"يابنى كونا للظالم خصما و للمظلوم عونا"..الإمام علي (عليه السلام)

عندما يمارس العرب السياسة

 هاف بوست :
عادل العياشي مدون مغربي
 عندما تُمعنُ النظر في السياسة العربية -الخارجية خصوصاً- فكأنَّك أمامَ رُبّانٍ مغمور يقودُ مركباً ضخماً في عرض البحر على غير هدى، لا يدري إلى أينَ يَسير، فيتيهُ بين الأمواج والعواصف، لا يُفكّر في شيءٍ سوى في النجاة بِجلدهِ من مصيرٍ مَحتوم، وخوفاً على نفسهِ من أنيابِ القروش المُتربّصة، وثقلِ النَّفائس والمُعدّات، يبدأ هذا الربّان المجنونُ برَمي كل ما يَحمله المركبُ من ذهبٍ وأموالٍ كانت في مِلك الرعيّة، دون أن يتخلّص أولاً من المُعدات التي لا طائلَ من ورائها، هذا هو حالُ سياسة العرب، يخوضون في قضايا كبيرة، ويتخذون قراراتٍ مصيرية، وهم عاجزون حتى عن حلّ مشكلٍ بحجم بعوضة، وبمجرد أن تتعقّد الأمور بعض الشيء، يبدأون في تقديم التنازلات المُرّة بطعم العلقم دونما تردّد، فتنتهي تخبّطاتهم بالفشلِ والخسران، وأصبحتْ بالتالي هذه الحلقة المفرغة عادةً نتوارثها عهداً بعد عهد: أينما حلّتْ سياسةُ العرب حلّ الخرابُ والدمارُ وتولّدتِ الأهوالُ والأزمات.

إذا نظرنا إلى السياسة على أنها بلورةُ قراراتٍ مُلزمة ترومُ إلى رسمِ أهدافٍ محددة ضمن مخطّطٍ محكمٍ مدروسِ النتائج، يتفاعلُ مع محيطه ويستجيب له، فإن هذا الطرح لا ينطبق البتّة على الواقع العربي، عندما يمارسُ العربُ السياسة فانتظر العجائب، فهُم يُخرّبون القائمَ ويهدّمون الواقف ويعيثون في بلاد الله فساداً ودماراً، فيجلبون المحتلَّ عن طواعية لأراضيهم بأموالهم ودولاراتهم ثم يتباكَوْن بالشعارات والتنديدات الفارغة، يبيعون أرضهم رخيصةً مقابل ابتسامة، أو وجهٍ حسن، أو وعدٍ كاذب، ثم بعد ذلك يصيحون: مُؤامرة.. مؤامرة.

خرّبوا العراق بطائراتهم ونفطهم وغازهم وجيّشوا جيوش العالم أجمع لقصفهِ وضربهِ ومحوهِ من خريطة العالم بملايين القنابل، والآن ترتعدُ أطرافُهم كالأطفال الصغار وهم يرَوْنَ إيران تتغلغلُ في أحشاء العراق لتُحكم قبضتَها على كل مفاصله.

تركوا الأسدَ ينهشُ في لحم سوريا الجريحة -آخر معاقل كرامتهم- كما ينهشُ الوحشُ في فريسته الحيّة، فقضى على كل مظاهر الحياةِ فيها وغيّر معالمَ الدولة حتى خِلناها دولة غريبة عنّا، فتحَها للعالم كيْ يُجرّب فيها أحدث اختراعاته في مجال أسلحة الدّمار الشامل، ثم بعد ذلك يتباكوْن ويصرخون كالنساء حين دخلتها إيران غازيةً من بابها الواسع وهي خاوية على عروشها، فانصهرتْ فيها إلى الأبد كما ينصهرُ الحديد في قالبه، لم يجدوا من ملاذٍ بعد ذلك سوى أن يفرّوا إلى ماما أميركا يطلبون الغوث والنجدة، فمنحوها مليارات الدولارات لو وُزّعت على العرب جميعهم لانقرض الفقر والجهل من بلادهم ولم يبقَ فيها محتاجٌ واحد، يناشدون أميركا بأموالِهم هذه لِتحميَهم من بُعبع إيران المُخيف بعد أن صارتْ على بُعد كيلومتراتٍ معدودة من مكة والمدينة، ومن شدة فرحة ترامب من مبلغ الصفقة الخيالي، فرّ مهرولاً إلى شعبه يُبشرهم بالخبر السعيد ويعدهم بوظائف لم يحلموا بها في يوم من الأيام، مُطبّقاً بالحرف تعهداته السابقة، بالضبط كما يفعل الزعماءُ الأوفياءُ فور فوزهم بالانتخابات ليُؤسسوا قاعدة شعبية متينة تقف إلى جانبهم إذا خذلهم الجبناءُ وتنكّر لهم الغَادرون، كل هذا من خزينة الصفقة التي لم يسبقْ لها مثيلٌ في تاريخ الصفقات العربية.

انتظرنا ردّ ترامب على هذا الجميل وهذا العطاء السخي المُنقطع النظير، وإذا به يُعلنها مُدوية ويردُّ الصفقة صفعتين سُمع دويّهما من أرجاء المريخ: القدس عاصمة إسرائيل، زَلزلتْ هذه العبارة العالم العربي بأكمله، بل وأعطى أوامرهُ بالبدء الفعلي في بناء السفارة بجزءٍ من أموال الصفقة بطبيعة الحال، فكانت الضربة قاضية هذه المرة، أعادت إلى الأذهان ذكريات النكبة ووعد بلفور وكل حزينٍ وقبيح، منبئةً بقادم أكثر سوداوية وقتامة، وتنازلات هدّامة لا يعلمُ إلا الله -سبحانه وتعالى- إلى أي حدّ ستصل بنا وفي أية مزبلة ستُلقينا.

وحينما عزموا على لَعبِ لعبة السياسة التي لا يجيدون نُتفة منها، توجهوا بعد فوات الأوان إلى اليمن البلد المنكوب الذي لا حول له ولا قوة، فأوسعوه قصفاً وتدميراً من جهة، وأميركا تُوقع معهم صفقات السلاح من جهة أخرى، فغرقوا في مُستنقعه إلى حدّ لا يطاق، وأصبح الحوثيون الذين كانوا بالأمس أهون من جناح بعوضة، قوةً ضاربة في المنطقة تقف في وجههم بالمرصاد، ففُتحتْ شهية حزب الله اللبناني بعد أن وَجد الطريق معبّدة أمامه لبسط نفوذه وفرض جرأته أكثر من أي وقت مضى، جاعلاً لبنان في خبر كان.

سياسةٌ فاشلة بكل المقاييس، والدّليل ما وصلنا إليه اليوم من وضعٍ لا نُحسد عليه، فحتى مُقدساتنا تُنتهك حُرماتها وتُسلب منّا الواحدة تلو الأخرى، وأراضينا تُقطّع إرَباً إرَباً ثم تُوزّع على أعدائنا كما تُوزّع قِطع الحلوى في الأعياد، وما زِلنا مُصرين على سياساتنا الخارجية الفاشلة، حاملين شعار: النّفط مقابل البقاء، والدولار مقابل الاستقرار، لكنها صفقة خاسرة بائدة دَفعت شعوبُنا مقابلاً لها ثمناً باهظاً، فغاصتْ في براثن الجهل والفقر المُدقع، بينما أموالُنا العربية تُصرف على أميركا وحلفائها لتَقود العالمَ كما يَبدو نحوَ مرافئ السلام والأمن والاستقرار.

المالُ ليس كل شيء، فخزائنُ الذّهب تنفد إن لم نُحافظ عليها ونحرسها من أعين الطامعين الذين يحومون حولها فيَخطفون قطعاً منها في الخفاء مع أول فرصةٍ تُتاح لهم، وقد يفعلون ذلك علناً وأصحاب الحقّ نيام، ويستمر هذا الخطفُ شيئاً فشيئاً إلى أن تنفذَ الأموال والثروات وتضيع في مهبّ الريح؛ لتعودَ عصور الجِمال والخيام من جديد، وصاحب اليوم عدوُّ الغد، والزمن يدور علينا فتدور نوائبه، قال تعالى: “مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِندَ اللَّهِ بَاقٍ”.

ومتى كان بيع المقدسات والتنازل عنها لإرضاء جهة من الجهات سياسةً يقبلها ذو عقلٍ وقلب، فهو خيارٌ لم نرضَ به حتى عندما كنّا ضعفاءَ بين ثلّة من الأقوياء، وقلّة بين خلق عظيم، آمنا بحقنا وحرّرنا القدس وأعدناه إلى حظيرة المسلمين والتاريخ شاهدٌ بذلك، فكيف لا يحزُّ في نفوسهم اليوم أن تتحول القدسُ مسرى النبي الكريم وأولى القبلتين عاصمةً للكيان الصهيوني الغاصب، قتلة الأنبياء والأطفال؟! وكيف يرتدُّ لهم طرفٌ وهم يرون مآذن القدس تُمنع من رفع الأذان بعد أن ظلت “الله أكبر” لمئات السنين تملأُ جنبات المقدس وتُعطّر سماءَه؟!

وفي نفس اليوم الذي سقطت فيه القدس جريحةً بطعنة غادرةٍ في الظهر، كما يحصل معنا في كل مرة، نشتري لوحة بـ450 مليون دولار تُعتبر هي شعار الماسونية عبر العالم، ونحن عاجزون حتى عن صُنع رصاصة واحدةٍ نُدافع بها عن أنفسنا وحدودنا يوم تتكالب علينا نوائبُ الدهر وتدور علينا الدوائر والضباع، ولن ينفعنا “المخلّص” أبداً.

كي نلعبَ لعبةَ السياسة كما يلعبها الكبار، علينا أن ننطلقَ من موقع قوة ونفوذ وأرضية صلبة، وإلا سنخسرُ الرهان كما تعوّدنا مراراً وتكراراً، كُنّا نظن أن السياسةَ هي من تُحدّد موازين القوة، والعكسُ هو الحاصل، القوة هي من تَرسمُ سياسةَ العالمِ وتحدد مفترقاته، فروسيا مثلاً بدأت فِعليّا بفتح قنواتِ الحوار مع المعارضة السورية الخانعة بعد ماذا؟ بعد أن سوّتْ كل شيء بالأرض، وحرقت الأخضر واليابس، فمَكّنتها قوتها من فرض شروطها كاملة على الطاولة، وبعد أن كان العالم العربي يُراهن على تحرّك أميركا لمعاقبة إيران على سياستها العدائية في المنطقة، إذا بها ترفعُ الحصار عنها في خطوةٍ مفاجئة وتغض الطرف كلياً عن تصرفاتها، لماذا؟ لأن أميركا وجدتْ أمامها خصماً عنيداً يُجابهها من مركز قوةٍ وليس من نقطة ضعف، حتى وإن كانت إيران لا تملك من الأسلحة النووية ما تُرعب به العالم، وأنا شخصياً أرجّح ذلك، إلا أن سياستها الماكرة نجحتْ إلى حدّ كبير في إيهام العالم بقوةٍ لا وجود لها، ووُفقتْ بذلك في حصد مكتسبات مهمّة في المنطقة، كل هذا بالسياسة.

وهل تستطيع أميركا أن تُوجه ضربةً عسكرية لكوريا الشمالية رغمَ تحدي بيونغ يانغ لها المتواصل، في حين تجدُ في قصفِ عواصمَ عربية والاعتداء عليها متعةً لا تُضاهيها متعة، وانظروا كيف تُوزّع الأراضي العراقية والسورية بين روسيا وأميركا بدقّة بالغة دون أي صدامٍ عسكريّ؛ لأن كل واحدٍ منهما يَحترم ويقدّر قوةَ الآخر، وهل كانتْ روسيا عاجزةً عن الردّ العسكري ضدّ أنقرة حينما أُسقطت طائرتُها فوق الأجواء التركية؟ لا أبداً، لكنها فضّلت النأيَ بنفسها عن صراعٍ عسكري قد يجرُّ عليها الويلات خصوصاً أن تركيا دولةٌ لا يُستهان بها في المنطقة.

هكذا للأسف تُشكّل القوةُ معياراً أساسياً وعاملاً جوهرياً لتوازن الرعب بين أقطاب العالم، في حين أن سياسات العرب الخارجية من فرط غرابتها باتت تدهش حتى الأطفال الصغار.