاج توصلتا إليه بعد ساعة من متابعة حركاتهما، تقول مها: لقد كانا أول ثنائي بالنسبة لي أشاهدهما وجهاً لوجه في مكان خارجي”.

سابقاً، كان الظهور في العلن مع شخصٍ من الجنس الآخر لا تربطهما معاً صلة قرابة في السعودية يعرِّضهما معاً لخطر التوقيف والاعتقال من قِبل الشرطة الدينية، التي كان يخشاها الجميع.

أعمل مع الرجال وأستعمل المصعد معهم.. لأول مرة

saudi lifestyle

ولكن المفارقة، أن مها نفسها المتحمسة لفكرة الاختلاط والانفتاح، ما زالت هناك جهة غضبها يُقلقها، وهذه الجهة ليس سلطة رسمية أو دينية.

مها تخشى أن يزورها والدها في مقر عملها في إحدى شركات الدعاية والإعلان.

تقول: “ليست شركتي وحدها التي يعمل فيها الرجال إلى جانب النساء، فالاختلاط بين الجنسين في كل مكان، ولكن من الصعب على كبار السن تقبل تلك الفكرة بسهولة”.

خفضت صوتها وهي تصف لنا أجواء عملها هامسة، وكأنها تخشى أن يسمعها أحد من عائلتها: “لسنا مجبرات على التحدث مع الرجال في مقر عملنا، لكن هناك أحاديث تفرض نفسها ضمن سياق العمل”.

وكان برنامج التوطين بالمملكة قد رفع نسبة توظيف السعوديات في القطاع الخاص بنسبة 7% خلال العام 2017، مقارنة بعام 2016، ما أتاح فرصة للعديد من الفتيات اللواتي ينتمين لأسر تعد منفتحة اجتماعياً نسبياً باقتحام مجالات مختلفة من العمل.

مها، وهي واحدة من كثيرات ممن وجدن فرصتهن في العمل بعد بحث شاق استمر 3 سنوات من التخرج، لن تمانع إن صادفت زميلاً لها في مصعد الشركة، أو طلب آخر منها أمراً ما في العمل.

الأكثر من ذلك أن أرباب العمل في بعض القطاعات الذين ينتمون إلى الوسط الليبرالي أو المتحرر، أتاحوا المجال للفتيات والشباب للجلوس معاً، دون الفصل بينهم.

ففي الوقت الذي قد يبدو فيه السعوديون المحافظون والأكبر سناً قلقين من وتيرة التغيير، فإنَّ الجيل الأصغر يرحب به.

كل شخص فينا يقرر اختياره الآن.. هل انتهى الماضي حقاً؟

تقول مها “الناس مختلفون الآن، كل شخص لديه الخيار لفعل ما يلائمه، فإذا كنت ترغب في الذهاب إلى حفلة، يمكنك فعل ذلك، وإذا كنت ترغب في البقاء بالمنزل، يمكنك فعل ذلك أيضاً”.

فهي تؤمن أن هذه التغييرات ستجعل الحياة في السعودية “مثل أي بلد آخر، لقد أغلقنا الباب على الماضي، ولن نعود إليه، هذا أمر محسوم” بحسب قولها.

قد يبدو أن الأمر يسير بشكل جيد بالنسبة للمتحررين اجتماعياً، إلا أن الجهة المقابلة منهم، وهم المحافظون لن يكون من السهل عليهم تقبل تلك التطورات الاجتماعية.

وتجدّد الجدل حول الاختلاط في السعودية مع توجهات الأمير محمد بن سلمان ولي العهد السعودي، الرامية لانفتاح المجتمع السعودي، والتي شملت تقليص سلطات هيئة الأمر بالمعروف وإنشاء هيئة للترفيه والسماح بالاختلاط في الاحتفال باليوم الوطني السعودي الـ87، الأمر الذي أثار جدلاً في البلاد.

وقال ولي العهد السعودي في حوار مع صحيفة نيويورك تايمز الأميركية: في عهد النبي محمد انتشرت المسارح الموسيقية، وكان هناك اختلاطٌ بين الرجال والنساء، محملاً الثورة الإسلامية في إيران في حوار آخر مع صحيفة الغارديان البريطانية مسؤولية التشدد في بلاده، نظراً لأنها استنفرت رد فعل داخلياً في مواجهة تشددها.

وبينما يرفض الكثير من المحافظين الاختلاط، بدعوى أنه مخالف للشريعة، فإن موقف المؤسسة الدينية يبدو مرتبكاً.

المفتي يتلعثم عند سؤاله عن هذه التغييرات!

المفتي العام للسعودية، الشيخ عبدالعزيز بن عبدالله آل الشيخ، سبق أن قال إن الاختلاط بين الجنسين في المملكة يعرض النساء والمجتمع للخطر، وذلك في وقت كانت البلاد تشهد حراكاً بشأن تطبيق حقوق المرأة، لاسيما منذ بداية عهد الملك عبدالله بن عبدالعزيز عام 2005.

وآنذاك حذّر المفتي في خطبة الجمعة من الاختلاط بين الجنسين، قائلاً: “على السلطات أن تلتزم بالشريعة، وأن تحرص على الفصل بين النساء والرجال دوماً”.

وفِي عهد الملك سلمان علّق المفتي على إعلان “هيئة الترفيه” في المملكة الترخيص بالحفلات الغنائية، ودراسة إنشاء دور السينما، بأن الحفلات الغنائية والسينما “لا خير فيها، وضرر وفساد، كله مفسد للأخلاق، ومدمر للقيم، ومدعاة لاختلاط الجنسين”​.

ولكن المفتي تلعثم في أحد البرامج، بعد أن انتقد جندي سعودي، قال إنه يرابط في الحدود الجنوبية ضد الحوثيين الاحتفالات الصاخبة، والرقص، والاختلاط الذي رافق الاحتفالات باليوم الوطني، معتبراً هذه الاحتفالات تعرقل النصر.

في المقابل، قال عدد من العلماء مثل الشيخ الدكتور عبداللطيف بن عبدالعزيز آل الشيخ، مساعد أمين ثاني عام هيئة كبار العلماء في السعودية سابقاً، إن الاختلاط كان موجوداً في صدر الإسلام، وعرفناه في الرياض إلى عهد قريب، مؤكداً وجوب التفريق بينه وبين الخلوة. كما أكد الشيخ أحمد الغامدي، مدير فرع هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في مكة المكرمة جواز الاختلاط، نافياً أن تكون إجازته للاختلاط تفتح باب الفساد أو تسوغ الحرام.

أما فيما يتعلق بموضوع الاختلاط في المدارس والجامعات التي يمكن أن تشكل الجبهة الأسخن في هذا الموضوع، فقد أحال الغامدي القرار إلى ولي الأمر قائلاً: تقدير ذلك كله وتنظيمه يرجع فيه لاختيار ولي الأمر، الذي يختار ما هو أصلح لمصالح الناس، ويلزم الناس طاعته.

لكننا ننتظر التغيير داخل الحرم الجامعي

وحتى الآن، لا يزال مبدأ الفصل بين الجنسين في المدارس والجامعات هو سيد الموقف، فالخوف يعتري العديد من أوساط المحافظين “من تمدد رحى التحرر لتصل إلى المؤسسات التعليمية” كما يقول الشاب السعودي مازن البنوي، الطالب الجامعي في كلية الاقتصاد والإدارة، بجامعة الملك عبدالعزيز لـ”هاف بوست عربي”.

ويضيف: “هذا أمر ليس مستبعداً حدوثه، في ظل التوجه الحكومي لإزالة المزيد من القيود الاجتماعية”.

ولكن يبدو أن ستايل البنوي وارتداءه بنطال الجينز وقميصاً من ماركة راقية، على عكس أصدقائه الذين كانوا يلبسون الملابس البيضاء التقليدية، لا يعني أبداً أنه سيتقبّل فكرة الجلوس مع الفتيات في أروقة الجامعة.

“نعم، لا يمكننا استبعاد ذلك، فقد يسمح للاختلاط داخل الجامعات السعودية، إلا أن ذلك لا يعني بالضرورة أن تجد الطلاب والطالبات يجلسن معاً داخل أروقة الجامعة، فلا زال مجتمعنا محافظاً، وتلك التصرفات قد تكون محل استنكار الجميع”.

هكذا علق مازن البنوي، على احتمالات الاختلاط في الجامعة.

على عكس مها، فإن مازن يعتبر الاختلاط أمر غير مقبول وخروجاً عن العادات والتقاليد، تلك العادات التي لطالما وُضعت قيود عليها وعلى كثيرات مثلها، ولكن مها تقول الآن بثقة “على المحافظين أن يتأقلموا مع ذلك، لأنه لا يمكنهم تجنب موجة التغيير بعد اليوم”.