شفقنا- ليس هناك في العقيدة اليهودية ما يدعو لهذا البحث المتحمس عن الهوية لدى الإسرائيليين باستخدام عاصمتهم. بل على العكس من ذلك فإن هذا البحث هو نوع من الخلاص الوثني.
كان ذلك مقدمة مقال أعده البروفيسور اليهودي عُمري بويم، أستاذ الفلسفة في أمريكا، يصف فيه سعي اليهود لجعل القدس عاصمة لإسرائيل بأنه لا يقل انحرافًا عن العقيدة اليهودية التي يتخذ فيها اليهود «عجل الذهب» إلهًا من دون الله، لذلك فقد عنون الكاتب مقاله الذي نشرته صحيفة «دي تسايت» الألمانية، في 19 ديسمبر (كانون الأول) الماضي بعنوان: «القدس، عجلنا الذهبي».
يقول بويم إنه في أبريل (نيسان) عام 2010 أطلق البروفيسور الأمريكي-اليهودي إيلي فيزل حملة إعلانات على صفحات كاملة في صحف «نيويوررك تايمز» و«واشنطن بوست» و«وول ستريت جورنال». شملت هذه الإعلانات بيانًا من أجل القدس كان عبارة عن مرافعة من أجل السيادة اليهودية على المدينة جاء فيها: «القدس فوق السياسة. ذكرت المدينة أكثر من 600 مرة في الكتاب المقدس ولم تذكر مرة واحدة في القرآن. (…) بالنسبة للكثير من علماء الدين اليهود فإن القدس هي التاريخ اليهودي (…). إنها تخص الشعب اليهودي. (…) القدس هي قلب قلبنا، روح روحنا».
اعتمدت ردود الفعل اليهودية على قرار ترامب بشأن القدس غالبًا على موقف مشابه من موقف فيزل – بحسب ما يرى بويم – وبهذا المعنى كتبت الكاتبة الإسرائيلية زيرويا شاليف الأسبوع الماضي في صحيفة «دي تسايت» أن القدس كانت بالفعل «قبل 3 آلاف سنة» عاصمتنا وقالت إنه كان هناك مَلك يهودي في القدس «مئات السنين قبل محمد، قبل القرآن». ورأت شاليف أن إعلان ترامب لا يحقق فقط «عدالة تاريخية» بل أيضًا «عدالة أدبية».
هذه التصورات النمطية تميل للتبسيط والتضليل بشكل صارخ. ويضيف بويم: «فمن ناحية فإن قلب قلبنا هو التوراة، وفي التوراة لا يذكر اسم القدس. هناك مراكز حضرية أخرى ذات أهمية في التوراة: فمدينة الخليل ترتبط بشدة بالنبي إبراهيم، وفي بيت إيل تغير اسم يعقوب بشكل بالغ الرمزية إلى إسرائيل. لم يسمع موسى أبدًا عن القدس ولم يحلم بها يوسف أبدًا. تبرق القدس في العقيدة التوراتية من خلال غيابها».
ويدلل الكاتب على وجهة نظره من الكتاب المقدس، فيقول إن القدس لم تكتسب أهمية إلا بعد أن طلب بنو إسرائيل ملكًا «كسائر الشعوب» أي بعد أن طلبوا أن يُحكموا بسلطة سياسية علمانية بدلًا من أن يُحكَموا بشكل مباشر من قِبل الرب (سفر صموئيل الأول، الإصحاح الثامن: 5). وفهم صموئيل هذا المطلب على أنه عمل احتيالي من أعمال الشرك. كان حكم صموئيل على هذا العمل هو نفس حكم الرب بلا ريب حيث أشار الرب إلى أن بني إسرائيل «عبدوا آلهة أخرى» و«تركوني» (سفر صموئيل الأول، الإصحاح الثامن: 7) وأوضح لصموئيل أن بني إسرائيل يتمردون ضد ربوبية الرب مباشرة «لأنهم لم يرفضوك أنت بل إياي رفضوا حتى لا أملك عليهم» (سفر صموئيل الأول، الإصحاح الثامن: 7 و8).
وإلى جانب واقعة العجل الذهبي فإن طلب بني إسرائيل الحصول على ملك «كسائر الشعوب» هو مثال نموذجي من الكتاب المقدس على الشرك بالله – بحسب الكاتب – وهو من أكبر الكبائر. بدءًا من لحظة الشرك هذه أصبحت السياسة اليهودية متمركزة في القدس. وببناء المعبد وطدت العاصمة العلمانية سلطتها السياسية العقائدية. لطخت هذه البدايات القدس بشكل دائم: يمكن لعلاقة مناسبة لليهود بهذه المدينة أن تكون في أفضل أحوالها علاقة حب متناقض وليست علاقة هوية جياشة.
إن عظمة الأنبياء اليهود تتمثل أيضًا في إصلاح مثل هذا التناقض. فهم يعرفون أن القدس ليست مدينة الرب بل مكان بشري لعلماء الدين ورجال السياسة والملوك. إذا كان الذنب الأصلي للمدينة هو أنها وُلدت من رغبة بني إسرائيل في أن يكونوا «كسائر الشعوب» فإن مشروع الأنبياء هو جعل بني إسرائيل قدوة للشعوب. هكذا يرى بويم.
ويضيف أن العدول عن النموذج الوثني للقدس كان هو وراء صياغة النبي أشعياء التي جاء فيها أن على بني إسرائيل أن يصبحوا من خلال «العدالة» «نور الأمم» (أشعياء 42، الآية 6). ولكن هذا العدول ظل غير مكتمل، ولم تصبح القدس نفسها نموذجًا للعدالة والسلام لكل الشعوب إلا بوصول المسيح. «لأنه من صهيون تخرج الشريعة ومن أورشليم كلمة الرب»، «وتسير شعوب كثيرة، ويقولون: هلم نصعد إلى جبل الرب، إلى بيت إله يعقوب، فيعلمنا من طرقه ونسلك في سبله. لأنه من صهيون تخرج الشريعة، ومن أورشليم كلمة الرب»، «فيقضي بين الأمم وينصف لشعوب كثيرين، فيطبعون سيوفهم سككًا ورماحهم مناجل. لا ترفع أمة على أمة سيفًا، ولا يتعلمون الحرب في ما بعد».
وبالفعل تُحرم الشريعة اليهودية أي حكم يهودي على القدس (أورشليم) قبل وصول المسيح وتحقق نبوءة أشعياء – يقول بويم – لذلك فإن اعتراف ترامب بالقدس عاصمة إسرائيل ليس هو وحده الذي يتناقض بشكل حاد مع الدين اليهودي بل ينسحب الأمر نفسه على إعلان بن جوريون استقلال إسرائيل. لم ينس الصهاينة الدينيون هذا الحظر بل جعلوه أساسًا لعقيدتهم: لقد أعلنوا رغبتهم الصهيونية الوثنية في تأسيس دولة قومية «كسائر الشعوب» كبداية لوصول المسيح.
يرى الكاتب أن هذا المزيج من الوثنية والخلاص أسفر عن الأصولية التي نعرفها اليوم عن حركة المستوطنين الدينية الصهيونية التي تتمثل في تقديس دولة إسرائيل مربوط بتقديس وثني للأرض. أصحبت القدس حقًا من خلال هذا المزيج السام نموذجًا، ولكنه نموذج يبعد كثيرًا جدًا عن تصورات أشعياء عن العدالة والسلام.
أصبحت هذه العبادة المسيحية الوثنية منتشرة كثيرًا أيضًا خارج حركة المستوطنين وحكومة نتنياهو،حيث رحب آفي جباي، رئيس حزب العمل، أكبر حزب إسرائيلي معارض، بقرار ترامب قائلًا: «قدس موحدة أهم من السلام». وكان جباي قد قال قبل قرار ترامب بأسبوع إن يسار إسرائيل: «نسوا ما تعنيه حقيقة أن يكون الإنسان إسرائيليًا».
تسير تعليقات جباي على نفس خط تصور فيزل أن القدس «فوق السياسة» لأنها «قلب» لـ«قلب» يهودي. هناك صيغة كارثية من المسيحية الوثنية تميز الإجماع اليهودي بشكل متزايد. ويوضح بويم: «أخبرني أستاذ الأدب العبري نيسيم كالديرون مؤخرًا أنه كان من المنتظر من كل من لديه قليل العلم بالأدب العبري الحديث أن يعلم أن أنبغ عقولنا قد رفضت اعتبار القدس رمزًا لليهودي الجديد الذي يتمتع بالسيادة».
ويضيف الكاتب أن ذلك على غرار الأديب اليهودي شموئيل يوسف عجنون في روايته «أمس وأول الأمس» – التي يتناول فيها حياة اليهود في فلسطين منذ بداية القرن العشرين – وبرينر وألترمان كتبوا بخوف وامتعاض وبشكل رافض عن القدس. وبالفعل فقد كان لدى جميعهم – مثل الأنبياء – علاقة ارتياب بالمدينة، أو في أفضل الحالات مثل عجنون علاقة من الحب المتناقض.
أما شاليف فيرى في إعلان ترامب تعبيرًا عن «العدالة الاجتماعية» ولا يتمنى سوى أن يكون هذا الإعلان قد صدر من فم أوباما وليس من فم «الرئيس المضحك والخطير» – يقول بويم – ولكن من الناحية الأدبية فإنه من المناسب جدًا أن يدفع قطب العقارات في البيت الأبيض بتحويل القدس إلى عجل ذهبي للأمام.
ليس يسار إسرائيل هم من نسوا ما تعنيه حقيقة أن تكون يهوديًا. لم تكن القدس أبدًا فوق السياسة ولم تكن أبدًا قلب قلوبنا، هكذا قال بويم، ويضيف: «إن الأركان التي لا تكون اليهودية إلا بها هي مكانة التوراة ومبدأ العدالة الخاص بالأنبياء. ولكننا نعرف جيدًا من البداية ذلك الميل للاستعاضة عن التوراة بقدس وثنية».
مترجم عنJerusalem, unser Goldenes Kalbللكاتب Omri Boehm