الصراع حول حدود مصر
مصر بين الحدود والوجود
يروى أبو التاريخ و أقدم مؤرخى الأغريق هيرودوت – فى كتابه عن تاريخ المصريين – عن هوية إقليم مريوط و سكانه غرب إسكندرية، أن شعور سكان ماريا ” عاصمة إقليم مريوط “شعروا بالنفور من الحفلات الدينية المصرية، فأرسلوا يستلهمون الوحى من آمون بواحة سيوه كى يعرفوا ما إن كان ينبغى عليهم الخضوع لهذه القوانين، ﻷنهم كانوا يظنون إنهم من شعوب ليبيا، لكن الوحى أجاب بأن كل البلاد التى يصلها ماء النيل هى وطن للمصريين، و إن الأقوام الذين يشربون من مياهه إنما هم مصريون.
مصر دولة النيل منذ فجر التاريخ
الدولة هى النظام “ماعت” لمتابعة شؤن الوطن والمواطن، ولذلك هى مقدسة عند المصرى فقد عانى الكثير من أجل تأسيسها لقهر الفوضى وضبط النيل، وهذه عقيدته حتى اليوم، وفى المقابل يتنازل المصرى عن جزء من ثمار عمله للعاملين فى مؤسسات الدولة، لكى يضمن الأستقرار و يتفرغ للعمل و جنى ثماره، و أى خلل فى هذه العلاقة من جانب الدولة كان المصرى يقوم عليها بالأحتجاج والتمرد جماعياً أو فردياً بالفن و الأدب. مابين موضعى الصحراء والنيل تم الجدل والصراع الذى كان لابد منه على يد المصريين الأول الذين شقوا قلب الوادى فى مواجهة مع الطبيعة القاسية للنيل، ليصلوا إلى لبه ومجراه، من أجل انتزاعه من فوضى الطبيعة وزراعته، عن طريق ترويضه واستئناسه بالعمل الجماعى مما يعطى الحق للجميع فى ثماره، إلى جانب خلق حدود وطنهم بما بذلو فى أرضه من عرق العمل، وما دفعوه فيه من دمائهم دفاعا عنه وعن حدوده. فحدود الوطن هكذا هى حدود العمل المثمر المبنى على ضبط مياه النيل ومدها إلى حيث تزهر النباتات والأشجار والحياة. من هنا كان الدفاع عن حدود الوطن وعدم التفريط فيه والأستشهاد فى سبيله متأصل فى عقيدته حيث ترفع أعماله على الأرض إلى السماء فتصبح جنة تعود بركتها لتحلَ على أرض الوطن مصر. عندما توحدت مصر فى دولة واحدة تشمل الصعيد والدلتا كان من الضرورى وضع حدود لهذه الدولة تمثلت فى البداية بحدود حوض وادى النيل المعروفة لهم فى هذا الوقت والتى تشمل كل الأراضى التى تصلها مياه النيل. وهى حدود ترتبط بالنشاط الأساسى للمصريين وقتها وهو الزراعة، وكون هذه الزراعة قائمة على الرى المنظم بواسطة منظومة كبرى تشمل الترع الكبرى حتى المساقى الصغيرة التى تغذى الحقول، كما تشمل بناء السدود والجسور والخزانات، فتمتد المياه إلى أبعاد أشمل كانت تمثل بالتالى حدود أوسع. هكذا عرف المصريون حدودهم قديما، ولكن مع التطورات التاريخية التالية لإزدهار مصر زراعيا عرفت مصر غارات البدو المحيطين بها، فكان من الضرورى الحد من تأثير هذه الغارات المتلاحقة، خاصة عندما كانت مناطق هذه القبائل تصاب بشح المطر والجفاف وندرة الغذاء فتنطلق افواههم بنداء “ادخلوا مصر”. كان هذا داعيا إلى أن تقوم مصر بتوطين البدو ومدهم بكل وسائل الزراعة حتى يتمصروا فتأمن شرهم، كما قامت بدعم تحصيناتها الدفاعية على حدودها فى الشرق خاصة حيث الغارات البدوية كانت على اشدها سواء من الهكسوس أو الفرس أومن أتى بعدهم من الغزاة والمستعمرين. منذ ذلك الوقت تحددت العقيدة الدفاعية الأساسية لمصر التى ترى أن العدو يأتى من الشرق. ومن هنا كانت الحملات التأديبية لهؤلاء تمتد حتى مناطق الشام والرافدين وليس ابعد من ذلك بالرغم من أنه كان يمكن للجيوش المصرية وقت عنفوانها أن تتمدد إلى بقاع أكبر، ولكن العقيدة المصرية العسكرية كانت الدفاع عن ثمار عمل الشعب وليس نهب ثمار عمل غيرها.
حدود الدولة المصرية
ظلت العقيدة العسكرية المصرية عبر التاريخ تتوسع فى حدود لا تبعد كثيرا عن حدود نهرها وأمنها الوطنى، وفى سبيل ذلك كانت تقبل بضم أراضى أبعد قليلا تدفع الكثير من ثمار عملها لثغذية سكانها كما كانت يحدث فى البلاد المطلة على سواحل البحر الأحمر والبحر المتوسط. فهكذا كانت تمتد حدود أمنها أحيانا حتى تبلغ اليمن جنوبا وبلاد الشام شمالا وساحل المتوسط غربا حتى تونس وأثيوبيا جنوبا.
مصر وتوازنات القوى الأوروبية
وفى العصر الحديث استطاعت السلطنة العثمانية، منذ القرن الرابع عشر حتى أواخر القرن السابع عشر، بعد احتلال مصر والشام والحجاز ومعظم شمال افريقيا، أن تسيطر على أهم الممرات المائية، مثل البحر الأسود، بحر إيجا، البحر المتوسط، البحر الأحمر، وبحر قزوين، كما امتدت فى عمق آسيا وصولاً إلى إيران. من هنا مثلت السلطنة العثمانية ركيزة أساسية فى النظام الأوروبى. كان الدور الأكبر لها، من منظور توازن القوى الأوروبية، هو دعم دور السلطنة العثمانية فى مواجهة وتحجيم روسيا التوسعية، ولكن منذ بداية القرن السابع عشر لأسباب داخلية وخارجية بدأ التدهور يدب فى الساطنة المترامية الأطراف فى مقابل صعود روسيا وبالرغم من هذا ظلت أوروبا تدعمها ضد روسيا.
المسألة المصرية كأحد معطيات النظام الأمنى الأوروبى
كانت الحملة الفرنسية على مصر عام 1798 خروجاً على قواعد ومبادئ توازن القوى الأوروبية، وشكلت تهديداً مباشراً لأمنها واستقرارها، وكذلك مثلت إهانة كبرى للسلطنة العثمانية التى فشلت فى مواجهة روسيا والحملة الفرنسية ومنيت بهزائم عسكرية عديدة أمام روسيا القيصرية. فسارعت إنجلترا إلى: 1-إشهار تحالف رسمى عام 1799 ضد فرنسا. 2-إالحاق الهزيمة العسكرية بحملة بونابرت وطردها وإفشال أهدافها المتعددة. وبالفعل انسحبت فرنسا وإنجلترا من مصر بمقتضى إتفاقية إميان عام 1801 وغيرت فرنسا وإنجلترا من منهجهما العسكرى التوسعى، إلى منهج وآلية توظيف العناصر الداخلية بمصر لتكون عناصر موالية لهما، مما دفع إلى المزيد من التنافس الداخلى والفوضى والإضطراب. ومنذ هذا الوقت أصبح مستقبل مصر السياسى أمراً يخص الدول الأوروبية الكبرى. أما المتغير الذى لم يتوقعه الساسة الأوروبيين، فكان ظهور محمد على والذى كان دوره كأحد النتائج الطبيعية لحملة بونابرت واستيعاب دروسها. شرع محمد على فى اتباع سياسة إصلاح إدارى وأقتصادى على أسس فرنسية. ونجح فى فترة وجيزة فى جعل ولايته أكثر منعة وحضارة من السلطنة العثمانية صاحبة السيادة. كان باشا مصر يرنو ببصره نحو الشام والمراكز الدينية فى الجزيرة العربية، وفى السودان جنوباً، وسنحت له الفرصة حينما لجأت السلطنة العثمانية إلى الإستعانة به للقضاء على الحركة الوهابية التى استفحل أمرها باحتلال مكة والمدينة، وجنوب بلاد الشام، وأصبحت خطراً يمس السلطنة. استطاع محمد على القضاء على الحركة الوهابية بعد حروب طويلة، واستعادت السلطنة العثمانية نفوذها فى بلاد العرب مما مكن محمد على من تثبيت مركزه ووضعه فى السلطنة. توسع نفوذ محمد على وامتد إلى الجزيرة العربية، فى اتجاه الخليج الفارسى مما أثار حفيظة بريطانيا لكونه الطريق المؤدى إلى الهند، ونبهها إلى مشروع الحملة الفرنسية القديم لقطع طريقها للهند، معتقدة أن محمد على ينفذ مشروع حملة بونابرت القديم بدعم جديد من فرنسا. مما مثل تهديداً صارخاً للأمن الأوروبى، وهو ما يستوجب مواجته للقضاء عليها، وانتهاز أول محاولة لمصر تمس ترتيبات الأمن فى القارة الأوروبية وتقويضها لتصفيتها.
الحرب فى اليونان، وأولى خطوات تقويض مشروع محمد على
بدأ محمد على يمس ترتيبات الأمن فى القارة الأوروبية كلاعب دولى فى الثورة اليونانية عام 1824. وكان خطورة التواجد المصرى فى اليونان لقمع الثورة اليونانية أن الدولة أو الإمبراطورية التى يشرع محمد على باشا فى إعدادها سيكون لها مرتكز إستراتيجى فى اليونان أى فى أوروبا، وستكون عضواً فاعلاً ومساهماً ومؤثراً فى التوازنات الأوروبية، وذلك ما سيخل بمبادئ نظام توازن القوى الأوروبية، وقد يدفع روسيا – التى لم تعترف بالسلطنة العثمانية كدولة أوروبية – إلى استغلال الأحداث الجارية فى اليونان وتقدم على حرب ضد السلطنة العثمانية أو إلى المطالبة بمزيد من الإستقلال الذاتى للولايات العثمانية فى شرق وشمال أوروبا بسبب التقارب العرقى والثقافى والمذهبى. إن انتصارات الجيش المصرى فى اليونان أدت إلى تدويل الأزمة اليونانية من المنظور الأوروبى خشية التدخل الروسى، وأيضاً خشية انتصار الحركات القومية فى أوروبا والثورة على الأنظمة الملكية الحاكمة. كما اهتزت نظرية الأمن الأوروبى التى كانت تعتبر السلطنة مجرد رجل مريض يستحسن عدم قتله، فمحمد على بتحركاته أنعش لدى السلطنة أحلام توسعاتها، حتى أنها استعانت به فى حربها ضد روسيا بالقرم، كما رأت فى محمد على وريثا مرحبا به فى تركيا للسلطنة. تحركت القوى الأوروبية وعلى رأسها بريطانيا، وظهرت معاهدة لندن فى 6 يوليو 1827 بين القوى الكبرى إنجلترا وفرنسا وروسيا لفرض منهج التفاوض لإحلال السلام ووقف إطلاق النار فى اليونان، وبالفعل انتشرت الأساطيل البحرية فى المنطقة لبدء المفاوضات بين ممثلى الدول الأوروبية الموقعة على اتفاقية لندن 1827، والسلطان العثمانى، وكذلك مع محمد على باعتباره صاحب الإنتصارات العسكرية فى حرب اليونان. ولكن محمد على لم يوفق فى قراءة قدراته الحقيقية مقابل القدرات الأوروبية مجتمعة، ولم يوفق فى قراءة عدم قبول القوى الأوروبية بلاعب دولى جديد يشاركها النظام الأوروبى، أو يمكنه أن يهز توازن القوى القائم على مبادئ منذ اتفاقية وستفاليا عام 1648 وما تلتها من اتفاقيات من خلال المؤتمرات الأوروبية، إضافة إلى ذلك عدم قراءته لرد الفعل الأوروبى تجاه صعود قوة جديدة تسيطر على المراكز البحرية الحاكمة. خرج محمد على من الحرب اليونانية التى امتدت على مدار ستة أعوام مثقلاً بالخسائر البشرية التى تفوق ال30.000 جندى مصرى، وخسائر مالية أكثر من 20 مليون فرنك، إضافة إلى غرق أغلب الأسطول البحرى المصرى. أراد محمد على باشا فى غفلة من القوى الأوروبية الكبرى، وهى منشغلة بالإنقسامات الداخلية، والأزمات الكبيرة التى تواجهها، وفى ظل ضعف السلطنة العثمانية، نشر قواته داخل الشام. اقتفى إبراهيم باشا قائد الجيوش المصرية أثر بونابرت، فاتجه إلى القسم الجنوبى من الشام للإستيلاء عليها عام 1831، ثم طلب محمد على إلى السلطان محمود أن يقلده ولاية الشام. وكان رد فعل السلطان العثمانى هو إصدار فرمان بخلعه فى عام 1832 وقرر تجهيز حملة قوية بقيادة حسين باشا الذى تقرر أن يحل محل محمد على فى ولاية مصر. لم يعر محمد على باشا بالاً بفرمان الخلع، واستمر الجيش المصرى فى تقدمه وهزم الجيش التركى واستولى على حلب، ثم بيلان آخر يوليو فتم له فتح الشام. أى أن دخول وضم الشام استغرق من أكتوبر عام 1831 حتى 29 يوليو 1832، معنى هذا هو تفوق الجيش المصرى سواء على مستوى القيادة والخطط وعلى مستوى الأداء المميز. اندفع إبراهيم باشا – غير مصغ لنصيحة محمد على بعدم مس السيادة العثمانية نحو قونية فى 21 ديسمبر 1832 واحتلها، ثم اتجه نحو كوتاهية وكان على بعد عشرات الأميال من الآستانة. عندها انتفضت أوروبا مرة أخرى وتدخلت بقوة أدت لإنسحاب محمد على وتوقيع معاهدة لندن سنة 1840 التى قضت على أحلامه التوسعية وقنع بحدود لمصر فى الشرق توافق حدود سيناء. توفى محمد على فى أغسطس عام 1849، وسبقه ابراهيم باشا 1848، فتولى عباس باشا الأول ولاية مصر، الذى اهتم بشبه جزيرة سيناء وأهتم بالاستفادة من مواردها الطبيعية فشرع فى بناء حمامات كبريتية قرب الطور. ومد عباس باشا الأول طريقا من مدينة الطور إلى قمة جبل موسى، وأيضاً من مدينة الطور إلى جبل طلحة غرب جبل موسى، ولكن أهملت هذه المشروعات بعد مقتله عام 1854. وخلفه سعيد باشا، الذى أبدى اهتماماً بسيناء بإنشاء محجر للحجاج فى مدينة الطور لاستقبال الحجيج. تقلد الحكم فى عام 1854 وتوفى 1863 وخلفه إسماعيل باشا. انتهج إسماعيل باشا منهج تحقيق عظمة دولته فى مصر، ولكن مع زيادة المصالح الأجنبية بعد امتياز حفر قناة السويس 1854، تشكلت ضغوطاً داخلية وخارجية شديدة بدأت بالتدخل السلمى ثم بالتدخل السياسى الرسمى 1878 أى إنشأ نظارة للاشراف المالى عام 1878 على مالية مصر. وفى عهد الخديو محمد توفيق، الذى اندلعت فى عهده الثور العرابية، احتلت إنجلترا مصر عام 1882. فأولت أهمية كبرى لشبه جزيرة سيناء. وألحقت ادارتها لوزارة الحربية اداريا وماليا وعسكريا وكانت اتحت اشراف سردادر الجيش المصرى وإمرة ادارة المخابرات بالقاهرة، أما منطقة الطور فقد ألحقت ادارية بادارة بلاد التيه برئاسة قومندان شبه جزيرة سيناء، واتخذو نخل مركزا لها حيث تتمع بموقع استراتيجى يحكم طرق المواصلات فى سيناء. وفى عام 1865 أدخل أول خط تلغراف فى سيناء وهو خط العريش الذى يربط بين مصر والشام، كما أنشئ عام 1897 خط تلغراف آخر من السويس إلى الطور ثم إلى المحجر.
شبه جزيرة سيناء ساحة الصراع الدولي وأزمة فرمان 1892
ظلت مصر بمقتضى اتفاقية لندن 1840 الأوربية ولاية عثمانية، وأن مواطنيها عثمانيون ولم يتمتعوا بهوية مصرية منفصلة، ومن ثم تجمع الضرائب لصالح السلطنة العثمانية وتسك العملة باسم السلطان العثمانى، فلم يمنح أى خديوى – أى والى على مصرـ حق عقد اتفاقيات سياسية مع دول أجنبية، ما عدا بعض الاتفاقيات المالية والتجارية الخاصة بالادارة الداخلية المصرى، علاوة على ما تورده الحكومة المصرية للخزانة التركية سنويا دون وجه حق، مقابل دورها الدينى والعسكرى فى حماية دار الإسلام رغم احتلال مصر من قبل الجيش البريطانى عام 1882 وبموافقة عثمانية. اشتد التنافس الدولى بين القوى البحرية الدولية التى تهمها قناة السويس. وما زاد من أهمية موقع مصر الجغرافى، وأهمية قناة السويس، ما شهدته القارة الأوروبية من تغير فى موازين القوى الاوروبية بعد: – هزيمة فرنسا أمام بروسيا فى معركة سيدان. – قيام اتحاد القياصرة الثلاثة “بروسيا-ألمانيا-إيطاليا” ليتشكل توازن دولى جديد لم يغفل خطورة موقع مصر. وبتغير موازين القوى الأوروبية، تأثر مركز بريطانيا فى شرق البحر المتوسط، وتأثرت خططها الاستعمارية التوسعية فى شرق أفريقيا. تبنت إنجلترا توجهات استراتيجية بهدف تأمين ممتلكاتها فى الشرق، واستعادة مركزها البحرى فى شرق البحر المتوسط، والبحر الاحمر، والخليج الفارسى. إذاً شكلت قناة السويس الشريان التجارى محوراً مركزياً فى المصالح البريطانية، ومن ثم مارست سياسة احكام السيطرة عليه، وبدأت فى تأمين البعد الاستراتيجى لقناة السويس بتأمين “شبه جزيرة سيناء” التى هى خلفيتها، والتى أشعلت الصراح الدولى بين القوى الكبرى.
بداية الأزمة وأصولها
كانت ضمن الأراضى المصرية بحدودها القديمة بعض المراكز على الساحل الشرقى لخليج العقبة وهى الوجه وضبا والمويلح والعقبة كانت تؤمن الطريق البرى المصرى للحجاز. وبعد افتتاح قناة السويس فى 1869، أهمل هذا الطريق البرى، ونشط الطريق البحرى، ولكن ظلت تلك المراكز فى حوزة الادارة المصرية حتى 1892 حين نشبت أول أزمة بشأن شبه جزيرة سيناء وخليج العقبة عندما أمرت السلطنة أحد الضباط مع عدد من الجنود العثمانيين ليتولوا أحتلال قلعة المويلح وما يليها من مراكز، بأعتبارها من أملاك السلطنة العثمانية. لفت هذا الحدث انتباه الحكومة المصرية، إلى ضرورة مراقبة تحركات الدولة العثمانية عند حدود مصر الشرقية. وبالفعل وظفت الحكومة المصرية حادثة قتل وقعت فى أوائل عام 1905، وقررت وزارة الحربية ارسال لجنة للتحقيق ومحاكمة المتهمين. لم يكن هدف اللجنة استتباب الأمن والاستقرار فقط بقدر ما كان هدفها التحقق من نشاط القوات التركية على الحدود مع مصر.
نذر أزمة طابا الأولى 1906
فى شهر يناير 1906 أصدرت وزارة الحربية المصرية أوامرها لقوة من خفر الحدود بالتوجه إلى نقب العقبة. ونظراً لقلة المياه فيها لاستيفاء حاجة أفراد القوة والذى يقدر عددهم بخمسة جنود، توجهت إلى أم الرشراش على الجانب الغربى من رأس خليج العقبة، حيث تبعد مسافة نصف ساعة من العقبة على طريق غزة – مصر. اعترض قائد منطقة العقبة العثمانى على تواجد الجنود المصريين فى أم الرشراش، مدعيا أن أم الرشراش ونقب العقبة منطقة تابعة للسلطنة مباشرة. تقدمت الحكومة المصرية فى تلك الأثناء بطلب إلى السلطان بتعيين لجنة من الأتراك والمصريين لتحديد التخوم بين سيناء والشام ولكن لم يحرك السلطان ساكناً. وفى نفس الوقت أمر اللواء رشدى باشا قائد حامية العقبة العثمانية باحتلال وادى طابا والقصيمة وأم الرشراش والكنتلا. اعتبرت الحكومة المصرية أن احتلال وادى طابا والقصيمة وأم الرشراش والكنتلا. يعنى أن السلطنة العثمانية معادية لفكرة تعيين حدود. لذلك أرسلت السلطات المصرية قوة مصرية من خمسين رجلاً وعلى رأسهم ضابط مصرى وهو سعد بك رفعت لإستعادة طابا ونقب العقبة والقطار. تقدمت القوة المصرية نحو طابا فى سفينة خفر السواحل المصرية “نور البحر”، ولكنها لم تستطع تنفيذ مهمتها حيث أن القوات التركية قد انتشرت على التلال التى تطل على طابا من الشرق. اضطرت القوة المصرية إلى التراجع تنفيذاً للأوامر بعدم الصدام إلا فى حالة اطلاق النار عليها، فانسحبت إلى جزيرة فرعون الملاصقة للساحل الغربى جنوب طابا، انتظاراً لتعليمات جديدة من القاهرة. استخدمت الادارة التركية عن طريق قائد العقبة العثمانى القوة فى احتلال مساحات من الأراضى مصرية، ومارست العنف والتهديد ضد القوة المصرية. إزاء التهديدات التركية العنيفة لمصر بشكل مباشر، وإزاء التعنت التركى، اتخذت مصر وبريطانيا مواقف على عدة مستويات منعاً لتكريس الأمر الواقع ولتحريك الأزمة فى اتجاه الحل الإجبارى. فقد اتخذت مواقف دبلوماسية متصاعدة، ومواقف عسكرية للتهديد باستخدام القوة، فلم يعد ثمة شك فى أن الحكومة العثمانية ترفض الاستجابة للمطالب المصرية، واصبح من الواضع أن المسألة لن تحل إلا بالضغط المباشر على استنبول. ولمواجهة هذا التصعيد التركى، أمرت الحكومة المصرية البارجة منيرفا والتى كانت مرابطة فى بورسعيد بالتوجه إلى رفح للتحقق من الأمر، وعينت نعوم بك شقير معتمداً للدولة المصرية، والكابتن ويموث معتمداً للدولة البريطانية، وفي حالة صحة خبر الاعتداء التركى واحتلال رفح، عليهما تقديم احتجاج رسمى باسم مصر. وهو ما تم خلال لقاء بين المعتمدين المصرى ومفيد بك قائد القوة التركية، ولكن أصر مفيد بك على الانكار، مما دفع المعتمد المصرى أن يسدى له نصيحة ودية حيث أن مسألة الحدود دخلت فى مأزق حرج، وأن النية معقودة على تنفيذ المطالب المصرية سواء بالتفاوض السلمى أو باستخدام القوة. وفى هذا التوقيت قامت الصحف التابعة للحزب الوطنى ومصطفى كامل بالدفاع عن حق السلطنة فى شبه جزيرة سيناء، واعتبرت أن سيناء ليست جزء من مصر ولا امتياز لها بل هى وديعة مؤقتة من السلطنة، وعليه فان احتلال طابا من قبل القوات العثمانية، إنما هو بمثابة استرداد جزء من أراضى السلطنة. أما الفريق الذى يمثل الوطنيين، فقد تمسك بمصرية سيناء، ودليلهم على ذلك آثار مصر القديمة الباقية فى سيناء، واعتماداً على كتابات الأولين من المؤرخين والرحالة على مدى عصور التاريخ. وهذا الفريق يرغب فى إزاحة الاستعمارين المحتلين سواء التركى أو البريطانى، سعياً وراء الاستقلال والتحرر الوطنى. وبسبب الأدلة التى تؤكد انحياز الخديوى عباس إلى ألمانيا منذ نشوب الحرب، فقد سقط عنه حق حكم مصر وتم عزله، واستبداله بالبرنس حسين كامل، الذى منح لقب سلطان مصر. وفى أغسطس عام 1914 أقامت مصر فى طابا ورأس النقب مراكز استخدمتها لمراقبة التطورات التى كانت تجرى فى العقبة حيث وردت التقارير بتحركات كبيرة للقوات التركية فى المنطقة.
دور شبه جزيرة سيناء أثناء الحرب العالمية الأولى
مع بدايات القرن العشرين كانت هناك ظواهر سياسية تشير إلى تغير فى موازين القوى الدولية، وتغير نمط التحالفات مما يؤدى إلى احتمال صدام كبير قادم. ففى عام 1904 توصلت بريطانيا وفرنسا إلى الوفاق الودى بينهما واستطاعت ألمانيا بناء قوة عسكرية ضخمة، ولذا سعت إلى بناء تحالفات عسكرية وسياسية جعلتها تسعى نحو تركيا. دلت هذه الوقائع على أن أوروبا تقترب من حرب كبرى من أجل رسم خريطة جديدة لمواقف القوة والنفوذ، كما دلت على أن منطقة الشرق الأوسط هي أحد ميادين الصراع. عندما نشبت الحرب العالمية الأولى، تأخرت تركيا عدة شهور قبل أن تقرر نهائياً دخولها إلى جانب ألمانيا. في 28 سبتمبر 1914 قامت القوات العثمانية بدعم ألمانى بهجوم مفاجئ على الموانئ الروسية فى البحر الأسود، وفى 31 أكتوبر 1914 أعلنت دول الوفاق بمن فيها بريطانيا، الحرب على الدولة العثمانية. رأت ألمانيا والدولة العثمانية ضرورة أحتلال مصر عن طريق الحدود المصرية سواء الشرقية للوصول إلى قناة السويس، أو من الحدود الغربية بالتحالف مع إيطاليا والسنوسى، ومن الحدود الجنوبية بالتحالف مع سلطان دارفور على بن دينار مع إثارة دسائس وقلاقل داخل مصر، والهدف تشتيت المواجهة العسكرية فى مصر، وبالتالى فإن فرص تحقيق نصر قد تكون أكيدة. وبالفعل تمكن السنوسى بعد أن حصل من إيطاليا على السلاح والمال من الاغارة على الفيوم وقطع خطوط السكك الحديدية. وحشدت القوات المصرية جيشها عند مرسى مطروح فى 7 ديسمبر 1915 وهاجمت قوات السنوسى وشتتها، وتراجعت قوات السنوسى، إلا أنهم هاجموا مصر عبر حدودها ثانية واحتلوا الواحات البحرية، سيوة، الفرافرة، والداخلة والخارجة والجغبوب. ولكن أجليت عنها. أما عن الحدود الجنوبية، فقد نجحت ألمانيا فى اثارة سلطان دارفور على بن دينار الذى أعلن الجهاد واتجه نحو الخرطوم، ولكن القوات البريطانية تمكنت من هزيمته فى 22 مايو 1917. أما الحدود الشرقية المصرية فقد كانت شبه جزيرة سيناء مسرحاً للمعارك القاسية للدفاع عن مصر، ففى 25 نوفمبر 1914 حدث أول اشتباك فى سيناء فى منطقة بين بير النصف وقطية التى تبعد 43 كيلو مترا شرق القنطرة. كانت الاشتباكات بين قوة مصرية من الهجانة يقودها الملازم أول محمد أنيس وبين قوة من الهجانة التابعة للجيش التركى، قضت عليها القوة المصرية.
معركة القناة فى 3 فبراير 1915
اتخذ القائد التركى جمال باشا طرقا داخليا فى قلب شبه جزيرة سيناء، وقسم جيشه إلى قسمين، قسم متجه نحو بئر المحدث لمهاجمة الإسماعيلية عند الكوبرى، والقسم الآخر وهو الأكبر إلى كثيب النصارى فى اتجاه سرابيوم والدفرسوار. بدأت مشاة القوات العثمانية مهاجمة نقطتى الدفرسوار (طوسون) وسرابيوم فجر 3 فبراير سعياً إلى اجتياز قناة السويس على كبارى نقالة تحت حماية نيران مدافع مكسيم الألمانية. واجهتها المدفعية المصرية بالتعاون مع قطع الأسطول الراسية فى مياه قناة السويس، واضطرت القوات التركية إلى الانسحاب فى الساعة الثالثة ظهراً، وأسر عددا كيرا من الضباط والجنود الأتراك فضلا عن عدد القتلى. كان يقود القوة المصرية الأميرالاى أحمد حلمى، الذى ترك الجيش التركى يقترب منه حتى يكون فى مرماه، وترك القوة التركية تنزل زورقين فى القناة، ثم قاد هجوما أوقف فيه القوات التركية وضحى بنفسه ومات فى هذه المعركة بعد أن أدى دوره الوطنى. مما أجبرهم على الانسحاب والتقهقر.
تغيير وضع مصر السياسى
رغم ذلك، أعلنت مصر حيادها، وأصدر رشدى باشا رئيس الوزراء والقائم مقام الخديوى بتعليماته بمراعاة حياد الموانئ المصرية لضمان حياد قناة السويس، لم يستطع رشدى باشا الاستمرار على مبدأ حياد مصر طويلا، فالسلطنة العثمانية لم تكف عن محاولات غزو مصر مما لم يساعده على اتخاذ موقف الحياد. فسعى إلى الاحتفاظ بوضعية خاصة، تمكن مصر من المطالبة بالجلاء أو الاستقلال الذاتى أو طلب عقد اتفاقية دفاعية هجومية مع الامبراطورية البريطانية. بعد تلك الإجراءات، كان لابد من تغيير وضع مصر السياسى، فمنذ بداية الحرب لم يكن هناك اتفاق أو معاهدة بين بريطانيا ومصر يعطى للقنصل البريطانى صفة أو سلطات أو القانون. لذا فرضت الحماية البريطانية على مصر فى 19 ديسمبر 1914 . وقد عينت الحكومة البريطانية معتمداً بريطانياً سامياً لمصر وهو السيد هنرى مكماهون، وبدلت اسم الوكالة البريطانية إلى دار الحماية البريطانية لمصر، وتفاوضت دار الحماية مع الأمير حسين كامل، وأعلن سلطاناً على مصر مستقلة فى 20 ديسمبر 1914. وصارت حدود مصر من وقتها أكثر ثاباتا و تحديدا. اشتدت الحركة الوطنية فى مصر، ولم تقبل الاستقلال الصورى فى ظل الأحتلال البريطانى، ودارت مفاوضات عديدة ومحاولات من عام 1920 إلى عام 1936، بين القوى الوطنية وبريطانيا كانت سيناء حاضرة فى كل هذه المفاوضات. كانت تلك المفاوضات محاولة للتوفيق بين المصالح الحيوية الاستراتيجية للامبراطورية البريطانية والمتمثلة فى مصالح عدة، منها حق بقاء القوات العسكرية البريطانية على الأراضى المصرية من أجل حماية طرق المواصلات الامبراطورية، وبين الأهداف الوطنية المصرية والمتمثلة فى عدة مصالح منها الاستقلال الوطنى الفعلى والدستور، وأيضاً تخفيض عدد القوات البريطانية، وحصر نقاط وجودها فى مناطق معينة تخص حماية قناة السويس بشرط عدم المساس بسيادة مصر، أيضا الاعتراف بالالتزام البريطانى بتوقيت محدد للجلاء، بالاضافة إلى تمسك مصر بالسودان. ولكن مع نشوب الحرب العالمية الثانية، لعبت شبه جزيرة سيناء دوراً عسكرياً هاماً فى نقل القوات البريطانية من فلسطين إلى الصحراء الغربية لصد قوات المحور. فإذا كان دور شبه جزيرة سيناء أثناء الحرب العالمية الأولى دورا حيويا واستراتيجيا ساعد دول الحلفاء فى احراز النصر، فإن دورها فى الحرب العالمية الثانية اقتصر على كونها أرض عبور لتسهيل نقل الجنود البريطانيين لمواجهة زحف دول المحور التى عبرت الحدود الغربية المصرية، وقاربت مشارف إسكندرية. وأصبح واضحاً أن من يسيطر على فلسطين فإنه يهدد شبه جزيرة سيناء، ومن يهددها يهدد أمن مصر وهذا ما اتضح مع قيام إسرائيل و نشاط حركة حماس.
الحدود المصرية السودانية
لعله يكون من قبيل تحصيل الحاصل التوكيد، بداية، على حقيقة أن الحدود الدولية لمصر، منذ النصف الثانى من القرن العشرين، تعتبر من أكثر الحدود الدولية استقرارا، فعلى خلاف الحال بالنسبة للكثير من الدول، لم تشهد مصر أزمات حقيقية بشأن حدودها وذلك فيما عدا حالة النزاع الذى ثار فى منتصف عام 1981 مع إسرائيل فيما يتعلق بتحديد المسار الصحيح لخط الحدود المشترك بين مصر وفلسطين تحت الانتداب، وهو النزاع الذى تمت تسويته من خلال اللجوء إلى التحكيم الدولى فى إطار ما عرف بقضية طابا ومع ذلك، وإضافة إلى حالة النزاع مع إسرائيل بشأن طابا وغيرها من بعض مواقع علامات الحدود الممتدة من ـ رفح ـ وحتى خليج العقبة، فقد كانت هناك الحالة الأخرى المتعلقة بالحدود الجنوبية لمصر والتى يثور النزاع بشأنها من حين إلى آخر مع السودان، وخاصة فى أوقات تأزم العلاقات بين البلدين، فسرعان ما فجرت أول أزمة فى العلاقات مع مصر، وهى الأزمة التى نشبت فى أوائل عام 1958 وعرفت بالنزاع المصرى السودانى بشأن الحدود أو أزمة حلايب ـ كما درج البعض على تسميتها ـ ففى أوائل عام (1992) جرى تصعيد للموقف بعدما تردد عن قيام الحكومة السودانية بمنح ترخيص للتنقيب عن البترول فى منطقة حلايب لإحدى الشركات الكندية، وهو الأمر الذى اعتبرته مصر افتئاتا على حقوقها السيادية فى هذه المنطقة. بداية، لا يكاد يوجد ثمة رأى واحد مجمع عليه لدى كل من الباحثين السياسيين والقانونيين والمؤرخين والجغرافيين بشأن الأصل الحقيقى لمواقع خط الحدود الجنوبية لمصر، ومع ذلك، فهناك من يرى أن حدودنا الجنوبية قد ظلت كقاعدة عامة فى مواقع تكاد تكون مطابقة أو قريبة من مواقعها الحالية أو إلى الشمال أو إلى الجنوب منها قليلا. وتقديرنا، أنه للاعتبارات والروابط الخاصة بواقع وحقيقة العلاقات المصرية السودانية فإن الأمر يقضى بضرورة معالجة النزاع على هذه القضية فى إطار يتوخى تحقيق المصلحة المشتركة للبلدين الشقيقين وبعيدا عن أية تدخلات خارجية. فبرغم قدم مشكلة حلايب بين مصر والسودان إلا أنها فى جميع مراحلها التاريخية لم تبلغ مرحلة المواجهة العسكرية بين البلدين، ولا تثار هذه المشكلة وتبرز إلى السطح إلا حين يعمد أحد البلدان إلى إثارتها على خلفية تباين سياسى بين البلدين.
الحدود المصرية الليبية
تعرضت الحدود المصرية الليبية قى الحرب العالمية الأولى لأختراقات من القبائل السنوسية مدعومة من السلطنة العثمانية وإيطاليا أنتهت ببعض التنازلات المصرية كان أهمها التنازل عن واحة الجغبوب للسنوسيين. ولكن مع الحرب العالمية الثانية زحفت القوات الألمانية والإيطالية إلى داخل الحدود المصرية فتصدت لها القوات المصرية والبريطانية والحقت بها هزيمة أجبرتها علة الإنسحاب. ومنذ هذا الحادث لم تتعرض الحددود المصرية مع ليبيا إلا لحادث وقت حكم القذافى تمثل فى زحف أعداد من الجماهير الليبية إلى داخل الحدود المصرية مما أجبر قوات الحدود إلى الرد على ذلك بالقوة اللازمة. ثم وقع حادث ذبح المصريين فى ليبيا شهر فبراير الماضى مما استدعى ضربة عسكرية جوية على قواعد الأرهاب التى تعدت على المصريين وذبحتهم.