مقالات بصراحة – صحف عربية28-4-1985

فى نظام عملى ثلاث رحلات أحرص عليها دائماً وفى مواعيدها:

فأنا أحاول أن أذهب إلى أوروبا مرة على الأقل كل سنة، خصوصاً لندن وباريس، فكلتاهما لا تزال عاصمةإمبراطورية برغم أن الإمبراطورية نفسها ذابت وتلاشت. أى أن المجد الإمبراطورى الفكرى والثقافى والحضارىعموماً لا زال موجوداً فى العاصمتين – لكن عجرفة الإمبراطورة وقوتها وحماقتها لم تعد هناك. وهكذا فإن أىمراقب يستطيع أن يتابع دون أن تتحمل أعصابه تكاليف وأعباء ما يراه ويسمعه.

وأنا أحاول – ثانياً – أن أذهب إلى آسيا – أو أفريقيا – مرة كل عامين عن تصور بأن نقطة الارتكاز فى سياسات العالمتنتقل تدريجياً إلى الشرق. كانت عند قناة السويس أمس، وهى الآن قرب الخليج العربى، وهى غداً هنا حولالمحيط الهادى. فحول هذا المحيط فى وقت ليس ببعيد سوف تتقابل أربع قوى عظمى بكتلتها البشرية وطاقاتهاالإنتاجية وإمكانياتها التنظيمية والعلمية والتكنولوجية، وهى الولايات المتحدة – بشواطئها الغربية المطلة على هذاالمحيط من ناحية – والاتحاد السوفيتى واليابان والصين، وكلها تطل على شطآنه الآسيوية من الناحية الثانية. ثمإن أفريقيا سوف تظل لسنوات طويلة بؤرة صراعات خفية وظاهرة….. ساخنة وباردة.

وأنا أحاول – ثالثاً – أن أذهب إلى الولايات المتحدة مرة كل ثلاثة أعوام. فالولايات المتحدة هى المحرك الأكبرلعالمنا كما هو اليوم، وكما سوف يكون فى المائة سنة القادمة – إلا إذا حدث ما ليس فى الحسبان وهو مستبعد.وربما كان يجب أن أذهب – والأمر كذلك – إلى الولايات المتحدة أكثر من مرة كل ثلاث سنوات، لكنى أعترف أنالرحلة إلى الولايات المتحدة مرهقة للأعصاب، فهى إمبراطورية جديدة، وعجرفتها وقوتها وحماقتها ما تزال فىريعان الشباب. ومهما كان من أهمية ما يستطيع أى مراقب أن يراه ويسمعه هناك، فإن تكاليفه وأعباءه العصبيةمرهقة وفادحة أيضاً إذا كان الزائر المراقب مهتماً بأحوال العالم العربى، وإذا كان هذا العالم العربى يمر بمرحلةتضاءلت فيه قدرته على التأثير وتلاشت مقدرته على الفعل!

وحين أشرع فى وضع برنامج رحلتى إلى الولايات المتحدة – مرة كل ثلاث سنوات – فإنى أضع دائماً على رأسقائمة من أريد مقابلتهم هناك اسماً لم يتغير ولم يتزحزح من مكانه على قائمتى فى الثلاثين سنة الأخيرة وهو اسمدافيد روكفلر“.

ولا أستطيع أن أقول أن “دافيد روكفلر” صديق حميم، ولكنى أستطيع أن أقول أنه صديق قديم، فلقد تقابلنا أكثرمن عشر مرات بين نيويورك وواشنطن والقاهرة – ومرة واحدة فى لندن، لكنها جميعاً كانت مقابلات عمل.ومناقشات حول قضايا أو أحداث، أسأله فيها أو يسألنى، وأسمع له أو يسمعنى، ثم يذهب كل منا فى سبيله. كأننابواخر تعمل على خطوط ملاحية محددة فى البحار الواسعة.. تتقاطع طرقها فى بعض الأحيان فتلتقى فى الموانئأو على صفحات الموج ثم تواصل كل منها رحلتها المرسومة.. حتى تتقاطع الطرق من جديد!

ولقد جرت معظم مقابلاتنا فى مكتبة فى الطابق الخامس والثلاثين من مبنى بنك “تشيز مانهاتن” الذى تملكه أسرةروكفلر” وهو يقع وسط “وول ستريت” حى المال والأعمال فى نيويورك – وكانت مراسم هذه اللقاءات تتم وفقبروتوكول لا تتبدل قواعده تقريباً.

…. أذهب إلى مبنى “تشير مانهاتن” فأجد إحدى سكرتيرات “دافيد” فى انتظارى وأدخل معها إلى المصعد الذى لايتوقف إلا فى الطابق الخامس والثلاثين، وأخرج لأجد رئيسة سكرتيراته تنتظرنى، وأمشى معها إلى مكتبه ويكونهو فى انتظارى على مدخله.

ويختلف مكتب “دافيد روكفلر” عن أى مكتب آخر رأيته، فهو يحتل قلب الطابق الخامس والثلاثين من مبنى البنك.يحتل قلب المبنى كله بما فيه صندوق الخرسانة المسلحة الذى يدور حول المصاعد، وهو يشكل فى وسط المكتبكتلة ضخمة هى نقطة الارتكاز التى تحيط بها بقية المكتب، وهى دائرة عريضة لا تقل مساحتها عن ثلاثمائة مترمربع. وفى نقطة وسط هذه الدائرة العريضة مائدة قديمة من الطراز الإنجليزى للقرن السابع عشر وراءها مقعدواحد لصاحب المكتب، ومقعد فى مواجهته لزائره، ثم مائدة صغيرة من نفس العصر والطراز عليها جهاز تليفونواحد، وهذا كل ما فى قاعة المكتب من أثاث. والأثاث فى كل الأحوال لا يخطف البصر، ولكن الذى يخطف البصرأو بالأحرى يبعثره أن القاعة الدائرية كلها أشبه ما تكون بمتحف نفيس.

الجدران كلها مجموعات من لوحات تتغير كل سنة. فهى فى إحدى السنين لروائع الفن الإيطالى، وهى فى سنةتالية لروائع الفن الفرنسى، وهى فى ثالثة لروائع الفن الأسبانى… وهكذا.

وتحت مستوى مجموعات اللوحات توجد موائد – أو رفوف بمعنى أصح – تدور مع القاعة حيث تدور وهى أيضاًلروائع من فنون النحت تتغير بدورها كل سنة، ولقد رأيتها مرة من أقنعة أفريقية، ورأيتها مرة أخرى من النحتالمكسيكى.

وفى أول مرة دخلت فيها إلى مكتب “دافيد روكفلر” لمحت من نافذة بجوار المكتب ذاته تمثال الحرية ينتصبعلى قاعدته من بعيد أمامنا، وشدنى منظره المهيب عن كل ما كان يتجاذب بصرى قبله على الجدران، أو الموائد،والرفوف من الروائع، وقال لى “دافيد“:

لك الحق هذه هى اللوحة التى تستحق التأمل “. ثم أضاف: “إن التمثال يتوجه ببصره ويشير إلى أوروبا وقدكتبوا تحته “أعطونى كل من عندكم من المضطهدين فى الأرض والمظلومين والمتعبين“. ولقد استجابوا لنداءالحرية وجاءوا، ولكنهم فى هذه الأرض لم يعودوا مضطهدين ولا مظلومين ولا متعبين“.

وقلت له: “لعلى لا أضايقك إن صارحتك بأننا نشعر أحياناً أنهم فى هذه الأرض انقلبوا من النقيض إلى النقيض:بدورهم أصبحوا يضطهدون، ويظلمون ويتعبون سواهم“.

وابتسم قائلاً: “هذا يتوقف على الموقع الذى تنظر منه إليهم“.

وطبقاً للبروتوكول فإن الحديث بيننا وحدنا لقرابة الساعة ثم تجىء كبيرة سكرتيراته تدعونا وتتقدمنا إلى الطابقالأربعين حيث قاعات الاستقبال المخصصة له، وندخل واحدة صغيرة منها يكون فى انتظارنا فيها أحد كبارمساعديه، ويستمر الحديث على مائدة الغذاء، ثم نعود سوياً إلى مكتبه مرة أخرى، فنجان قهوة على انفراد.

وأتذكر أننى استأذنته مرة فى أن أغسل يدى بعد الغداء وذهبت إلى حمام مكتبه وفوجئت بأن وجدت جدرانالحمام مغطاة بمجموعة اسكتشات بتوقيع “بيكاسو” وقدرت أن قيمة مجموعة الاسكتشات لا يمكن أن تقل عن مابين ثلاثة إلى خمسة ملايين دولار فى الحمام، وقدرت أن مجموعة المكتب كلها، لا يمكن أن تقل قيمتها عن مائةمليون دولار.

لكن الغنى الأسطورى لأسرة “روكفلر” لم يكن هو الذى يثير اهتمامى بـ “دافيد روكفلر” وإنما كان المثير دائماً هودوره” أو “أدواره“.

والواقـع أن “دافيد روكفلر” فى الثلاثين سنة الماضية، وحتى الآن كان ثلاثة “أدوار” فى رجل: هو “بابا” البنوكالأمريكية كلها، ثم هو “أمير” نيويورك بغير منازع، ثم هو أخيراً ما يمكن أن نسميه مجازاً: رئيس حكومة الظل التىتشارك بالتوجيه من نيويورك فى مقابل حكومة السلطة التى تشرف على التشريع والتنفيذ من واشنطن!

باختصار هو واحد من أهم أقطاب النخبة المهيمنة فى الولايات المتحدة.

ويثور دائماً سؤال عن: من الذى يحكم فى الولايات المتحدة؟ ومن الذى يوجه ويناقش الخيارات ويقرر فى سياسةهذا البلد الذى بلغ من القوة مبلغاً لم يسبق له مثيل فى التاريخ أو قرين فى العصر وبالذات فى مجال السياسةالخارجية والأمن القومى؟ فهذا هو الذى يعنينا ويعنى غيرنا فى العالم “القـرار الأمريكى الداخلى قضية أخرى وهىليست شاغلى الآن ولا هى مدار اهتمامى فى هذا الحديث!“.

ولقد كان هذا السؤال مطروحاً والناس يرون الرؤساء الجالسين فى البيت الأبيض وتعتريهم الدهشة مما يرون.

محمد حسنين هيكل