"يابنى كونا للظالم خصما و للمظلوم عونا"..الإمام علي (عليه السلام)

فيودور دوستويفسكي.. صوتا المسيح والشيطان في إنسان واحد!

شفقنا- يحتفظ تاريخ الأدب بالكثير من الأسماء التي تميزت في عالمه، لكنَّ أشدهم ثباتًا في الذاكرة هم أولئك الأدباء الذين استطاعوا أن يكون أدبهم «معاصرًا» دائمًا، حتى وإن مر على موتهم مئات السنين، وفيودور دوستويفسكي كان واحدًا من هؤلاء القلة الذين استطاعوا أن يحتفظوا لأدبهم بصلاحية القراءة الأبدية، وأن يظل نتاجهم مشكلًا وصالحًا لفتح تأويلات جديدة مع كل قراءة، فمن هو فيودور دوستويفسكي؟

الحياة هي إدمان المقامرة!

في حي من أحياء موسكو الفقيرة يولد الصبي العليل فيودور دوستويفسكي وارثًا نوبات الصرع عن والده 1821؛ والده الطبيب في مستشفى عسكري ذو الطباع الحادة سيترك صورته القاسية في روايات فيودور، أما أمه فهي امرأة مريضة مؤمنة، سرعان ما سيغيبها الموتُ من حياته لتتركه في مواجهةٍ قاسية مع العالم بلا روح أمومية، سيذهب في ساعات فراغه ليلتقي المرضى في المستشفى التي يعمل فيها والده، أو سيتجول في شوارع الحي الفقير ليشاهد بعينيه كيف ينمو الإنسان في الظروف الاستثنائية من الحياة حيث الفقر سببٌ في خلل النظام الاجتماعي أو الأخلاقي.

يذهب إلى مدرسة داخلية ويبدأ رحلته مع القراءة للأدباء الكبار بلزاك وبوشكين، لكنه يلتحق –على عكس ميوله – بكلية الهندسة، ولكن روحه المتمردة تأبى هذا الانخراط في ما لا يحب، فيترك الهندسة بعد تخرجه ويتجه إلى الكتابة، يكتب روايته الأولى «المساكين» عام 1846، والتي جذبت إليه القراء والنقاد، حتى إن الشاعر نيكولاي نيكراسوف قال تعليقًا على صدورها: «لقد ظهر غوغول جديد»، قاصدًا الكاتب الروسي الكبير نيقولاي غوغول، لكن هل استمرت الحياةُ على هذا النحو؟

لقد كان القدر المأساوي حليفًا لفيودور، فقد سُجِن 1849 بتهمة انتمائه إلى جماعة التفكير المتحرر «جماعة دائرة بتراشيفيسكي»، التي عدّها القيصر تسار نيكولاس جماعةً خطِرة تهدد حكمه، فأمر بإعدام أعضاء الجماعة، وكان فيودور من بين هؤلاء الذين صدر القرار بإعدامهم، غير أنه في اللحظة الأخيرة، وبعد أن عايش دوستويفسكي لحظة الموت الحقيقية، صدرت الأوامر بتخفيف الحكم من الإعدام للنفي إلى سيبيريا، هناك حيث سيقضي الأيام القاسية بصحبة المجرمين والقتلة في ظروفٍ معيشية لا تليق بالإنسان.

سيعود فيودور من هذه التجربة محمَّلًا بالألم الإنساني، وبوجهات نظر المنبوذين من المجرمين، وبمعايشة لحظةٍ جوهرية كلحظة الموت الحقيقي، التي وصفها لزوجته لاحقًا، قائلًا: «كنت واقفًا فى الساحة أراقب بفزع ترتيبات الإعدام الذي كان سينفذ بعد خمس دقائق. كلنا في قمصان الموت موزعين على وجبات من ثلاثة محكومين، وكنت الثامن في التعداد، ضمن الوجبة الثالثة. أوثقوا الثلاثة إلى الأعمدة، وبعد دقيقتين يطلق الرصاص على الوجبتين الأوليين ويأتي دوري. يا إلهي، ما أشد رغبتي في الحياة. تذكرت كل ماضيّ الذي هدرته وأسأت استخدامه، فرغبت في الحياة من جديد وفي تحقيق الكثير مما كنت أنوي تحقيقه لأعيش عمرًا طويلًا وفي اللحظة الأخيرة أعلن وقف التنفيذ».

يعود أكثر يأسًا وشغفًا بلعبة الحياة، فيغرق في إدمان المقامرة، حيث المقامرة ليست مجرد لعبة ولا مغامرة، إنها فلسفةٌ جديدةٌ قائمة على فكرة التخلي الحر عن الامتلاك، ليس في هذه الحياة ما يستحق أن تحافظ عليه، بل في الحياة ما يستحق أن تُهدره لتمتلكه مرةً أخرى كلعبة حظ، تمامًا كمصادفة نجاته من الإعدام في اللحظة الأخيرة.

يلتقي ديستويفسكي بثلاث نساء مؤثرات في حياته، هن: ماريا إيسايفا، وقصته معها تشبه تفاصيل بطلة رواية «الجريمة والعقاب»، اختصر حياته معها بجملة واحدة: «لقد عشت عصرًا كاملًا».

بعدها وقع في غرام أبوليناريا سوسلوفا، لكن علاقتهما انتهت بسرعة مثلما نشأت، بعدما رفضت الزواج منه، أما الثالثة فهي أنا غريغورفينا، أحبها وتزوجها وأصبحتْ أمًّا لأولاده، التقاها عندما بلغ الـ46 من العمر، واستمرت معه حتى لحظة وفاته في يناير (كانون الثاني) 1881، وقد ساعدته في إنجاز أهم أعماله الروائية وتسديد ديونه.

الموت أم الكتابة؟

ولد دوستويفسكي وارثًا عن والده نوبات الصرع التي بدأت تنتابه منذ التاسعة، لقد كانت نوبات الصرع بوابته الأولى نحو تجربة الموت، تلك التجربة التي يمكن اعتبارها أمًّا للأسئلة الكبرى كلها.

في تحليل فرويد لأدب دوستويفسكي يروي هذه الملاحظات عن مرضه، فيقول: «لقد دهمه المرض أولًا بينما كان لا يزال صبيًا في صورة اكتئاب مفاجئ لا أساس له، وشعور قال عنه أخيرًا لصديقه إنه كما لو كان على وشك أن يموت للتو. يقول لنا شقيقه أندريه إن فيودور الصغير كان معتادًا – حتى في أوقات صحته – أن يترك إلى جانبه وريقات صغيرة قبل أن يذهب للنوم يقول فيها إنه ربما يسقط أثناء الليل في حالة النوم الشبيه بالموت، وكان يرجو من ثم أن يؤجل دفنه خمسة أيام».

بينما يتحدث هنري ترويا عن هذه النوبات القصيرة وعلاقتها بإبداعه قائلًا: «كانت نوبات الصرع تلقيه – باعترافه هو نفسه – إلى ملذات رهيبة. كان وهو في ذروة هذا التوتر العصبي يعاين الموت حيًا، ويتصل بالوجه الآخر من هذا العالم الذي نعيش فيه، فيفهم ما لا سبيل إلى فهمه، ثم يعود إلى الأرض بعد التشنج الأخير مبهورًا مفئودًا، فهذه القدرة على التحليق فوق الظرف الإنساني تتيح له أن يؤكد وجود منطقة وسيطة لا هي في الواقع ولا هي الحلم».

بالنسبة لفرويد فقد شكك بكون هذه النوبات من الصرع نتيجة اختلال عضوي، بل ردها إلى أسباب نفسية وجعلها أقرب إلى الهلوسة، وهنا نستحضر نموذج الروائية الإنجليزية فرجينيا وولف التي كانت قبل انتحارها تعاني من (سماع الأصوات)، وقد كانت نوبات الهلوسة هذه سببًا في اضطرابها النفسي الذي ساقها إلى الانتحار.

على العكس من فرجينيا اختار دوستويفسكي الذي لاحقته نوبات الصرع على مدار حياته طريقًا آخر للتخلص من الأصوات التي تتردد في داخله؛ لقد اختار الكتابة.

هناك أصواتٌ كثيرة يمكن أن نسمع وسوستها القاهرة في روايات دوستويفسكي: صوتُ القسوة، صوت المجرم، صوت المريض، صوت المتشائم، صوت المؤمن، صوت الملحد، صوت الشفقة، صوت المسيح، صوت الشيطان، صوت العقل، صوت الإيمان، صوت الشهوة والغريزة، صوت الحب الصافي، لا يمكن أن نميز أيُّ هذه الأصوات كان صوته تحديدًا، لقد بدتْ كلها أصواته تمامًا، وكأنها جميعًا وجوهه الغائبة فيه.

يقول نيقولا برديانف في كتابه عن دوستويفسكي: «ينتمي دوستويفسكي إلى ذلك الجنس من الكتاب الذين يضعون أنفسهم في مؤلفاتهم، فمصير أبطاله هو مصيره نفسه وشكوكهم وازدواجيتهم هي شكوكه وازدواجيته، ومحاولاتهم الإجرامية هي نفسها الجرائم المتوارية داخل نفسه، ومن ثم فإن سيرة دوستويفسكي أقل كثيرًا من مؤلفاته من حيث الأهمية».

هذه الأصوات التي ظهرت مختلطةً وغير متناسقة لدى وولف في رواياتها التي تميزت بكونها تستخدم تقنية تيار الوعي أو التداعي الداخلي غير المنطقي، ظهرت بشكلٍ مختلف لدى دوستويفسكي، لقد كانت أكثر منطقية، وهو ما يجعل أدب دوستويفسكي مستمرًا في جاذبيته للقراءة.

إن طول الحوارات بوصفها سمةً فنيةً تميزت بها روايات دوستويفسكي لم يكن إلا نتاجًا للأصوات المتعددة في داخل دوستويفسكي، لذا يعتبر مبدع الرواية متعددة الأصوات، وتعددية الأصوات تكشف تنوع الحياة، وتعقد المعاناة البشرية، وتباين الوعي والنظرة إلى العالم، وبحسب ميخائيل باختين الناقد الروسي الشهير فإن الحوار عند دوستويفسكي «ليس مقدمةً تعود إلى الحدث، بل هو نفسه حدث».

إن هذا التعدد في أصوات شخصياته يتميز باستقلاله الموضوعي عن شخصية دوستويفسكي، أي إننا لا نعلم بالضبط أين هو موقع دوستويفسكي من هذه الأصوات، وهذا ما يجعلها أكثر جاذبية لنا، ففي رواية الإخوة كارامازوف لا ندري إذا ما كان دوستويفسكي هو إليوشا المؤمن، أم إيفان المثقف الملحد، كلاهما يتحدثان وكأنهما لم يُخلقا داخل عقل واحد، هو عقل دوستويفسكي، وهذا يعني أن عقل دوستويفسكي نفسه لم يكن قادرًا على أن يخلق صوتًا واحدًا فقط.

هذا التعدد الشائك كان سرَّ إبداع دوستويفسكي، تروي زوجته أنا غريغوريفنا أنه حينما أملى عليها قرار الاتهام على لسان المدعي العام في «الإخوة كارامازوف» قالت له مازحة: «يا ليتك كنت مدعيًا عامًا! بخطابك هذا تنفي حتى الأبرياء إلى سيبيريا!».

وعندما أملى كلمة محامي الدفاع سألها رأيها فأجابته: «ليتك كنت محاميًا، فبوسعك أن تبيِّض صفحة أبشع المجرمين!»، إن هذا الموقف يشي بحقيقةٍ مفادها أنه كان في داخل دوستويفسكي دائمًا مدعٍ عام ومحامٍ لا ينفكان يتصارعان!

كيف تعايش دوستويفسكي مع ذاته؟

لقد عاش دوستويفسكي مع أسئلته الكبرى في حياة قلقة على الدوام، والكتابة لم تكن سوى مهرب ومحاولات للإجابة عن هذه الأسئلة، قبل أن يشرع في كتابة رواية الإخوة كارامازوف تحدث عن مشكلته مع الإيمان قائلًا: «هذه المشكلة التي عذبتني لا شعوريًا، وشعوريًا، وعن وعي طوال حياتي. سأبدأ قريبًا كتابة هذه الرواية، يكون فيها الكثير من الشخصيات والكثير من الأطفال».

لكنه لم يكن دائمًا بهذه القوة، لقد كان هذا الوعي الزائد بالأمور – كما يصفه – كارثيًا في بعض الأحيان، يقول على لسان بطله في رواية «الإنسان الصرصار»: «الإسراف في إدراك الأشياء والشعور بها مرض. الذكاء مشكلة، والتفكير مرض، وشدة الإدراك لعنة حقيقية. كل وعي مَرض. العطالة هي الثمرة الشرعية، الثمرة الطبيعية للوعي. إن جميع الرجال الفعالين إنما هم فعالون لأنهم غلاظ الفكر ليسوا على شيء من تفوق العقل»، لقد استطاع هنا وصف ذاته، لديه «إسرافٌ» في إدراك الأشياء، وهذا الإسراف مرض.

لم يكن دوستويفسكي قادرًا على الشعور بالانسجام الذاتي، لذا كتب مرةً إلى صديقه مائيكوف قائلًا: «إن أسوأ ما في الأمر أن طبيعتي خسيسة وشديدة الحماسة، وفي كل شيء، أذهب إلى الأطراف، وفي حياتي كلها تجاوزت كل اعتدال».

إن هذا الاعتراف على قصره يمكن أن يفسِّر التوتر الحاصل للقارئ في حال الدخول إلى عالمه الروائي، لقد عانى دوستويفسكي دائمًا من هذا الانفصال: كان يرغب في أن يكون إنسانًا صالحًا، لكنه كان غير قادر على غض الطرف عن «طبيعته الخسيسة»، ومن ناحية ثانية، فقد كان يتجاوز الاعتدال دائمًا، إذ كان ممكنًا أن يكون راسكولينكوف مجرد قاتلٍ للمرابية العجوز في رواية الجريمة والعقاب، لكنه رفض هذا التفسير، كانت الجريمة أعمق من قاتلٍ ومقتول، كانت عبارة عن سلسلة من الأسئلة التي لا تنتهي حول العدالة وتحققها، ومن هو المجرم الحقيقي.

وكان يمكن أن يكون قاتل الأب هو الابن غير الشرعي في رواية الإخوة كارامازوف، لكن دوستويفسكي تساءل عن دور إيفان المثقف الملحد الذي صرخ: «كل شيءٍ مباح» وألهم القاتل، أيهما القاتل الحقيقي؟ هذه هي أسئلة العدالة التي لا تنتهي، تمامًا كمغامرة المقامرة التي لا تنتهي بالإجابة: من كان يستحق الفوز؟

وفي اعتراف آخر يقرُّ به دوستويفسكي لصديقه ستراخوف يخبره بأن «انفعاليته وقمع هذه الانفعالية بعد نوبةٍ صرعية كانا راجعين إلى حقيقة أنه كان يبدو لنفسه مجرمًا، ولم يكن يستطيع أن يتخلص من شعوره بأنه يحمل عبء ذنب مجهول، بأنه ارتكب خطأً عظيمًا».

لم يتخلص دوستويفسكي في رواياته من هذه الدورة بين الانفعال وقمع الانفعال، هذه الدورة التي أوجد لها فرويد توصيفًا آخر، فسماها غريزة الهدم.

يرى فرويد أن حل التناقض القائم في شخصية دوستويفسكي بين كونها شخصية أخلاقية من جهة وشخصية آثمة من جهة أخرى «يكون عن طريق إدراكنا أن غريزة الهدم القوية عند دوستويفسكي، التي ربما كان يمكن أن تجعل منه – بسهولة – مجرمًا، كانت موجهةً في حياته الفعلية أساسًا ضد شخصه هو (إلى الداخل بدلًا من الخارج)»، وهكذا كانت الكتابة طريقته الوحيدة لقمع هذه التناقضات.

من هم أبطال روايات دوستويفسكي؟

إن أفضل توصيف لأبطال روايات دوستويفسكي هو توصيف نيقولا برديانف حين يقول إن دوستويفسكي «يتناول الفرد في لحظةٍ معينةٍ من مصيره تكون فيها دعائم وجوده قد انهارت جميعًا».

إن أبطال الأبله والمقامر والإخوة كارامازوف والإنسان الصرصار ينطبق عليهم هذا التوصيف تمامًا، إنهم إما مجرمون أو خاسرون أو لا مبالون أو غارقون في عدمية كئيبة.

هنري ترويا يفسر هذا الحشد العظيم للمجانين والسكارى والمجرمين في روايات دوستويفسكي من منظورٍ آخر قائم على التمييز بين المرض والصحة العقلية، فيقول إننا لا نشعر في الوهلة الأولى بأن هناك أي شيء مشترك بيننا وبين أولئك الذين يصفهم دوستويفسكي من المشردين والفوضويين والسكارى والمدمنين وأشباه القديسين وقتلة آبائهم والمصابين بالهستيريا. لم نلتق بهم يومًا في هذه الحياة، وسلوكنا المعتاد يختلف عن سلوكهم اختلافًا كاملًا، ومع ذلك فنحن نشعر بأنهم معروفون لنا، مألوفون عندنا على نحو سري عجيب. نفهمهم ونحبهم. بل إننا نتعرف على أنفسنا فيهم، كيف يمكن تحليل هذا التجاوب وهذا التعاطف معهم، ما داموا هم أشخاصًا مرضى، وما دمنا نحن أفرادًا أسوياء من حيث المبدأ؟ الحقيقة أن مجانين دوستويفسكي ليسوا مجانين إلى الحد الذي نتوهمه أول وهلة. كل ما هنالك أنهم ما لا نجرؤ أن نكونه! بحسب توريا.

من جانبٍ آخر، يمكن أن نفسر حضور هذا الكم من المجرمين والسكارى في رواياته بسببين؛ الأول: معايشته للمرضى في طفولته، وللمجرمين في تجربة نفيه، وللسكارى في شخصية والده، وهو ما انعكس على شخصيات روايته، والثاني يكمن في رغبته الملحة في معالجة القضايا الكبرى كالإيمان والإلحاد والعدالة وغيرها وهو ما استدعى أن يكون أبطاله استثنائيين؛ إذ ليس بإمكان الشخص العادي أن يكون نموذجًا للسؤال ولا الإجابة؛ فإنما تفحص قدرة الإجابات هذه الأسئلة على الإقناع في الظروف الاستثنائية، لا في الظروف العادية.

هل كان دوستويفسكي مؤمنًا بالمسيح أم متمردًا عليه؟

ربما لم يُثِر كاتبٌ الجدلَ حول هويته الدينية كما فعل دوستويفسكي، إذ من الطريف أن تجد بعض الدراسات التي ما زالت تقدم دوستويفسكي باعتباره أفضلَ أدب يقدم روح التعاليم المسيحية ويستلهمها، على سبيل المثال يرى آرنست جوردن مقدم كتاب «دوستويفسكي والله» أن الانتعاش الديني الراهن في الاتحاد السوفييتي يعود إلى حد كبير لدوستويفسكي والمعجبين الأوائل به. لقد قدَّم إسهامًا عظيمًا إلى المفكرين المسيحيين الذين كانوا وما زالوا قادة هذا الإصلاح الروحي.

ويرى جوردن أن البحث عن معنى الحياة في كتابات دوستويفسكي يتحول إلى قضية الإيمان باللَّه وليس قضية وجود اللَّه، لأن معرفة اللَّه ببساطة لا يمكن الهروب منها بحسبه، ويعني الإيمان باللَّه في الحقيقة الاعتراف به، لأنه هو اللَّه، الأصل الروحي لكل شيء كائن، لكن هناك هوَّة مطلقة بين اللَّه والإنسان. وهذه التي هي دون شك، بيان دوستويفسكي بإيمانه الديني العميق، بحسب جوردن.

ويدلل على هذا الرأي بما ورد على لسان إيفان الملحد، وأن إلحاده كان شكوكًا تهاوت في اعترافه أمام أخيه المؤمن أليوشا.

على عكس هذه النظرة يرى فاروق القاضي في كتابه «آفاق التمرد» أن دوستويفسكي تجاوز مرحلة التمرد الرومانسي في شخصية إيفان في رواية الإخوة كارامازوف، حيث وضع بحسب فاروق العدل في مرتبةٍ أعلى من الإيمان، إنه لا ينكر اللاهوت نكرانًا تامًا، بل يقتصر على رفضه باسم القيم الأخلاقية.

يقول إيفان بطل روايته الملحد: «إنني أؤمن بوجود نظام كوني شامل يضفي على الحياة معنى، وأؤمن بانسجام أبدي علينا أن نذوب فيه جميعًا ذات يوم فيما يبدو. أؤمن بالكلمة التي يتجه إليها الكون، الكلمة التي هي الله. ألا ترى هذا الرأي؟ ألا فاعلم إذًا الآن ختامًا لكل ما قلته أنني لا أقبل العالم على نحو ما خلقه الله، ولا أستطيع الموافقة على قبوله رغم علمي بوجوده. لست أرفض الله، ولكني أرفض العالم الذي خلقه ولا أريده».

يقول إيفان أيضًا: إنه في حاجة إلى عدل وإلا دمر نفسه. مؤكدًا أن هذا العالم الذي يطالب به لا يريده في لا نهاية لا يمكن الوصول إليها وفي أبدية تفوقه، وإنما يريد أن يراه على هذه الأرض، أن يراه بعينه. يقول: «لقد آمنت، وأريد أن أشهد انتصار الحقيقة. أنا امرؤ مؤمن، ولكن الأطفال.. ما ذنب الأطفال؟ كيف نبرر عذاب الأطفال؟ تلك مشكلة لا أجد لحلها سبيلًا».

لم يستطع دوستويفسكي إنكار وجود الله مطلقًا، لكنه ظلَّ غير قادر على الإيمان المطمئن في ذات الوقت، في رواية الشياطين يدور هذا الحوار بين الراوي مع كيريلوف:

«- فهذا الإله موجود إذن في رأيك؟

– ليس موجودًا، ولكنه موجود. إن الصخرة ليس فيها ألم، ولكن الألم هو في الخوف من الصخرة. الإله هو عذاب الخوف من الموت، فالإنسان الذي سينتصر على الألم والخوف، سيكون هو نفسه الإله، وسوف تبدأ عندئذٍ حياة جديدة، عندئذ سوف يظهر الإنسان الجديد، سيكون كل شيء جديدًا، وسوف يقسمون التاريخ عندئذ إلى عهدين: عهد يمتد من الغوريللا إلى انعدام الإله، وعهد يمتد من انعدام الله».

يعتبر الكثير من النقاد رواية الإخوة كارامازوف هي خلاصة أفكار دوستويفسكي حول الإيمان والله، وهي روايةٌ يجد فيها كل ضالٍ حجته: المؤمنون والملحدون معًا، فهناك من هاجم دوستويفسكي عقب نشرها بأنه «أصبح رجعيًا بتدينه»، لكنه رد مستاءً: «لا، لم أؤمن بالله ولم أعترف به كما يفعل طفل، وإنما وصلت إلى هذا الإيمان صاعدًا من الشك والإلحاد بمشقة كبيرة وعذاب أليم. وعلى كل حال، في الإخوة كارامازوف كل شيء».

إن هذه الكلمة الأخيرة «في الإخوة كارامازوف كل شيء» يمكن أن تتحول ببساطة في عقل دوستويفسكي إلى كلَّ شيء.

وربما أقرب تفسير لهذه الحالة من الإيمان والتشكك ما رآه فرويد حين قال إن دوستويفسكي كان يتذبذب بين الإيمان والإلحاد، وأن عقل العظيم قد جعل من المستحيل عليه أن يتغاضى عن أي من الصعاب العقلية التي يؤدي إليها الإيمان، لقد كان يأمل أن يجد مخرجًا وتحررًا من الذنب، بحسب فرويد.

لقد كان دائمًا لدى دوستويفسكي عقلٌ عظيم يمنعه من التسليم السهل، وروح طهورية تريد أن تتحرر من ذنوب متخيلة أو حقيقية، وكلاهما جعلاه عالمًا مليئًا بالأصوات، والروايات أيضًا.

آلاء السوسي