ظلت المساجد دون غيرها من المعمار الإسلامي، محل اهتمام المعماري المسلم، إذ أبدع في بنائها وتصميمها وزخرفتها، ومنحها أجمل وأفضل ما توصل له من الفنون.

وهذا ما نراه في نموذج معماري فريد من نوعه في مصر وتونس، يظهر في بناء المآذن متعددة الرؤوس في المسجد الواحد.

وظائف عدة

أوضح المهندس يحيى وزيري في كتابه “موسوعة عناصر العمارة الإسلامية“، أن المآذن أو المنارات، لم تكن تُستخدم فقط للإعلان عن وقت دخول الصلاة فقط؛ بل كانت تُضاء بالمشاعل ليلاً للإعلام بمكان المسجد أو التنبيه لوجود عدو.

المآذن المتعددة.. إبداع معماري

قال الدكتور مختار الكسباني، أستاذ الآثار الإسلامية والقبطية، لـ”هاف بوست عربي”، إن المآذن متعددة الرؤوس تصميم معماري نتج من إتاحة الفرصة للمعماري المسلم للإبداع، وتوظيف الفنون الإسلامية بشكل مبتكر، وقد لاقي هذا الشكل استحسان الكثير من الحكام وعامة المسلمين.

وأضاف أن هذا النوع من المآذن ظل فترة من الزمن ثم اختفي، متابعاً أن المساجد التي لها مآذن متعددة الرؤوس موجودة في مساجد: الأزهر، وقاني باى الرماح، والسلطان الغوري، ومحمد بك أبو الدهب.

مدرسة السلطان حسن.. كانت البداية

أقدم مئذنة متعددة الرؤوس عرفتها مصر، تعود إلى مدرسة السلطان حسن بن قلاوون، حسبما أوضح ابن كثير في كتابه “البداية والنهاية“، عندما سجل أحداث سنة 762هـ، قائلاً: “وبلغنا أنه في هذا الشهر، سقطت المنارة التي بُنيت للمدرسة السلطانية بمصر، وكانت مستجدّة على صفة غريبة، وذلك أنها منارتان على أصل واحد فوق قبة الباب للمدرسة المذكورة”، وهذا النص يوضح أن مدرسة السلطان حسن أول مبنى شُيّد به مئذنة برأسين.

أشكال المآذن المتعددة

مع بداية العصر المملوكي الجركسي حتى العصر العثماني، عرفت المساجد في مصر 3 أشكال من المآذن متعددة الرؤوس، وهي ذات الرأسين، والأربعة، والخمسة.

“ويرجع الاهتمام بهذا الشكل من المآذن إلى رغبة أصحاب تلك المساجد في التميز والتفرد عن باقي المساجد التي شُيّدت قبلهم”، حسبما قال الكسباني.

وفيما يلي توضيح للمساجد التي عرفت ظاهرة المآذن متعددة الرؤوس في مصر

فنجد المآذن ذات الرأسين المنفصلين على بدن واحد، والتي تعلو واجهة الجامع الأزهر، وهي مئذنة فريدة بين مآذن مصر، وقد شيدها السلطان الغوري آخر سلاطين دولة المماليك الجراكسة سنة 920هـ/1514م، حسبما أوردت الدكتورة سعاد ماهر في كتابها “مساجد مصر وأولياؤها الصالحون- 197/1”.

s
وأيضاً، في مدرسة قاني باي الرمّاح، والتي شيّدها أمير أخور كبير الرماح مملوك قايتباي، قرب ميدان صلاح الدين، وفرغ منها عام 911 هـ، والتي تمتاز مئذنتها بأنها تتكون من طابقين؛ الأول مربع الشكل وفي كل ضلع نافذة صغيرة، والثاني مربع كذلك زُخرف كل ضلع منه بثلاث فتحات في الوسط للإضاءة، ويعلو المئذنة رأسان مستطيلان، فوق كل منهما صفان من الدلّايات، والتي تنتهي بشكل قُلّة يعلوها الهلال، وتعد أقدم مئذنة مزدوجة ما زالت قائمة حتى الآن، حسبما أوضحت الدكتورة سعاد ماهر في كتابها 328/4.

s
أما النموذج الثاني، فهو المآذن ذات الرؤوس الأربعة المنفصلة، وظهرت فقط في مدرسة السلطان قانصوه الغوري، والتي ذكرها حسن عبد الوهاب في كتابه “تاريخ المساجد الأثرية“، قائلاً: “إن منارته لها 4 رؤوس، ثم حصل خلل وميل، أدى إلى سقوطها؛ بسبب ثقل علوها؛ لكونها تشتمل على 4 رؤوس فأمر السلطان بهدمها، فلما أعاد بناءها استبدل الرؤوس الأربعة باثنين”.

وأخيراً، المآذن ذات الرؤوس الخمسة المنفصلة، وتلك نجدها في مئذنة مدرسة السلطان قانصوه الغوري، في شارع المعز لدين الله، والتي شُيّدت عام 908هـ.

وتتكون المئذنة من 3 طوابق، كل منها مربّع الشكل، ويعلو الطابق الثالث 5 رؤوس كمثرية الشكل من الخشب، ويعلو كل منها هلال من النحاس، كما أوضحت الدكتورة سعاد ماهر.

s
على بُعد خطوات من جامع الأزهر الشريف، يوجد مسجد محمد أبو الدهب، المشيَّد عام 1188هـ، ويمتاز بمئذنة ذات 5 رؤوس.

الرؤية الدينية للمآذن متعددة الرؤوس

هذا الطراز المعماري للمآذن في مصر، ربما لا يخلو من دلالة دينية، والتي توضح فكرة التوأمة أو الثنائية التي تجمع بين عنصرين متماثلين ومتشابهين ومتجاورين، حسبما أورد الدكتور محمد الكحلاوي، في بحث “التماثل والاتزان في العمارة الإسلامية”، بمجلة الاتحاد العام للأثريين العرب.

وأوضح أن المآذن ثنائية الرأس ترتبط بظاهرة تكرار كل جملة في الآذان مرتين، أو بلفظ الشهادتين “أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمد رسول الله”، أو تعاقب الليل والنهار، أو الدنيا والآخرة.

أما المآذن ذات الرؤوس الأربعة، فهي تعبر عن فكرة تعدد المذاهب في الإسلام، والتي يُعد من أشهرها مذاهب (أبي حنيفة، ومالك، والشافعي، وابن حنبل).

وأشار إلى أن شكل المآذن ذات الرؤوس الخمسة، ربما يرتبط برفع الآذان 5 مرات في اليوم من أعلى المئذنة، ثم تأدية الصلوات الخمس، أو قد تعبر عن أركان الإسلام الخمسة.

ويتضح أن ظهور هذه الأشكال من المآذن يرجع إلى الرؤية المعمارية والفنية للمعماري المسلم، والتي قد تحمل أكثر من معنى وهدف، ولكنها تؤكد قدرته على الإبداع.