البديل
طرحت الإدارة الأمريكية وثيقة استراتيجية الأمن القومي الجديدة مع نهاية عام 2017، ومن المفترض أن تكون هذه الوثيقة بمثابة دليل استرشادي لمؤسسات الدولة، وانطلقت استراتيجية ترامب من شعار “أمريكا أولا”، في دلالة على تفضيل الإدارة الأمريكية لأولوية المصالح الأمريكية حتى على حساب الايدلوجيا والقيم والأفكار، في انتقاد غير مباشر لسياسة سلفه الديمقراطي الذي طالما روج لضرورة نشر الأفكار الأمريكية في العالم.
وبشكل مباشر انتقدت الوثيقة سياسات التجارة الحرة التي اتبعتها الإدارات السابقة، ورأت أنها أفضت إلى ظهور منافسين جدد لأمريكا دون أن يتحلوا بنفس القيم والأفكار، وأصبحوا يمثلوا تهديدا على القيادة الأمريكية المنفردة للعالم.
كما يعد مفهوم “السيادة” مركزيا في فهم استراتيجية الأمن القومي الأمريكي، وجاءت صياغة الوثيقة وسياساتها متسقا مع أغلب أفكار اليمين القومي، التي تري أن هناك ثمة قومية أمريكية يجب أن تحميها الحكومات، من خلال زيادة القيود على حركة الهجرة وفرض السياسات التجارية الحمائية، وحماية الحدود ومواجهة الأخطار الخارجية قبل أن تمتد للداخل الأمريكي.
وفي هذا السياق بُنيت الاستراتيجية الجديدة على 4 محاور رئيسية لتحقيق هذه الأهداف، الأول هو حماية الإقليم الأمريكي، والثاني تعزيز الرخاء الاقتصادي للأمريكيين، والثالث هو امتلاك القوة من أجل السلام أو بعبارة أخرى ضمان القيادة الأمريكية المنفردة للعالم، والهدف الأخير كان العمل على نشر قيم ومبادئ النظام السياسي الأمريكي بالخارج.
كما تناولت الاستراتيجية التوجهات الأمريكية الجديدة حيال الأقاليم المختلفة بالعالم، وجاء الترتيب في الوثيقة ملائما لهيكل التهديدات الذي حددته، وأول هذه التهديدات هو الصعود الروسي والصيني الذي بات أهم تحديات السياسة الخارجية الأمريكية، وثاني هذه التهديدات هو الدول غير الراضية عن وضعية النظام الدولي والإقليمي وهي إيران وكوريا الشمالية، أما أخر التهديدات كان نشاط جماعات الإسلام الراديكالي، الذي رأت الوثيقة أن على أمريكا مواجهته في مواطنه الأصلية.
وجاء الشرق الأوسط كثالث الأقاليم الذي تناولته الوثيقة، بعد إقليمي الهند وبحر الصين، وأوروبا، وجاء بعده مناطق جنوب ووسط أسيا ثم منطقة أمريكا الوسطى واللاتينية وأخيرا أفريقيا.
وحددت الوثيقة الأهداف الأنية للولايات المتحدة في الشرق الأوسط على النحو التالي:
1- مكافحة الجماعات الجهادية:
رأت الوثيقة أن الهدف الأهم في الشرق الأوسط هو ألا يتحول لبيئة أمنة للجماعات الجهادية، في مقابل انخفاض حجم الاهتمام الأمريكي بنشر القيم الديمقراطية، ورأت أن الديمقراطية لا تمثل هدفا أنيا لدى الولايات المتحدة في الشرق الأوسط، ويشير هذا إلى تفضيل الإدارة الحالية التعاون مع أنظمة الحكم الحالية حتى لو كانت غير ديمقراطية، والأولوية الأمريكية الحالية هي مواجهة خطر انتشار الجماعات الجهادية من المنطقة.
2- التوازن ضد إيران:
بعد تهديدات الجماعات الجهادية، هاجمت الاستراتيجية الأمريكية دولة إيران بشكل عنيف، ورأت انها أكثر دولة تمثل تهديدا لمصالح أمريكا في الشرق الأوسط، ويتسق هذا مع الرغبة الأمريكية في ضمان عدم هيمنة أي قوة غيرها على الأوضاع في أحد الأقاليم، ما يدفعنا للقول إن الفترة القادمة ربما تشهد تصعيدا وتوترا في العلاقات بين أمريكا وإيران، خاصة أن الوثيقة ذكرت أن الاتفاق النووي مع إيران لم يردعها عن ممارسة بعض الأعمال العدائية داخل الإقليم.
3- إسرائيل ليست المشكلة:
اتخذت الاستراتيجية الأمريكية من التقارب بين بعض الدول العربية وإسرائيل ذريعة للقول إن إسرائيل لا تمثل مشكلة في المنطقة، ويدل هذا على تراجع الاهتمام الأمريكي بالصراع الفلسطيني- الإسرائيلي، الذي باتت تراه لا يمثل تهديداً يذكر للمصالح الأمريكية في المنطقة، طالما العلاقات العربية الإسرائيلية في حالة تقدم.
4- المجالات الاقتصادية:
ترى الوثيقة أن المناخ الاقتصادي المتراجع يتم استغلاله من قبل الجماعات الجهادية، لذا ستتجه أمريكا ناحية التعاون الاقتصادي مع الدول القريبة منها في المنطقة وخصت بالتحديد مصر والسعودية، من خلال دعم برامج الإصلاح الاقتصادي في هذه الدول، وتعزيز الشراكة الاقتصادية معها، بالشكل الذي يحفز عملية الاستقرار الاجتماعي والتوازن، انطلاقا من مبادئ السوق الحر التي تروج لها الولايات المتحدة.
كما حددت الوثيقة خطة تحرك عاجل للولايات المتحدة في الإقليم، واحتوت عناصر الخطة على ضرورة التحرك السريع لدعم أمن دول المنطقة أمام الجماعات الإرهابية، وتعزيز التواجد الأمريكي في العراق، ومحاولة الحد من الصراع في سوريا، وتحييد الدور الإيراني وضمان عدم امتلاكه للسلاح النووي، وأخيرا تسهيل التوصل لاتفاق بين الفلسطينيين والإسرائيليين، ومن الناحية العسكرية نصت الوثيقة على الاحتفاظ بالوجود العسكري (الضروري) للقوات الأمريكية بالمنطقة، بهدف إحداث توازن القوى، والدفاع عن الحكومات الضعيفة أمام هجمات الجماعات الجهادية، وكذلك تعزيز قواتها الدفاعية في صد الحركات التمردية بالداخل، والقيام بدعمها في مجال الدفاع الجوي، خاصة أنظمة مواجهة الصواريخ.
ومن قراءتنا لنص الوثيقة يمكننا القول إن سياسة الإدارة الأمريكية تجاه الشرق الأوسط ستأخذ شكلاً محافظاً ينطلق من مبادئ الواقعية الدفاعية، وبهذا تتخلى أمريكا عن محاولاتها السابقة في إحداث تغييرا بخريطة أنظمة الحُكم في الإقليم، كما من المستبعد أن تدفع القضية الفلسطينية للأمام، التي جاء تضمينها في الوثيقة بشكل دخيل، نعتقد إنه يراعي الرأي العام العربي أكثر منه يعكس هدفا للسياسة الخارجية التي باتت ترى أن إسرائيل لا تمثل خطرا بالنسبة للدول العربية.
والتحول الثاني في الوثيقة هو تراجع هدف الديمقراطية كهدف سبق وأن لعب دورا محددا في توجهات أمريكا حيال المنطقة منذ مطلع الألفية على الأقل، إلا أن هذا لا يعني غياب الملف تماما عن توجهات السياسة الخارجية في المنطقة، وعلى الأرجح ستستخدمه في الضغط على بعض الأنظمة وفقا لسياسة ” العصا والجزرة”.
وفي مقابل هذا يحتل هاجس الانخراط العسكري الروسي في المنطقة مكانة متقدمة في إدراك صانع القرار الأمريكي، وإن كان لم يتم الإشارة إليه بشكل واضح في نص الوثيقة، إلا أن الحرص الأمريكي على إعلان حفاظها على القوى العسكرية يعتبر انعكاسا لهذا، إلا أنه أيضا من غير المرجح أن تتوتر العلاقات مع روسيا على خلفية النزاعات في المنطقة، وربما تكون المنطقة الأكثر أثرا في طبيعة العلاقات الأمريكية الروسية هي أوروبا وبحر الصين.
وأخيرا تحتوي الوثيقة على إشارة غامضة بعض الشيء عن نية الإدارة الأمريكية في التعاون ضد خطر الجماعات الجهادية، والتي نصت المبادئ الرئيسية للوثيقة على ضرورة التوجه نحو محاربة هذه الجماعات في مواطنها الأصلية، ما قد يمهد الأمر مستقبلا لحدوث تدخلا عسكريا أمريكيا في حال شهدت المنطقة نشوء بؤر تمركز إرهابية جديدة، ما يمثل خطرا على مصر بالتحديد، خاصة عقب التواتر الدولي في الإعلان عن انتقال بعض العناصر الجهادية إلى سيناء خلال الفترة الماضية، وسبق وأن أعلن الرئيس الأمريكي استعداده لمشاركة مصر في عملية مكافحة الإرهاب خلال لقاء جمعه بالرئيس المصري في وقت سابق خلال عام 2017، وهو أمر يُحتم على صانع القرار المصري أن يفحص احتمالاته بدقة.