رأي اليوم
بقلم: تسفي برئيل
مهرجان القدس الذي جرى أمس في الجمعية العمومية للامم المتحدة أبقى اسرائيل مرة اخرى بدون عاصمة معترف بها. تهديدات ترامب وسفيرته في الامم المتحدة، نيكي هايلي، ليس فقط لم تكن لها فائدة، بل ألقت الادارة الامريكية في حفرة ضيقة يوجد فيها فقط مكان لمقاتلين: اسرائيل والولايات المتحدة. كان ذلك تصويت عالمي على عدم الثقة بالرئيس الامريكي، اسرائيل ستعاني من شظاياه في المرة القادمة عندما تريد تجنيد المجتمع الدولي لأي جهد مشترك ضد ايران أو أي عدو آخر. اذا كان هناك في السابق من قالوا إن اسرائيل ليست ذخرا بل عبئا استراتيجيا على الولايات المتحدة، فان التصويت أمس وضع الدولتان في نفس المستوى. لقد اصبحت كل واحدة منهما عبئا على الاخرى.
ولكن على الاقل هناك شيء واحد هام نجح في أن ينسي قليلا النضال الاهم في الامم المتحدة. الموعد المحدد، 12 كانون الاول، الذي كان يجب على الكونغرس الامريكي أن يقدم فيه مشروع قرار لفرض عقوبات جديدة على ايران، والذي مر وكأنه لم يكن. الآن بقي الانتظار حتى 15 كانون الثاني، الموعد القادم الذي يجب فيه على الرئيس أن يقرر اذا ما كان سيجدد العقوبات على ايران (التي تم رفعها في اطار الاتفاق النووي) وبذلك سيخرق الاتفاق أو أن يجدد الاعفاء المطلوب من اجل مواصلة تطبيقه.
يبدو أنه ليس فقط الجمعية العمومية سخرت من ترامب، بل ايضا الكونغرس الامريكي غير متسرع لأن يمسك حبة البطاطا الساخنة التي القاها عليه الرئيس في شهر تشرين الاول عندما رفض المصادقة على أن ايران تقوم بتنفيذ الاتفاق النووي. لو أن الكونغرس أراد دعم اسرائيل في الموضوع الهام جدا لأمنها فقد كان لديه وقت كاف لسن قانون مناسب في هذه الاشهر. ولكن يبدو أنه ليس فقط سحر ترامب، بل ايضا سحر نتنياهو، تبدد في تلة الكابتول. بدل فرض العقوبات على ايران، حصلت القدس على صفعة اخرى.
العداء الذي تطور بين روسيا والصين ودول الاتحاد الاوروبي وبين الولايات المتحدة بخصوص العقوبات تدفق الى التصويت على مكانة القدس وأحدث زخم سلبي كل اقتراح امريكي جديد فيه بشأن ايران من شأنه أن يواجه بمعارضة دولية. هذا ليس لأنه غير مناسب وغير مجد، بل فقط لأن ترامب هو الذي اقترحه. هنا يكمن ايضا خطر على اسرائيل.
من ناحية ايران (والدول العربية) لم يكن بالامكان أن يكون تصويت يجلب السرور اكثر رغم أنه تصويت اعلاني وغير ملزم. سياسة ايران الخارجية اعتمدت خلال عقود على القطبية في المواقف بين اوروبا وروسيا وبين الولايات المتحدة، الى حين وحد مجلس الامن بينهم عندما اتخذ قرار بشأن سلسلة عقوبات شديدة فرضت على ايران في الاعوام 2006 – 2012. على مدى تلك السنين جرت مفاوضات متواصلة وعقيمة بين ايران والوكالة الدولية للطاقة النووية. في تلك الفترة تبنت ايران سياسة “اقتصاد المقاومة” لتجاوز الازمة الاقتصادية الصعبة التي سببتها العقوبات، والتي مثلت اتفاق دولي واسع. فقط بعد انتخاب حسن روحاني رئيسا لايران، أعطى الزعيم الاعلى، علي خامنئي، الضوء الاخضر لاجراء المفاوضات مع الدول الخمسة دائمة العضوية زائد المانيا، من اجل التوصل الى اتفاق ينقذ ايران من الازمة. لقد أجريت مفاوضات سرية قبل ذلك بوساطة سلطان عُمان، ولكن لأن خامنئي اراد أن يحرم الرئيس السابق محمود احمدي نجاد من ثمار الاتفاق السياسية فقد انتظر الى حين الانتخابات.
جبهة داخلية، اقتصادية وعسكرية
رغم تأطير الاتفاق كانتصار للنظام وانجاز تاريخي للثورة الاسلامية، ورغم تأييد خامنئي الكامل للاتفاق والرئيس، فان انتقاد ايران للاتفاق لم يتوقف حتى الآن. “احتيال غربي”، “عدم الثقة بالولايات المتحدة المخادعة”، “ضعف القيادة الايرانية”، “تذكرة دخول الى الثقافة الغربية المعادية”، هذا فقط جزء من الاوصاف التي استقبلت الاتفاق في اوساط المحافظين والراديكاليين. ايضا الاصلاحيون خاب أملها من الاتفاق الذي حتى الآن لم يحدث، حسب رأيهم، أي تغيير حقيقي في اقتصاد الدولة أو في وضع حقوق الانسان.
ولكن في المستوى الاشمل، فان معطيات البنك الدولي تشير الى تحسن كبير في الاقتصاد الايراني. وهذه التحسينات تشمل هبوط التضخم الى أقل من 9 في المئة (مقابل 35 في المئة في 2013)، نمو بنسبة 9 في المئة (حسب معطيات النصف الاول من 2017)، ازدياد الناتج القومي، اجراء اصلاحات اقتصادية وفرت مليارات الدولارات كانت تدفع للدعم، وتجارة دولية رفعت مداخيل الدولة وساعدت على استقرار ميزانها التجاري بفائض يزيد على 30 مليار دولار. هذا الازدهار اعتمد على تعاون اقتصادي مع دول كثيرة مثل كوريا الجنوبية التي وقعت في شهر آب على مذكرة تفاهم للاستثمار بمبلغ 8 مليارات يورو، وشركة القطارات الايطالية الحكومية، وهي شركة استشارية لوزارة المواصلات الايرانية، ويتوقع أن تستثمر 1.2 مليار يورو، والصين التي وقعت على مذكرات تفاهم لانشاء بنية تحتية بمبلغ أكثر من 25 مليار دولار، ايضا التجارة مع الاتحاد الاوروبي تضاعفت في السنة الاخيرة ووصلت الى أكثر من 10 مليارات دولار.
كل ذلك ينشيء سور دفاعي أمام فرض عقوبات جديدة على ايران، على الاقل من جانب دول عدا عن الولايات المتحدة. وزيرة خارجية الاتحاد الاوروبي، كانت الاولى التي اوضحت لترامب بأنه “لا يمكن لأي دولة لوحدها الغاء الاتفاق النووي”، أي أنه لو ارادت الولايات المتحدة الانسحاب أو افشال الاتفاق من خلال فرض العقوبات، فان اوروبا لن تنضم اليها. لا توجد حاجة لاضافة أن روسيا والصين لا تنويان الخضوع لسياسة ترامب.
الى جانب النمو الاقتصادي الدراماتيكي تنضم انجازات ايران في السياسة الخارجية. إن انتعاش النظام في سوريا ومشاركة ايران في كل العمليات السياسية التي تواكب اقتراحات الحل للحرب، وتأثيرها الاقتصادي والسياسي في العراق، وفشل السعودية في حسم الحرب في اليمن، والتحطم السياسي في لبنان، كل ذلك حول ايران الى دولة عظمى اقليمية، اهميتها تكمن في قدرتها على تحديد خطوات استراتيجية ايضا في الدول التي لا تشارك عسكريا في القتال. هي تنسب لنفسها طرد داعش من العراق بفضل 44 مليشيا مؤيدة لايران تعمل في العراق. هذا في الوقت الذي نقلت فيه الولايات المتحدة الى العراق مساعدة بلغت 5.3 مليار دولار. لهذه المليشيات توجد صحف وقنوات تلفاز خاصة بها، وجزء منها تم ضمه للجيش العراقي، والاعضاء فيها يحصلون على الرواتب من الدولة. مقاتلو المليشيات الافغانية في سوريا يحصلون على راتب يبلغ 700 دولار شهريا. وهناك جنسية ايرانية مضمونة لهم.
توجد لايران علاقة قوية مع تركيا وقطر وحتى مع دولة اتحاد الامارات الشريكة للسعودية في الجهود لكبح نفوذها في المنطقة. مؤخرا استضاف رئيس اركان جيش الباكستان، الذي أعلن أن نية بلاده توسيع التعاون مع ايران. وهي تسعى لانشاء محور اقتصادي ايراني – باكستاني – صيني، يمكن أن تنضم اليه ايضا الهند، التي رئيس حكومتها هو صديق مقرب لنتنياهو. هذه العلاقات مع دول وسط آسيا تشكل الجبهة الداخلية الاقتصادية والعسكرية لايران. في حالة نجاح الرئيس ترامب في فرض عقوبات عليها، وفي الحالة غير الواقعية الآن، التي فيها دول الاتحاد الاوروبي تقتنع بالانضمام، وبذلك الغاء الاتفاق النووي.
توقعات متشائمة
في مقابل هذه النجاحات تجد الحكومة صعوبة في اقناع الجمهور بأنه ينتظره مستقبل اقتصادي افضل في اعقاب الاتفاق. نسبة البطالة، 12 في المئة، التي ترفض التقلص، البطء الذي تقام به مصانع جديدة، والتي تحتاج الى أيدي عاملة كبيرة، غلاء المعيشة وتقليص الدعم، تنفخ على الجمر المتقد الذي يهدد نظام روحاني. رفع اسعار رسوم الخروج من 20 الى 60 دولار اصبح يثير الخلاف والغضب العام، على خلفية حقيقة أن أكثر من 9 ملايين ايراني يسافرون الى الخارج كل سنة. في بحث نشر مؤخرا من قبل معهد “كارنجي” الامريكي تمت الاشارة الى فشل ادارة اجهزة الرفاه والتأمين الوطني واستغلال قوة العمل المؤهلة في ايران.
اكثر من 150 ألف مواطن ايراني يهاجرون كل سنة، معظمهم مثقفون اكاديميون. سياسة تقليص الولادات التي اعلن عنها في نهاية الثمانينيات نجحت في خفض متوسط الولادات في العائلة من خمسة الى ولدين. تغيير السياسات قبل حوالي سبع سنوات، الذي تضمن وقف التوزيع المجاني لوسائل منع الحمل، اغلاق مراكز الارشاد للنساء وخفض سن الزواج للنساء، لم يغير حتى الآن نسبة التكاثر الطبيعي التي انخفضت من 4 في المئة الى 1 في المئة. نتيجة لذلك يتوقع أن يمر السكان في ايران بثورة عمرية بعد نحو عقدين. وواحد من كل خمسة مواطنين سيكون في سن التقاعد. وزارة المالية الايرانية لم تبدأ بعد الاستعداد للتغيير المتوقع. والحكومة هي التي تغطي في هذه الاثناء اكثر من ثلثي دفعات التقاعد. الثلث المتبقي يدفع من قبل شركات التأمين الاجتماعي.
هذه التوقعات المتشائمة تجبر ايران على زيادة مداخيلها بصورة كبيرة، واجبار العمال على تخصيص جزء اكبر للتأمين الاجتماعي. هذه العمليات الديمغرافية يمكن أن تشكل ضمانة لتمسك ايران بالاتفاق، وهكذا اذا انتهى سريان الجزء العملي للاتفاق النووي بعد اقل من عقد، والرقابة على المشروع النووي ستستمر حتى 2030 على الاقل، فمن المشكوك فيه أن ايران سترغب في التخلي عن الاتفاق الذي يمكنها الآن من تخطيط اقتصادي بعيد المدى. العقوبات يمكنها دائما أن تشكل تهديدا، لكن هناك شك اذا كانت هذه ستكون مطلوبة ازاء التطورات الداخلية في ايران.