هاف بوست عربي
وبعد انتهاء العام، سيبدو اليوم التالي أقل جاذبية بالنسبة لمُحرِّكي ومزلزلي هذا العالم العربي الجديد الشجاع من الليلة الماضية، حسب قوله.
حرب اختيار
ويسرد الكاتب في مقاله قائلاً إن أول انتصارات العام كان من نصيب الروس، الذين استعادوا حلب في آخر أيام 2016. ووسم الرئيس الروسي فلاديمير بوتين تنصيبه حاكماً إمبريالياً جديداً لسوريا بسيره أمام بشار الأسد، الرئيس السوري الذي أنقذه بوتين، في استعراض نصرٍ بقاعدة حميميم باللاذقية. وهو مشهدٌ ربما نَسَخَه بوتين دون قصد من أحد الحكام الرومان.
بالنسبة لبوتين، كانت سوريا حرب اختيار. إذ لا يتشاطر الروس حدوداً مع البلد العربي، وكان يمكنهم السماح بسقوط دمشق دون أن تُمَس روسيا. لكنَّ بوتين دخل بقوةٍ عسكرية رفضها حلف شمال الأطلسي (الناتو) وقال إنَّها ليست مؤهلة لتحقيق هدفها.
وتابع هيرست: “كان لديه أمراً لإثباته، ليس فقط بشأن قواته الجوية، لكن أيضاً بشأن النظام العالمي الجديد، وهو أنَّ أميركا لم تعد تمتلك حق احتكار القيام بعملٍ عسكري، ولا تمتلك فيتو ضد أي طرفٍ آخر. وقد أثبت ذلك”.
لكنَّ النتائج الإستراتيجية لذلك التدخُّل لم تكن بسيطة بما يُمكِّن روسيا، التي تُعَد ظلاً للقوة العسكرية الدولية التي كانت للاتحاد السوفيتي في السابق، من التعامل معها بمفردها. فوجد بوتين بعد فترةٍ وجيزة أنَّه بحاجةٍ لحلفاء.
ووفق هيرست فإنه لدى الأسد الآن سيدان: روسيا وإيران، اللتان تتباعد مصالحهما، خصوصاً في ما يتعلَّق بمسألة مصير الرئيس السوري. وفي هذا الإطار، نادراً ما يتبع الأسد خطوات والده. فقد أبقى حافظ الأسد على علاقاتٍ قوية مع إيران والولايات المتحدة في آنٍ واحد، فساعد جورج بوش الأب ضد منافسه صدام حسين في حرب الخليج الأولى. لقد حافظ الأب على استقلال بلاده، بينما تنازل عنه الابن. وقد برز حافظ الأسد كحاكمٍ قوي، بينما ابنه حاكم عاجز.
يمتلك بوتين قاعدتين دائمتين على شاطئ البحر المتوسط، لكنَّه يجد نفسه الآن أيضاً مُقيَّداً بخربةٍ تُدعى سوريا. وإن كان الاتحاد السوفيتي أنفق المال في الشرق الأوسط، فإنَّ روسيا الاتحادية هناك لقطف الثمار.
ويقول الكاتب البريطاني الشهير، أنه من أجل تحقيق ذلك، لن تكون القاذفات ذات فائدة لبوتين، إنَّه بحاجةٍ للاستقرار، وهي السلعة التي لا يملك لا هو ولا الإيرانيون توفيرها بسهولة لملايين السوريين الذين سعوا لإنهاء حكم عائلة الأسد وفقدوا كل شيءٍ في تلك الحرب.
ولأجل هذا تحتاج موسكو وطهران إلى تركيا. فإيران بحاجةٍ لتركيا لتحقيق التوازن مع روسيا والتواصل مع العالم الإسلامي السُنّي. وفي الوقت نفسه تحاول إيران رأب الصدع مع حركة حماس والإخوان المسلمين في تركيا بعد الضرر الذي سبَّبه وجودها في سوريا. وإن كانت روسيا ترغب في جني ثمار استثماراتها في سوريا، في صورة صفقات أسلحة ومفاعلات نووية، فسيكون عليها هي الأخرى أن تتقاطع مع طرفي الانقسام الطائفي (السُنّي – الشيعي)، حسب قوله.
المعسكر المنافس
ويتحدث هيرست عن أنقرة من الناحية الأخرى، ويقول إن تركيا تحتاج كلاً من روسيا وإيران بعدما أبعدت نفسها، نفسياً على الأقل، عن أميركا. وسيستمر التسابق بين البلدان الثلاثة. إذ يتبع كل بلد أجندة مختلفة في سوريا، لكنَّ مصيرهم مقترنٌ في الوقت الراهن بسبب وجود أعداء مشتركين.
بدأ بوتين في إدراك أنَّ طرد أميركا والسعودية من سوريا شيء، وامتلاك حرب أهلية، قائمة بالفعل، شيء آخر تماماً. فقد خضعت المعارضة أمام قوة الطيران الروسي، لكنَّ جمر الصراع ما زال مشتعلاً تحت الرماد.
ويقول الكاتب البريطاني إن الانتصار الثاني حققه المعسكر المنافس: السعودية والإمارات وإسرائيل وأميركا. وهي الحفاوة التي استقبلت بها الرياض دونالد ترامب. كان من المفترض أن ينذر ذلك ببدء تحالف جديد بين الدول العربية السنية “المعتدلة”، ضد إيران والإسلام السياسي وأي منشق محلي أو أمير منافس قد يهدد حكمهم الاستبدادي.
على الورق، يملك هذا التحالف كل الأوراق الرابحة: أكبر ثروات الأسر الحاكمة، وأكبر الجيوش، وحراس شخصيين ولصوص غربيين، ودعم إسرائيل. لكن في الواقع، تحالف طغاة العصر الجديد تُعميه أوهام الغرور، حسب تعبيره.
ما المشكلة التي يمكن أن تحدث؟
وفي مقاله، يقول هيرست إن خطتهم كانت مثل ثروتهم، واسعة المدى. فهم لم يُخطِّطوا فقط لكي يحلوا محل أميركا التي بدأت تتراجع، بعدما كانت قائد المنطقة الوحيد في القرن الحادي والعشرين، بل وأن يسيطروا على الاتصالات والتجارة في العالم العربي السني، من خلال الموانئ والجزر وطرق التجارة، من خليج عمان، إلى قناة السويس غرباً، إلى أفريقيا جنوباً، ليعيدوا خلق إمبراطورية بحرية على طراز القرن السادس عشر.
وتابع: “أعادت زيارة ترامب الحيوية إليهم، إذ بدأوا أولاً بحصار قطر، ثم خلع محمد بن نايف، أكبر أبناء عم محمد بن سلمان، ثم حملة التطهير التي راح ضحيتها العديد من الأمراء، ثم أمر رئيس الوزراء اللبناني، سعد الحريري، بالاستقالة، ثم أمر الرئيس الفلسطيني، محمود عباس، بأن يتخلى عن القدس الشرقية وحق العودة، أو أن يتنحى جانباً كي يُنفذ تلك الأوامر شخصٌ غيره”.
كشفت كل رمية نرد طريقة التفكير الاستبدادية لدى الرجال الذين أرادوا أن يسيطروا على المنطقة، الرجال الذين لا يهمهم الرأي العام، ولا المُساءلة، ولا التاريخ، ولا الدين، ولا الثقافة، ولا الهوية. هؤلاء الرجال موجودون لكي يحكموا، ويملكوا، ويأمروا. أما الآخرون، فهم موجودون فقط لكي يطيعونهم، حسب قول هيرست.
إعلان ترامب
وانتقل الكاتب البريطاني في مقاله إلى الحدث الثالث والأخير خلال العام. وقال: “بعد مائة عام من إعلان بلفور، أصدر ترامب إعلانه الخاص، إذ اعترف بالقدس عاصمةً لإسرائيل. ولو كان الحدثان الأولان قد سبَّبا هزات، فقد سبَّب الثالث زلزالاً.
الأردن وعباس، وهما من أقدم حلفاء واشنطن، قفزا من السفينة على الملأ. فقد لجأت الأردن إلى تركيا وسوريا وإيران، بينما أعلن عباس أنَّ أميركا لا تصلح لأن تكون وسيطة. أما الحرب الصامتة بين تركيا والإمارات فقد صارت حرباً مُعلنة”.
وأضاف: وقد نشب شجارٌ بسبب إعادة تغريدة. فقد أعاد عبد الله بن زايد آل نهيان، وزير الخارجية الإماراتي، تغريد منشور يتهم فخري باشا، الحاكم العثماني الذي دافع عن المدينة المنورة ضد القوات البريطانية، بسرقة ممتلكات السكان، والآثار المقدسة الموجودة في قبر النبي محمد.
وردَّ عليه أردوغان قائلاً: “حين كان أسلافي يدافعون عن المدينة، أين كان أسلافك أيها الرقيع؟”.
وحافظ أردوغان على خطابه في السودان، التي زارها يوم الإثنين 25 ديسمبر/كانون الأول، حيث أعلنت تركيا سلسلة من الصفقات الإستراتيجية والعسكرية والاقتصادية بعيدة المدى.
والسودان بلدٌ في غاية الأهمية بالنسبة إلى مصر. فهو بلدٌ كبير، وبوابةٌ إلى أفريقيا، وهم يحاولون إصلاح علاقاتهم بالسعودية خلال العامين الماضيين. وفي تلك الفترة، توقَّفت السودان عن التعاون مع تركيا وقطر، وقد شعرت الميليشيات الإسلامية في ليبيا كلها بتبعات ذلك. واليوم، تُغيِّر السودان انتماءها مرة أخرى.
رسالة سودانية
كما ذكرتُ سابقاً، بدأت السودان تملُّ من دورها في إمداد التحالف الذي تقوده السعودية في اليمن بأعداد كبيرة من الجنود وفق تعبير هيرست. وذكرت تقارير غير رسمية أنَّ سحب القوات السودانية من اليمن قد بدأ بالفعل.
وقبل أيام من زيارة أردوغان، أخبرت السودان الأمم المتحدة بمعارضتها لاتفاقية إعادة ترسيم الحدود البحرية بين مصر والسعودية، التي تنازلت مصر بمقتضاها عن جزيرتي تيران وصنافير إلى السعودية. وقد أثَّرت الاتفاقية على السودان أيضاً، ففي تلك الاتفاقية، اعترفت السعودية بأنَّ منطقة الحدود التي تتنازع عليها مصر والسودان، التي تُدعى مثلث حلايب، جزءاً من مصر.
ووفق الكاتب البريطاني، فقد كانت زيارة أردوغان فرصةً للسودان لكي ترسل رسالة إلى الرياض والقاهرة. وقد أعلن الرئيس التركي أنه قد وُكِّلَ إليه تطوير جزيرة سواكن، شرق البحر الأحمر. وهو ميناء بحري عثماني محطم، ليس له الآن استخدام إستراتيجي لأي بحرية معاصرة.
لكنَّ الاتفاقية العسكرية، التي عُقدت في الزيارة ذاتها بين مسؤولي تركيا وقطر والسودان، تتسم بالأهمية.
وقد وصلت الرسالة إلى السعودية. فقد وصفت صحيفة عكاظ قرار السماح لتركيا بإعادة بناء الجزيرة بأنه “تهديدٌ صريح للأمن القومي العربي”.
وقالت الصحيفة: “تسعى تركيا إلى فرض سطوتها على القرن الأفريقي، بتقديم مساعدات عسكرية، وتأسيس قواعد لها في بلاد أفريقيا”.
وأضافت: “يُمثِّل تأسيس قواعد عسكرية في السودان تهديداً صريحاً لدولة مصر، في ضوء العلاقات المتوترة بين القاهرة وأنقرة، والنزاع المتصاعد بين مصر والسودان حول حلايب وشلاتين”.
ما بعد السَّكرة
وفي ختام مقاله يتساءل هيرست: إذاً، كيف يبدو شكل العالم العربي الجديد بعد عامٍ من الدراما التي تقطع الأنفاس؟ تقلَّص مجال نفوذ السعودية؛ فقد بدأت العام على رأس 6 دول خليجية، واستدعت 55 من قادة الدول ذات الأغلبية المسلمة، لكي يستمعوا إلى ترامب وهو يلقي عليهم محاضرة عن الإسلام الراديكالي.
وأنهت العام وهي تنزف ذلك الدعم؛ إذ فقدت السعودية لبنان تماماً.
وكما قال سياسي سني، لو أنَّ إيران أنفقت مليارات الدولارات لكي تُحرِّك الرأي العام في لبنان ضد السعودية، لما نجحت في أن تفعل ذلك كما فعله السعوديون أنفسهم بأن حاولوا إجبار الحريري على الاستقالة.
وقال هيرست، إن محمد بن سلمان يظن أنه طالما كان ترامب وإسرائيل إلى جانبه، فما مِن أمرٍ آخر يهم. لكنَّ هناك 3 أخطاء في تلك الحسبة.
أولاً، افتراض أنَّ ترامب سيستمر رئيساً للولايات المتحدة. هذا أمر يُشكِّك فيه ستيف بانون نفسه. فقد أخبر مجلة “فانيتي فير” بأنه يعتقد أنَّ فرصة ترامب لتجنب إنهاء ولايته الأولى، إما بأن تُسحب منه الثقة، وإما بأن يعزله البرلمان باستخدام التعديل الـ25 في الدستور، لا تتجاوز الـ30%. ودون ترامب، ستذهب خطط بن سلمان أدراج الرياح.
ولن يسلك الرئيس القادم، أياً من كان، الطريق الكارثي ذاته.
ثانياً، إسرائيل، التي تستطيع قراءة سياسة واشنطن أكثر من السعوديين المبتدئين. وهي لذلك تُسارع في خلق واقع على الأرض، ووضع الأحجار الأخيرة في جدار المستوطنات التي تبنيها بالقرب من القدس.
رئيس الوزراء الخارجي، بنيامين نتانياهو، رجلٌ على عجلةٍ من أمره، لا يريد إلا أن يُنجِز تنفيذ مخطط “القدس الكبرى” التوسعي، لكنه يريد أن يُصدِّق عليه ترامب وهو ما زال في السلطة.
ثالثاً، القدس. فبين ليلة وضحاها، أعاد إعلان ترامب الصراع الفلسطيني إلى قمة قضايا الشرق الأوسط، بعد أن حلَّت محله ثورات الربيع العربي عام 2011، والثورات المضادة التي تلتها. ولم تعد سوريا القضية الأهم.
ونتيجة لذلك، ليس أمام الفلسطينيين خيار آخر سوى أن يُدشِّنوا انتفاضةً ثالثة. وقد بدأ مسؤولو الأمن الإسرائيلي بالفعل في تحذير قادتهم السياسيين من التوتر الذي يُخيِّم على الأجواء. إذ يقولون إنَّ الأجواء المتوترة في غزة تذكرهم بالأجواء التي سبقت صراع غزة عام 2014.
ويقول هيرست: “هذا ما ينتظرنا في 2018. أعاد صعود طاغية سعودي جديد، وهو بن سلمان، الذي يطمح إلى أن يصير قائد المنطقة، الحماس إلى المعسكر القطري، الذي يملك الآن دعماً عسكرياً من تركيا والسودان، ودعماً لوجستياً من إيران.
وعادت القضية الفلسطينية في قلب الأحداث، وفي مركز الخلافات بين المعسكرين. وعاد الإسلام السياسي ليلعب دوراً قوياً. وبعدما نفدت أوراقهم في اليمن، بدأ محمد بن سلمان ومحمد بن زايد في التودُّد إلى قادة الإصلاح. وأظهر الإسلاميون السياسيون قوتهم في مظاهرات في الأردن والعالم العربي لأجل القدس.
كانت بداية العام بداية مُوفَّقة جداً لأولئك الذين ظنوا أنَّ بإمكانهم إعادة تشكيل الشرق الأوسط وفق أهوائهم ومصالحهم. لكنهم فشلوا وبدأوا الآن يستيقظون للصداع الذي أصابوا أنفسهم به”.