"يابنى كونا للظالم خصما و للمظلوم عونا"..الإمام علي (عليه السلام)

المجتمع الإسرائيلي من الداخل: التركيبة السُكَّانية والانقسامات الداخلية

تعتبر أحد أهم عوامل تقييم مُدرِّب كرة القدم هو قدرته على التعامل وفهم الفرق والخصوم المختلفة، ولن يستطيع عمل ذلك إلا بمشاهدتهم ومشاهدة مبارياتهم السابقة، والتعرُّف على لاعبي الفريق الآخر والنادي الخصم بشكل عام. كذلك هو الحال في أي صراع أو سباق، عليك أن تفهم الخصم أولًا؛ وذلك حتى تتمكن من التعامل معه جيدًا. وما بين صراعاتٍ عديدةٍ تدخلها الدول العربية سواء ضد الغرب بشكل عام، أو ضد ما يُعرف بتنظيم الدولة في العراق والشام.. يبقى الصراع العربي الإسرائيلي أحد أبرز الصراعات التي ما زال يخوضها العرب منذ القرن الماضي إلى يومنا هذا. ولذلك نقدِّم لك هذا التقرير الذي يُلقي نظرةً عامَّة على المجتمع الإسرائيلي من الداخل؛ عن تكوينه وتركيبة سكانه، والانقسامات والصراعات الداخلية بين الأطراف المختلفة، بالإضافة إلى تسليط الضوء على أزمة الهُوية التي تعتبر أحد أبرز سمات المجتمع الإسرائيلي.

ممن يتكون المجتمع الإسرائيلي؟ وكيف أصبح بشكله الحالي؟

منذ اعلان دولة إسرائيل في الرابع عشر من مايو (أيار) من عام 1948.. سيطر اليهود القادمون من أوروبا الشرقية «الأشكناز» على مقاليدها، والتي مُثلت لاحقًا بحزب العمل، ذي التوجه الاشتراكي. وبدأت التحولات على الساحة السياسية الإسرائيلية منذ حرب 1967، وتسارعت وتيرة هذه التحولات مع حرب أكتوبر (تشرين الأول) عام 1973، حتى وصلنا إلى نقطة التحول الكبرى التي أدت إلى تغيير كبير في تركيبة وشكل المجتمع الاسرائيلي وهو ما عُرف لاحقًا بالانقلاب السياسي الذي حدث عام 1977. ويُقصد بالانقلاب السياسي فوز «حزب الليكود اليميني» بالانتخابات البرلمانية، وفرض سيطرته على الحكم، وذلك بعد تأسيسه بأربع سنوات فقط. ومن هنا بدأت مرحلة جديدة في تاريخ إسرائيل من ناحية التغير في التركيب الاجتماعي، وطبقاته، وفي علاقة الجماعات المختلفة ببعضها البعض أو علاقتها بالدولة.

وأتت هذه التحولات الداخلية التي أحدثها الانقلاب السياسي في إسرائيل بالتزامن مع تغيُّراتٍ خارجية أيضًا، خاصةً في ظل انهيار الاتحاد السوفيتي، وظهور العولمة الاقتصادية والثقافية على الساحة العالمية، فضلًا عن الأوضاع في الضفة الغربية وقطاع غزَّة بالانتفاضة الأولى 1987 والانتفاضة الثانية 2000. ويمكننا أن نجزم أن هذه التحولات خلقت مجتمعًا جديدًا مختلف تمامًا عن سابقه الذي عُرف منذ قيام الدولة وحتى الثمانينيات من القرن الماضي.

ويعتمد المجتمع الاسرائيلي في تركيبته بشكل أساسي على المهاجرين اليهود القادمين من أي دولة في العالم؛ فيتكون المجتمع من أربعة أنواع من المواطنين، جاءوا عن طريق سبل اكتساب الجنسية الإسرائيلية الأربعة؛ الهجرة إلى إسرائيل، والإقامة، والولادة، وأخيرًا التجنُّس. وتعتبر الهجرة هي أحد أهم عوامل تشكيل المجتمع الإسرائيلي، حيث تعتبر إسرائيل إلى يومنا هذا مجتمع مهاجرين. ومع أن جذور هجرة اليهود إلى فلسطين تعود إلى أواخر عهد الحكم العثماني (1882-1914).. إلا أن أعداد المهاجرين في هذه الفترة كان ضئيلًا جدًا. ولكن بعد إعلان قيام الدولة.. ساهمت الهجرة مع الوقت في ارتفاع عدد سكان إسرائيل بنسبة 40%.

ما هو الأساس القانوني للهجرة والتجنُّس؟

وعن الأساس القانوني الذي تُمنح به الجنسية الإسرائيلية؛ فهناك قانونان أساسيان تتخذهم الدولة لهذا الشأن؛ قانون العودة عام 1950، وقانون الجنسية عام 1952. فيمنح قانون العودة كل يهودي في أي مكان في العالم الحق في القدوم إلى إسرائيل كمهاجر ليصبح مواطنًا إسرائيليًا. ويركِّز هذا القانون أكثر على المنشأ، أي الانتماء الإثني اليهودي، كما لا يعطي اهتمامًا مماثلًا للجغرافيا، أي الوطن الذي عاش فيه هؤلاء المهاجرين طول سنوات عمرهم قبل الهجرة إلى إسرائيل.

وبين الجدل الذي دار لاحقًا حول أزمة تعريف اليهودي أو قضية «من هو اليهودي؟»، وبالرغم من وجود مذاهب متعددة في اليهودية، وقد لا يعترف أحدهم بآخرين، إلَّا أن القانون لم يستثن أي مذاهب لليهودية؛ حيث يسري هذا القانون على من ولدوا يهودًا (أي أبناء اليهودية أو أحفاد اليهودية من طرف الأم)، ومنهم من أصول يهودية (أي أبناء وأحفاد اليهودي)، ومعتنقي اليهودية؛ سواء كانوا من اليهود الأرثودكس أو المحافظين أو الإصلاحيين. غير أن تعديل القانون لعام 1970 جاء ليضع تعريفًا لليهودي وهو: «من وُلد لأم يهودية أو تهوَّد ولا ينتمي لدين آخر».

كما أن تعديل القانون أدى إلى توسيع إطار الهجرة في إسرئيل؛ فمُنح حق الهجرة للذرية غير اليهودية التي تنتمي إلى أصل يهودي حتى الجيل الثالث. كما أنه منح حق العودة أيضًا لمن هم أبناء/أحفاد/أزواج/زوجات ليهودًا حتى لو لم يعتنقوا نفسهم الديانة اليهودية، فضلًا عن أزواج وزوجات الأبناء والأحفاد. وقد سمح هذا القانون بهجرة مئات الآلاف من غير اليهود إلى إسرائيل، وما زال يزيد عددهم يومًا بعد يوم ليشكل حوالي 25% من إجمالي السكان، وذلك طبقًا لاحصائيات المكتب المركزي الإسرائيلي للاحصائيات عام 2013.

ويرتبط قانون العودة 1950 بقانون الجنسية الصادر عام 1952، والذي عُدِّل لاحقًا عام 1980، وينص على أنه يمكن منح الجنسية الإسرائيلية عن طريق الإقامة، وذلك بعد استيفاء شروط معينة هدفت إلى حرمان الفلسطينيين الذين تم تهجيرهم من أرضهم على خلفية حرب 1948 من حق الإقامة بالبلد، كان أبرز هذه الشروط التنازل عن الجنسية الفلسطينية.

«من هو اليهودي؟».. أزمة الهُوية في المجتمع الإسرائيلي

تهتم الدولة الإسرائيلية بالهجرة أكثر من اهتمامها بأي مكوِّن آخر للمجتمع الإسرئيلي؛ فتقوم باتخاذ سياسات استيعابية للمهاجرين مما يجعلهم يشعرون بنوعٍ من التقدير من الدولة المهاجَر إليها، ويشعرون حقًا أنهم يعودون إلى وطنهم حقًا؛ وطن الديانة اليهودية، حتى ولو كانوا من دول/خلفيات مختلفة عن إسرائيل، خصوصًا أنهم يحصلون على الجنسية منذ لحظة وصولهم.

وترتبط الهجرة في إسرائيل بأزمة الهُوية؛ فبقدر اهتمام الدولة الإسرائيلية بالهجرة، يجب عليها أن تعمل على خلق فرص لتشكيل وتحويل هُوية هؤلاء المهاجرين القادمين من خلفيات مختلفة، أو جعل الدولة الإسرائيلية والحركة الصهيونية هي المرجع الأساسي لهم في كل شئ، أو ما عُرف لاحقًا باسم «بوتقة الصهر» التي ينصهر فيها كل ما هو مختلف وغير متجانس، لتنتج في النهاية مجتمعًا متجانسًا ذي ثقافة وهُوية موحدة، حتى لو كانت أساسياته مختلفة تمامًا عن بعضها البعض، بحيث يترك المهاجرون ثقافاتهم المختلفة، ويندمجون في الثقافة السائدة في البلد. ولذلك تتخذ سياسات استيعابية تعمل فيها على بلورة الفرص، واستيعاب المهاجرين. ومن أمثلة هذه السياسات.. المساهمة المادية في شراء المسكن، تعليم اللغة العبرية، التأهيل المهني، العمل والإعفاء من الضرائب.

وعمليًا.. قد تتخذ الدولة الإسرائيلية تدابيرًا عنصرية في كثيرٍ من الأحيان.. فمثلًا بالمقارنة بين حالة يهود الفلاشا أي المهاجرين اليهود ذوي الأصول الإثيوبية، وبين حالة المهاجرين اليهود السوفيت، الذين انضموا إلى إسرائيل في مرحلة ما بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، نجد أن الدولة قامت باتخاذ تدابير عنصرية مع يهود الفلاشا؛ فقامت بعزلهم عن باقي المجتمع بحجة الأمن، بالإضافة إلى العنصرية في التعامل، والوظائف الحكومية، والخدمات المقدمة لهم. وعلى النقيض تمامًا.. نجد أن حالة اليهود السوفيت اتخذت فيها الدولة تدابيرًا استيعابية أكثر وذلك من أجل الاستفادة من القدرات العلمية والعملية من اليهود السوفيت. وبالطبع نتيجةً لذلك لن يكون هناك انتماءً/هُويةً لهؤلاء الفلاشا، وعلى العكس أصبح السوفيت الأسرع في عملية الاندماج في المجتمع. وكما هو يبدو.. نستطيع أن نستنتج أن المجتمع الإسرائيلي عنصري، وبلا هُوية محددة، ولا تمارس الدولة أعمالًا تؤهل حقًا لتوحيد الهُوية الإسرائيلية، خاصةً في ظل عدم وجود إجابة محددة ومتماسكة وشاملة على سؤال «من هو اليهودي؟»

«الصراعات» والانقسامات الداخلية في المجتمع الإسرائيلي

يعاني المجتمع الإسرائيلي من عدد من الصراعات والانقسامات الداخلية، خاصةً في ظل قرب اختفاء اليسار الإسرائيلي من الساحة السياسية؛ حيث ظهرت بوادر تحول النظام السياسي الإسرائيلي إلى نظام يميني عنصري. فموجة العنصرية والتعصب أصابت مفاصل مهمة في المجتمع الإسرائيلي، سواء عبر الفتاوى الدينية أو القرارات والقوانين الحكومية.

وتتعدد أشكال الصراع الدلخلي في المجتمع الإسرائيلي؛ ولعل الأصل في كل هذا يكمن في عدم وجودخلفية وهُوية موحدة تجمع المواطنين في بوتقة واحدة كما تم ذكره في هذا التقرير؛ فهو مجتمع منقسم بين يهود غربيين«الأشكناز»،ويهود شرقيين«السفارديم» وما بينهما من صراع يمتد منذ تأسيس الدولة الإسرائيلية.وهناك المتدينون«حريديم» والعلمانيون، وما بينهما من عداء أيديولوجي قديم أيضًا. وهناك اليهود الروس واليهود «الفالاشا» القادمون من أثيوبيا، وهناك الصراع التاريخي المعروف بين أية مجموعة من اليسار واليمين والوسط واليمين المتطرف. وهناك الفقراء والأغنياء الذين تتزايد الفجوة الاجتماعية بينهم على نحو متسارع.

فمع قرب اختفاء اليسار الإسرائيلي، وسيطرة اليمين الإسرائيلي على الحياة السياسيىة، نجد استطلاعًا للرأي في13مارس (آذار( عام 2011، أجراه معهد داحاف الإسرائيلي، أظهر ارتفاع نسبة العنصرية والتطرف في أوساط الشبان الإسرائيليين، ولاسيما حيال العرب؛ حيث إن 23% منهم يؤمنون أن الانقسام الحاصل بين المتدينين والعلمانيين هو التهديد الأكبر لإسرائيل إذ أكدت نتائج الاستطلاع ارتفاع نسبة من يعتبرون أنفسهم يمينيين، من 48% في 1998 إلى62% في 2010. وفي المقابل،تراجعت نسبة اليسار في المجتمع إلى12% فقط.

وما بين الأزمة الوجودية التي يواجهها المجتمع بسبب الدولة، حول ما إن كانت دولة مدنية علمانية قائمة على المواطنة، أم دولة دينية قائمة على أساس التجمع اليهودي وتحكمها الشريعة اليهودية. ويمكننا ترجمة الصراع والانقسام بين المتدينيين والعلمانيين فيما يخص قوانين الأحوال المدنية، حيث تظهر سيطرة كاسحة للمتدينين، وذلك منذ انتخابات «الكنسيت» عام 2009 عندما فاز باليمين بأغلبيته. مما أدى إلى اعتماد عدد من القوانين العنصرية التي تترجم سيطرة اليمين المتدين في الدولة والمجتمع. ما دفع «جيرالد شتينبرغ»، رئيس برنامج إدارة الصراعات والمحادثات في جامعة بارإيلان، للتصريح بـ«إن أكثر الناس تفاؤلًا بيننا يعترف بأن التخلص من الحقد وهوة الجهل التي تفصل الحريديم والعلمانيين، تحتاج إلى سنين طويلة.. ونحن نعرف أنه ليس هناك تحد أعظم من هذا يواجه إسرائيل والإسرائيليين في الخمسين سنة القادمة».

أمَّا الصراع بين الأشكناز والسفارديم فهو صراع أيديولوجي طبقي بين يهود الغرب، ويهود الشرق؛ حيث إن الأشكيناز هم الطبقة العليا في إسرائيل، التي تتمتع هذه بالغنى والهيمنة على المؤسسات السياسية والاجتماعية، والأكثر حصولًا على الأجور المرتفعة. وكانت غالبية حكماء الصهيونية، الذين حضروا المؤتمر الصهويني الأول، من الأشكناز، الذين يعتقد بأنهم هم من وضعوا بروتوكولات حكماء صهيون.

أمَّا اليهود السفاريم، وهم اليهود الشرقيون أو يهود الشرق الأوسط الذين جاءوا من الشرق والدول العربية والعالم الثالث بشكل عام. ويعتبر السفارديم هم الطبقة الدنيا داخل المجتمع الإسرائيلي، وهي الطبقة التي لا تملك سوى الفقر وتوابعه، كما أن أصحابها يعملون في المهن الشاقة، ويتقاضون رواتب أقل بكثير من الأشكيناز.

من هنا يمكننا القول بأن المجتمع الإسرائيلي مجتمع عنصري تغذي عنصرية تلك طبقيَّة متشابكة ومركبة للغاية، وبما أن اليهود الأشكناز هم من وصلوا فلسطين أولًا، فقد وضعوا أساس الدولة على غرار المجتمعات الأوربية التي عاشوا فيها، وهذا جعلهم يشعرون بأنهم أرقى من اليهود الشرقيين، وتحول الأمر بعد ذلك لصراع بين الطبقتين، اتخذ عددًا من أشكال العنف والفصل العنصري.

ساسة بوست